اليمين الألماني المتطرف خطر متصاعد

تعززه حماسة أميركية للتشدد

مظاهرات اليمين المتطرف في كيمنتس الألمانية («الشرق الأوسط»)
مظاهرات اليمين المتطرف في كيمنتس الألمانية («الشرق الأوسط»)
TT

اليمين الألماني المتطرف خطر متصاعد

مظاهرات اليمين المتطرف في كيمنتس الألمانية («الشرق الأوسط»)
مظاهرات اليمين المتطرف في كيمنتس الألمانية («الشرق الأوسط»)

ما نشهده في الداخل الألماني من نماذج الأصولية النازية الألمانية، إن جاز لنا أن نطلق هذا التوصيف، خطر ومهدد كبير على بقية الدول الأوروبية... وثمة من يرى أن الأصوات الأميركية المتطرفة لدعم هذا التيار الألماني - الأوروبي، سيعيد سيرة التطرف النازي في النصف الأول من القرن العشرين، زمن الفوهرر أدولف هتلر ورفاقه.
الكثير من التساؤلات الجدية والجذرية باتت مطروحة على ساحة ومائدة النقاش، ولا سيما بعد ما جرى الأيام القليلة الفائتة في مدينة كيمنتس الألمانية، حيث نزل إلى الشوارع آلاف عدة من مواطنيها، ملوحين بالأعلام الألمانية ومؤدين التحية النازية، وهي خطوة يعاقب عليها القانون الألماني بالحبس، ومطاردين للمارة من أصحاب البشرة الداكنة، ورغم ذلك وقف رجال الشرطة عاجزين عن التدخل في المشهد لقلة عددهم، وخوفاً من الاشتباك معهم.
لعل الكارثة في مشهد «التطرف الألماني» الجديد، هو أن المتطرفين من «النازيين الجدد»، يوشكون أن يغيروا من شكل الخريطة السياسية للبلاد، بمطالبتهم بإسقاط النظام الألماني الحالي، الذي يصفونه بأنه «فاشل»، ويزعمون أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، قد فقدت السيطرة على الموقف، وإن جُلّ ما تحاول القيام به هو السيطرة على ردود الفعل المناهضة للمهاجرين، التي لم تكن معلنة من قبل.
في ضوء هذا، ثمة من يتخوف من عودة ألمانيا التي عرفت جيداً أكلاف التطرف النازي من قبل في الطريق ثانية إلى إعادة سيرتها الأولى.
بحسب عدد من المحللين السياسيين، تمثل مواجهة هذا اليمين المتطرف اختباراً لسلطة الدولة، التي باتت الديمقراطية فيها في محنة هي الأولى من نوعها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى أيامنا؛ ولهذا كان من الطبيعي أن تصرح عمدة المدينة، والمنتسبة إلى الحزب الديمقراطي الاجتماعي الاشتراكي، بربارا لودفيغ «بأنهم يهاجمون دولتنا الديمقراطية بأسلوب لم يفعلوه من قبل... لا بد أن نجتاز هذا الاختبار».
ويحتاج المشهد الألماني إلى علماء النفس الاجتماعي قبل المحللين السياسيين لشرحه وتحليله؛ ذلك أن التذرع بأن المهاجرين قد اختصموا من الأوضاع الاقتصادية للبلاد غير حقيقي، ولا سيما أن الاقتصاد الألماني صاعد إلى أعلى عليين في السماء، بل إن الأيدي العاملة من المهاجرين، قد أضافت بالإيجاب للناتج القومي الإجمالي الألماني، وهذا ما يعمّق الأزمة ويضعها في إطار صحوة الأصوليات الأوروبية الضارة.
يمكن القطع بأن «حزب البديل من أجل ألمانيا» شكّل النواة التي تستقطب إليها بقية الأصوات التي لديها ميول قومية وشوفينية ساكنة تحت الجلد الألماني، ولا تزال تؤمن بشعارات هتلر عن الجنس الآري، وألمانيا فوق الجميع.
والمعروف أن «حزب البديل من أجل ألمانيا» قد حصل على 27 في المائة في ولاية ساكسونيا الشرقية، حيث توجد مدينة كيمنتس، وذلك خلال الانتخابات الوطنية في العام الماضي، وبمقتضى ذلك النجاح تمكن نشطاء اليمين المتطرف من توجيه مخاوف وغضب الناخبين باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وكذا تعبئة الحشود.
يلفت النظر هنا أمر ما، ذلك أن حزب البديل هذا يحاول جاهداً أن يرسم لنفسه إطاراً خارج حدود التطرف النازي، ويؤكد أن لا صلة له بتلك المجموعات، غير أن أحداث كيمنتس الأخيرة تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن هناك علاقة تكافلية ما بين النازيين الجدد وبين حزب البديل من أجل ألمانيا.
