اليمين الألماني المتطرف خطر متصاعد

تعززه حماسة أميركية للتشدد

مظاهرات اليمين المتطرف في كيمنتس الألمانية («الشرق الأوسط»)
مظاهرات اليمين المتطرف في كيمنتس الألمانية («الشرق الأوسط»)
TT

اليمين الألماني المتطرف خطر متصاعد

مظاهرات اليمين المتطرف في كيمنتس الألمانية («الشرق الأوسط»)
مظاهرات اليمين المتطرف في كيمنتس الألمانية («الشرق الأوسط»)

ما نشهده في الداخل الألماني من نماذج الأصولية النازية الألمانية، إن جاز لنا أن نطلق هذا التوصيف، خطر ومهدد كبير على بقية الدول الأوروبية... وثمة من يرى أن الأصوات الأميركية المتطرفة لدعم هذا التيار الألماني - الأوروبي، سيعيد سيرة التطرف النازي في النصف الأول من القرن العشرين، زمن الفوهرر أدولف هتلر ورفاقه.
الكثير من التساؤلات الجدية والجذرية باتت مطروحة على ساحة ومائدة النقاش، ولا سيما بعد ما جرى الأيام القليلة الفائتة في مدينة كيمنتس الألمانية، حيث نزل إلى الشوارع آلاف عدة من مواطنيها، ملوحين بالأعلام الألمانية ومؤدين التحية النازية، وهي خطوة يعاقب عليها القانون الألماني بالحبس، ومطاردين للمارة من أصحاب البشرة الداكنة، ورغم ذلك وقف رجال الشرطة عاجزين عن التدخل في المشهد لقلة عددهم، وخوفاً من الاشتباك معهم.
لعل الكارثة في مشهد «التطرف الألماني» الجديد، هو أن المتطرفين من «النازيين الجدد»، يوشكون أن يغيروا من شكل الخريطة السياسية للبلاد، بمطالبتهم بإسقاط النظام الألماني الحالي، الذي يصفونه بأنه «فاشل»، ويزعمون أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، قد فقدت السيطرة على الموقف، وإن جُلّ ما تحاول القيام به هو السيطرة على ردود الفعل المناهضة للمهاجرين، التي لم تكن معلنة من قبل.
في ضوء هذا، ثمة من يتخوف من عودة ألمانيا التي عرفت جيداً أكلاف التطرف النازي من قبل في الطريق ثانية إلى إعادة سيرتها الأولى.
بحسب عدد من المحللين السياسيين، تمثل مواجهة هذا اليمين المتطرف اختباراً لسلطة الدولة، التي باتت الديمقراطية فيها في محنة هي الأولى من نوعها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى أيامنا؛ ولهذا كان من الطبيعي أن تصرح عمدة المدينة، والمنتسبة إلى الحزب الديمقراطي الاجتماعي الاشتراكي، بربارا لودفيغ «بأنهم يهاجمون دولتنا الديمقراطية بأسلوب لم يفعلوه من قبل... لا بد أن نجتاز هذا الاختبار».
ويحتاج المشهد الألماني إلى علماء النفس الاجتماعي قبل المحللين السياسيين لشرحه وتحليله؛ ذلك أن التذرع بأن المهاجرين قد اختصموا من الأوضاع الاقتصادية للبلاد غير حقيقي، ولا سيما أن الاقتصاد الألماني صاعد إلى أعلى عليين في السماء، بل إن الأيدي العاملة من المهاجرين، قد أضافت بالإيجاب للناتج القومي الإجمالي الألماني، وهذا ما يعمّق الأزمة ويضعها في إطار صحوة الأصوليات الأوروبية الضارة.
يمكن القطع بأن «حزب البديل من أجل ألمانيا» شكّل النواة التي تستقطب إليها بقية الأصوات التي لديها ميول قومية وشوفينية ساكنة تحت الجلد الألماني، ولا تزال تؤمن بشعارات هتلر عن الجنس الآري، وألمانيا فوق الجميع.
والمعروف أن «حزب البديل من أجل ألمانيا» قد حصل على 27 في المائة في ولاية ساكسونيا الشرقية، حيث توجد مدينة كيمنتس، وذلك خلال الانتخابات الوطنية في العام الماضي، وبمقتضى ذلك النجاح تمكن نشطاء اليمين المتطرف من توجيه مخاوف وغضب الناخبين باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وكذا تعبئة الحشود.
يلفت النظر هنا أمر ما، ذلك أن حزب البديل هذا يحاول جاهداً أن يرسم لنفسه إطاراً خارج حدود التطرف النازي، ويؤكد أن لا صلة له بتلك المجموعات، غير أن أحداث كيمنتس الأخيرة تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن هناك علاقة تكافلية ما بين النازيين الجدد وبين حزب البديل من أجل ألمانيا.
