اليمين الألماني المتطرف خطر متصاعد

تعززه حماسة أميركية للتشدد

مظاهرات اليمين المتطرف في كيمنتس الألمانية («الشرق الأوسط»)
مظاهرات اليمين المتطرف في كيمنتس الألمانية («الشرق الأوسط»)
TT

اليمين الألماني المتطرف خطر متصاعد

مظاهرات اليمين المتطرف في كيمنتس الألمانية («الشرق الأوسط»)
مظاهرات اليمين المتطرف في كيمنتس الألمانية («الشرق الأوسط»)

ما نشهده في الداخل الألماني من نماذج الأصولية النازية الألمانية، إن جاز لنا أن نطلق هذا التوصيف، خطر ومهدد كبير على بقية الدول الأوروبية... وثمة من يرى أن الأصوات الأميركية المتطرفة لدعم هذا التيار الألماني - الأوروبي، سيعيد سيرة التطرف النازي في النصف الأول من القرن العشرين، زمن الفوهرر أدولف هتلر ورفاقه.
الكثير من التساؤلات الجدية والجذرية باتت مطروحة على ساحة ومائدة النقاش، ولا سيما بعد ما جرى الأيام القليلة الفائتة في مدينة كيمنتس الألمانية، حيث نزل إلى الشوارع آلاف عدة من مواطنيها، ملوحين بالأعلام الألمانية ومؤدين التحية النازية، وهي خطوة يعاقب عليها القانون الألماني بالحبس، ومطاردين للمارة من أصحاب البشرة الداكنة، ورغم ذلك وقف رجال الشرطة عاجزين عن التدخل في المشهد لقلة عددهم، وخوفاً من الاشتباك معهم.
لعل الكارثة في مشهد «التطرف الألماني» الجديد، هو أن المتطرفين من «النازيين الجدد»، يوشكون أن يغيروا من شكل الخريطة السياسية للبلاد، بمطالبتهم بإسقاط النظام الألماني الحالي، الذي يصفونه بأنه «فاشل»، ويزعمون أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، قد فقدت السيطرة على الموقف، وإن جُلّ ما تحاول القيام به هو السيطرة على ردود الفعل المناهضة للمهاجرين، التي لم تكن معلنة من قبل.
في ضوء هذا، ثمة من يتخوف من عودة ألمانيا التي عرفت جيداً أكلاف التطرف النازي من قبل في الطريق ثانية إلى إعادة سيرتها الأولى.
بحسب عدد من المحللين السياسيين، تمثل مواجهة هذا اليمين المتطرف اختباراً لسلطة الدولة، التي باتت الديمقراطية فيها في محنة هي الأولى من نوعها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى أيامنا؛ ولهذا كان من الطبيعي أن تصرح عمدة المدينة، والمنتسبة إلى الحزب الديمقراطي الاجتماعي الاشتراكي، بربارا لودفيغ «بأنهم يهاجمون دولتنا الديمقراطية بأسلوب لم يفعلوه من قبل... لا بد أن نجتاز هذا الاختبار».
ويحتاج المشهد الألماني إلى علماء النفس الاجتماعي قبل المحللين السياسيين لشرحه وتحليله؛ ذلك أن التذرع بأن المهاجرين قد اختصموا من الأوضاع الاقتصادية للبلاد غير حقيقي، ولا سيما أن الاقتصاد الألماني صاعد إلى أعلى عليين في السماء، بل إن الأيدي العاملة من المهاجرين، قد أضافت بالإيجاب للناتج القومي الإجمالي الألماني، وهذا ما يعمّق الأزمة ويضعها في إطار صحوة الأصوليات الأوروبية الضارة.
يمكن القطع بأن «حزب البديل من أجل ألمانيا» شكّل النواة التي تستقطب إليها بقية الأصوات التي لديها ميول قومية وشوفينية ساكنة تحت الجلد الألماني، ولا تزال تؤمن بشعارات هتلر عن الجنس الآري، وألمانيا فوق الجميع.