ولم يكن الأمر ليفوت على السياسيين الألمان المحنكين؛ ولهذا دعا نائب رئيس البرلمان الألماني - هيئة حماية الدستور - للبحث في العلاقة بين النازيين الجدد وحزب البديل الشعبوى.
وفى تصريحاته له يؤكد توماس أوبرمان، على أن قضية اللاجئين تحدث انقساماً في المجتمع الألماني، بينما حزب البديل يلعب وبتطرف مطرد على هذه الموجة؛ ما يعني نقله للأزمة إلى الشارع، موضحاً أن «دولة القانون لا يمكن أن تتسامح مع هذا العنف في الشوارع، وبخاصة في ظل مسحته العنصرية تلك، ويجب أن ترد على ذلك بكل صرامة».
الذين تعي ذاكرتهم مشاهد ما حدث في ألمانيا قبل نحو ثلاثة عقود يتذكرون جيداً أن تلك المظاهرات والمسيرات نظمت من أجل القانون والنظام والديمقراطية وحرية التعبير، ورفضاً للشيوعية، التي كانت جاثمة على صدر ألمانيا الشرقية بنوع خاص، ناهيك عن بقية دول أوروبا الشرقية، الواقعة تحت نفوذ الستار الحديدي للاتحاد السوفياتي، لكن الذي يتطلع إليه «النازيون الجدد»، هو شيء مغاير تماماً إنهم يسعون، والحديث لعمدة مدينة كيمنتس، إلى تقويض مؤسسات الدولة، وإثارة ديماجوجية خطيرة بين صفوف الألمان بسبب جريمة قتل شاب ألماني.
في هذا السياق، يتأمل المرء شعارات مسيرات اليمين القومي تهتف بصوت مرتفع «ميركل ارحلي» و«نحن الشعب»، وكأنها رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر للماضي الذي كان.
ألمانيا كانت ولا تزال قاطرة أوروبا، وهي القوة الضاغطة اليوم اقتصادياً، وتكاد تضحى آيديولوجيا أيضاً، ولهذا فإن أي تغيير سياسي يشملها لا بد أن يرتد على بقية الدول الأوروبية، إما برداً أو سلاماً، أو صيفاً قائظاً تتلظى شعوب أوروبا من سعيره إذا كان متطرفاً.
فى هذا الإطار، فإن دولاً عدة في القارة الأوروبية، والتي تعاني من زلزال قوى يكاد يذهب بفكرة الاتحاد الأوروبي بعيداً، تنظر لتطورات المشهد اليميني الأصولي المتطرف في الداخل الألماني، وتحاول استقراء الأمر بالنسبة لها، وفرنسا، وهولندا وإيطاليا في المقدمة، بل باتت الدول الإسكندنافية، التي كانت تاريخياً بعيدة عن أفكار التشدد الأصولي الأوروبي، مثل السويد في قلب دائرة الخطر.
تخوف الأوروبيين من النمو غير المحمود للتطرف الألماني، طرح علامة استفهام مثيرة بدورها حول انتخابات البرلمان الأوروبي في شهر مايو (أيار) من العام المقبل (2019). وهل سيسيطر نواب اليمين على هذا البرلمان، وما التبعات والاستحقاقات لمثل هذا التطور؟
علامة الاستفهام شاغلت وشاغبت فكر بيير هاسكي، رئيس منظمة «مراسلون بلا حدود»، الذي كتب عبر مجلة «نوفال أوبسرفاتور» يقول «إن الانتخابات القادمة لأعضاء البرلمان الأوروبي ستكون في قلب الخطابات ونشاطات الشعبويين والقوميين؛ بهدف توجيه ضربة انتخابات قوية ولإخضاع هذه المؤسسة الديمقراطية في القارة لتوجهاتهم واعتبارها رهينة في أيديهم».
حديث هاسكي، في واقع الأمر، يضعنا أمام حقائق عدة للمد اليميني الأوروبي المتأثر، ولا شك بالمقدمة الألمانية الطاغية؛ ففي المجر ترى فيكتور أوروبان، رئيس وزرائها، الرجل المعروف بعدائه للتوجهات الأوروبية الليبرالية، وعلى ساحل البحر الأبيض المتوسط يمكنك أن تلاحظ وزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني، رمزاً من رموز اليمين المتطرف، وكان كلاهما قد أعلن على طريقته الخاصة، انطلاق حملة الترشيح للانتخابات البرلمانية الأوروبية، التي ستكون ساخنة ومرتكزة على المخاوف التي تقلق القارة الأوروبية.