ولم يكن الأمر ليفوت على السياسيين الألمان المحنكين؛ ولهذا دعا نائب رئيس البرلمان الألماني - هيئة حماية الدستور - للبحث في العلاقة بين النازيين الجدد وحزب البديل الشعبوى.
وفى تصريحاته له يؤكد توماس أوبرمان، على أن قضية اللاجئين تحدث انقساماً في المجتمع الألماني، بينما حزب البديل يلعب وبتطرف مطرد على هذه الموجة؛ ما يعني نقله للأزمة إلى الشارع، موضحاً أن «دولة القانون لا يمكن أن تتسامح مع هذا العنف في الشوارع، وبخاصة في ظل مسحته العنصرية تلك، ويجب أن ترد على ذلك بكل صرامة».
الذين تعي ذاكرتهم مشاهد ما حدث في ألمانيا قبل نحو ثلاثة عقود يتذكرون جيداً أن تلك المظاهرات والمسيرات نظمت من أجل القانون والنظام والديمقراطية وحرية التعبير، ورفضاً للشيوعية، التي كانت جاثمة على صدر ألمانيا الشرقية بنوع خاص، ناهيك عن بقية دول أوروبا الشرقية، الواقعة تحت نفوذ الستار الحديدي للاتحاد السوفياتي، لكن الذي يتطلع إليه «النازيون الجدد»، هو شيء مغاير تماماً إنهم يسعون، والحديث لعمدة مدينة كيمنتس، إلى تقويض مؤسسات الدولة، وإثارة ديماجوجية خطيرة بين صفوف الألمان بسبب جريمة قتل شاب ألماني.
في هذا السياق، يتأمل المرء شعارات مسيرات اليمين القومي تهتف بصوت مرتفع «ميركل ارحلي» و«نحن الشعب»، وكأنها رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر للماضي الذي كان.
ألمانيا كانت ولا تزال قاطرة أوروبا، وهي القوة الضاغطة اليوم اقتصادياً، وتكاد تضحى آيديولوجيا أيضاً، ولهذا فإن أي تغيير سياسي يشملها لا بد أن يرتد على بقية الدول الأوروبية، إما برداً أو سلاماً، أو صيفاً قائظاً تتلظى شعوب أوروبا من سعيره إذا كان متطرفاً.
فى هذا الإطار، فإن دولاً عدة في القارة الأوروبية، والتي تعاني من زلزال قوى يكاد يذهب بفكرة الاتحاد الأوروبي بعيداً، تنظر لتطورات المشهد اليميني الأصولي المتطرف في الداخل الألماني، وتحاول استقراء الأمر بالنسبة لها، وفرنسا، وهولندا وإيطاليا في المقدمة، بل باتت الدول الإسكندنافية، التي كانت تاريخياً بعيدة عن أفكار التشدد الأصولي الأوروبي، مثل السويد في قلب دائرة الخطر.
تخوف الأوروبيين من النمو غير المحمود للتطرف الألماني، طرح علامة استفهام مثيرة بدورها حول انتخابات البرلمان الأوروبي في شهر مايو (أيار) من العام المقبل (2019). وهل سيسيطر نواب اليمين على هذا البرلمان، وما التبعات والاستحقاقات لمثل هذا التطور؟
علامة الاستفهام شاغلت وشاغبت فكر بيير هاسكي، رئيس منظمة «مراسلون بلا حدود»، الذي كتب عبر مجلة «نوفال أوبسرفاتور» يقول «إن الانتخابات القادمة لأعضاء البرلمان الأوروبي ستكون في قلب الخطابات ونشاطات الشعبويين والقوميين؛ بهدف توجيه ضربة انتخابات قوية ولإخضاع هذه المؤسسة الديمقراطية في القارة لتوجهاتهم واعتبارها رهينة في أيديهم».
حديث هاسكي، في واقع الأمر، يضعنا أمام حقائق عدة للمد اليميني الأوروبي المتأثر، ولا شك بالمقدمة الألمانية الطاغية؛ ففي المجر ترى فيكتور أوروبان، رئيس وزرائها، الرجل المعروف بعدائه للتوجهات الأوروبية الليبرالية، وعلى ساحل البحر الأبيض المتوسط يمكنك أن تلاحظ وزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني، رمزاً من رموز اليمين المتطرف، وكان كلاهما قد أعلن على طريقته الخاصة، انطلاق حملة الترشيح للانتخابات البرلمانية الأوروبية، التي ستكون ساخنة ومرتكزة على المخاوف التي تقلق القارة الأوروبية.
واضح أنه لا وجود لوحدة بين قوى اليمين المتطرف؛ فكل جماعة لديها توجهاتها السياسية، لكن تجمعها حاضنة واحدة تتمثل في كراهية المهاجرين الجدد، واعتبار مسألة «أسلمة أوروبا» مسألة حياة أو موت، ومن هنا تأتي إشكالية رفض إدماج الإسلام والمسلمين، بنداً من بنود اليمين الأوروبي والنازي بنوع خاص، وهناك على الأرض ومن أسف شديد من الأوروبيين، والأكثر سوءاً من الأميركيين، من يسكب الزيت على النار.
وبالتالي، يبدو أننا أمام رافدين كلاهما أسوأ من صاحبه: الأول أوروبي ويتمثل في طبقة الكتاب والمفكرين المثيرين للجدل والمعروفين بآرائهم الشديدة التطرف والعنصرية، والآخر أميركي يغني فيه الحال عن السؤال.
من عينة الجماعة الأولى نجد الكاتب الألماني تيلو زاراتسين، الذي أصدر الأيام الفائتة كتابه الجديد «استيلاء عدواني»، والذي يتضمن آراء مثيرة للجدل عن المسلمين ووجودهم في ألمانيا.
ويعمّق زاراتسين الشرخ مع الأجيال الألمانية عندما يشير إلى أن الأجيال القادمة من المسلمين ستكون أقل تعليماً في المتوسط، ولن تحقق الكثير من النجاح الاقتصادي، وستزداد بينها نسبة الجريمة بشكل مفرط، إضافة إلى أنها لن تكون متفتحة كثيراً على الديمقراطية والمساواة بين الجنسين.
ويخلص المؤلف إلى أن اختلاف المسلمين المصبوغ بصبغة دينية وثقافية وتزايد أعداد المواليد عوامل تهدد المجتمع المفتوح والديمقراطية والرخاء، ويطالب بضبط هجرة المسلمين إلى ألمانيا بشكل صارم.
أما الرافد الأميركي الذي أشرنا إليه، فيتصل بشخص مثل ستيف بانون، الذي عمل سابقاً كبير مستشاري الرئيس الأميركي دونالد ترمب. بانون ترك الولايات المتحدة الأشهر الماضية، وتوجه إلى أوروبا، أما هدفه فهو إنشاء مؤسسة في أوروبا تهدف إلى إطلاق «ثورة» شعبوية يمينية في القارة، والعهدة هنا على موقع «دايلي بيست» الأميركي.
بانون، وبحسب تصريحاته، ينوي أن تكون الانتخابات الأوروبية المقررة في 2019 أولى الاستحقاقات لمؤسسته التي سيتخذ من بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، مقراً رئيسياً لها، وسوف يطلق عليها اسم «الحركة». أما ما ستقوم به «الحركة»، فهو تزويد شخصيات سياسية يمينية لا تحظى بالضرورة بدعم منظمات فاعلة باستطلاعات واستشارات وأفكار ومقترحات.
وبحسب مجلة «بوليتيكو» الأميركية، فإن بانون التقى في مقر إقامته بالسياسي الفرنسي اليميني لويس آليوت، شريك ورفيق مارين لوبن زعيمة اليمين في فرنسا، ونايجل فاراج، مهندس حركة الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، والزعيم السابق لـ«حزب استقلال بريطانيا»، ويحتاج الحديث عن دور بانون في أوروبا لإذكاء صحوة اليمين الأصولي المتطرف إلى قراءة قائمة بذاتها.
مقابل ما يحصل، هناك بالفعل حالة من الرفض الجاد لمثل هذا التوجه غير الخلاق؛ فقد أطلقت زعيمة الحزب اليساري الألماني ساره فاغنكنشت حركة «انهضوا» رسمياً في برلين رداً على نجاحات اليمين الشعبوي، وفي تصريحات لها حذرت من التطورات الحالية قائلة «لدينا في ألمانيا أزمة ديمقراطية، والجميع يشعر بأنه لم يعد ممثلاً، ولا نريد أن نبقى متفرجين بعد الآن، نريد تغيير شيء ما».
خطوة فاغنكنشت لاقت قبولاً من الكثير من رموز الحياة السياسية الألمانية، وكان أفضل المواقف التي رصدناها من الداخل الألماني كانت من نصيب وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، خلال مقابلة معه أجرتها صحيفة «بيلد إم سونتاغ» الألمانية، حيث ذهب إلى حد تقريع مواطني ألمانيا باتهامهم بـ«الكسل في الكفاح من أجل تثبيت الديمقراطية ومحاربة العنصرية»، معتبراً أنه «من المهم النهوض عن الأريكة وفتح الفم بوجه ما يجري».
الخلاصة، لن تكون المعركة مع اليمين الأوروبي ولا النازيين الجدد الألمان يسيرة، لكن الفوز فيها معقود بناصية الجماهير الأوروبية، وعليها أن تختار، العودة إلى الماضي بإرثه السيئ، أم تجاوز حزازات الصدور إلى فرح اللقاء مع الآخر.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».