واضح أنه لا وجود لوحدة بين قوى اليمين المتطرف؛ فكل جماعة لديها توجهاتها السياسية، لكن تجمعها حاضنة واحدة تتمثل في كراهية المهاجرين الجدد، واعتبار مسألة «أسلمة أوروبا» مسألة حياة أو موت، ومن هنا تأتي إشكالية رفض إدماج الإسلام والمسلمين، بنداً من بنود اليمين الأوروبي والنازي بنوع خاص، وهناك على الأرض ومن أسف شديد من الأوروبيين، والأكثر سوءاً من الأميركيين، من يسكب الزيت على النار.
وبالتالي، يبدو أننا أمام رافدين كلاهما أسوأ من صاحبه: الأول أوروبي ويتمثل في طبقة الكتاب والمفكرين المثيرين للجدل والمعروفين بآرائهم الشديدة التطرف والعنصرية، والآخر أميركي يغني فيه الحال عن السؤال.
من عينة الجماعة الأولى نجد الكاتب الألماني تيلو زاراتسين، الذي أصدر الأيام الفائتة كتابه الجديد «استيلاء عدواني»، والذي يتضمن آراء مثيرة للجدل عن المسلمين ووجودهم في ألمانيا.
ويعمّق زاراتسين الشرخ مع الأجيال الألمانية عندما يشير إلى أن الأجيال القادمة من المسلمين ستكون أقل تعليماً في المتوسط، ولن تحقق الكثير من النجاح الاقتصادي، وستزداد بينها نسبة الجريمة بشكل مفرط، إضافة إلى أنها لن تكون متفتحة كثيراً على الديمقراطية والمساواة بين الجنسين.
ويخلص المؤلف إلى أن اختلاف المسلمين المصبوغ بصبغة دينية وثقافية وتزايد أعداد المواليد عوامل تهدد المجتمع المفتوح والديمقراطية والرخاء، ويطالب بضبط هجرة المسلمين إلى ألمانيا بشكل صارم.
أما الرافد الأميركي الذي أشرنا إليه، فيتصل بشخص مثل ستيف بانون، الذي عمل سابقاً كبير مستشاري الرئيس الأميركي دونالد ترمب. بانون ترك الولايات المتحدة الأشهر الماضية، وتوجه إلى أوروبا، أما هدفه فهو إنشاء مؤسسة في أوروبا تهدف إلى إطلاق «ثورة» شعبوية يمينية في القارة، والعهدة هنا على موقع «دايلي بيست» الأميركي.
بانون، وبحسب تصريحاته، ينوي أن تكون الانتخابات الأوروبية المقررة في 2019 أولى الاستحقاقات لمؤسسته التي سيتخذ من بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، مقراً رئيسياً لها، وسوف يطلق عليها اسم «الحركة». أما ما ستقوم به «الحركة»، فهو تزويد شخصيات سياسية يمينية لا تحظى بالضرورة بدعم منظمات فاعلة باستطلاعات واستشارات وأفكار ومقترحات.
وبحسب مجلة «بوليتيكو» الأميركية، فإن بانون التقى في مقر إقامته بالسياسي الفرنسي اليميني لويس آليوت، شريك ورفيق مارين لوبن زعيمة اليمين في فرنسا، ونايجل فاراج، مهندس حركة الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، والزعيم السابق لـ«حزب استقلال بريطانيا»، ويحتاج الحديث عن دور بانون في أوروبا لإذكاء صحوة اليمين الأصولي المتطرف إلى قراءة قائمة بذاتها.
مقابل ما يحصل، هناك بالفعل حالة من الرفض الجاد لمثل هذا التوجه غير الخلاق؛ فقد أطلقت زعيمة الحزب اليساري الألماني ساره فاغنكنشت حركة «انهضوا» رسمياً في برلين رداً على نجاحات اليمين الشعبوي، وفي تصريحات لها حذرت من التطورات الحالية قائلة «لدينا في ألمانيا أزمة ديمقراطية، والجميع يشعر بأنه لم يعد ممثلاً، ولا نريد أن نبقى متفرجين بعد الآن، نريد تغيير شيء ما».
خطوة فاغنكنشت لاقت قبولاً من الكثير من رموز الحياة السياسية الألمانية، وكان أفضل المواقف التي رصدناها من الداخل الألماني كانت من نصيب وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، خلال مقابلة معه أجرتها صحيفة «بيلد إم سونتاغ» الألمانية، حيث ذهب إلى حد تقريع مواطني ألمانيا باتهامهم بـ«الكسل في الكفاح من أجل تثبيت الديمقراطية ومحاربة العنصرية»، معتبراً أنه «من المهم النهوض عن الأريكة وفتح الفم بوجه ما يجري».
الخلاصة، لن تكون المعركة مع اليمين الأوروبي ولا النازيين الجدد الألمان يسيرة، لكن الفوز فيها معقود بناصية الجماهير الأوروبية، وعليها أن تختار، العودة إلى الماضي بإرثه السيئ، أم تجاوز حزازات الصدور إلى فرح اللقاء مع الآخر.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.