والمعروف أن «حزب البديل من أجل ألمانيا» قد حصل على 27 في المائة في ولاية ساكسونيا الشرقية، حيث توجد مدينة كيمنتس، وذلك خلال الانتخابات الوطنية في العام الماضي، وبمقتضى ذلك النجاح تمكن نشطاء اليمين المتطرف من توجيه مخاوف وغضب الناخبين باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وكذا تعبئة الحشود.
يلفت النظر هنا أمر ما، ذلك أن حزب البديل هذا يحاول جاهداً أن يرسم لنفسه إطاراً خارج حدود التطرف النازي، ويؤكد أن لا صلة له بتلك المجموعات، غير أن أحداث كيمنتس الأخيرة تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن هناك علاقة تكافلية ما بين النازيين الجدد وبين حزب البديل من أجل ألمانيا.
ولم يكن الأمر ليفوت على السياسيين الألمان المحنكين؛ ولهذا دعا نائب رئيس البرلمان الألماني - هيئة حماية الدستور - للبحث في العلاقة بين النازيين الجدد وحزب البديل الشعبوى.
وفى تصريحاته له يؤكد توماس أوبرمان، على أن قضية اللاجئين تحدث انقساماً في المجتمع الألماني، بينما حزب البديل يلعب وبتطرف مطرد على هذه الموجة؛ ما يعني نقله للأزمة إلى الشارع، موضحاً أن «دولة القانون لا يمكن أن تتسامح مع هذا العنف في الشوارع، وبخاصة في ظل مسحته العنصرية تلك، ويجب أن ترد على ذلك بكل صرامة».
الذين تعي ذاكرتهم مشاهد ما حدث في ألمانيا قبل نحو ثلاثة عقود يتذكرون جيداً أن تلك المظاهرات والمسيرات نظمت من أجل القانون والنظام والديمقراطية وحرية التعبير، ورفضاً للشيوعية، التي كانت جاثمة على صدر ألمانيا الشرقية بنوع خاص، ناهيك عن بقية دول أوروبا الشرقية، الواقعة تحت نفوذ الستار الحديدي للاتحاد السوفياتي، لكن الذي يتطلع إليه «النازيون الجدد»، هو شيء مغاير تماماً إنهم يسعون، والحديث لعمدة مدينة كيمنتس، إلى تقويض مؤسسات الدولة، وإثارة ديماجوجية خطيرة بين صفوف الألمان بسبب جريمة قتل شاب ألماني.
في هذا السياق، يتأمل المرء شعارات مسيرات اليمين القومي تهتف بصوت مرتفع «ميركل ارحلي» و«نحن الشعب»، وكأنها رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر للماضي الذي كان.
ألمانيا كانت ولا تزال قاطرة أوروبا، وهي القوة الضاغطة اليوم اقتصادياً، وتكاد تضحى آيديولوجيا أيضاً، ولهذا فإن أي تغيير سياسي يشملها لا بد أن يرتد على بقية الدول الأوروبية، إما برداً أو سلاماً، أو صيفاً قائظاً تتلظى شعوب أوروبا من سعيره إذا كان متطرفاً.
فى هذا الإطار، فإن دولاً عدة في القارة الأوروبية، والتي تعاني من زلزال قوى يكاد يذهب بفكرة الاتحاد الأوروبي بعيداً، تنظر لتطورات المشهد اليميني الأصولي المتطرف في الداخل الألماني، وتحاول استقراء الأمر بالنسبة لها، وفرنسا، وهولندا وإيطاليا في المقدمة، بل باتت الدول الإسكندنافية، التي كانت تاريخياً بعيدة عن أفكار التشدد الأصولي الأوروبي، مثل السويد في قلب دائرة الخطر.
تخوف الأوروبيين من النمو غير المحمود للتطرف الألماني، طرح علامة استفهام مثيرة بدورها حول انتخابات البرلمان الأوروبي في شهر مايو (أيار) من العام المقبل (2019). وهل سيسيطر نواب اليمين على هذا البرلمان، وما التبعات والاستحقاقات لمثل هذا التطور؟
علامة الاستفهام شاغلت وشاغبت فكر بيير هاسكي، رئيس منظمة «مراسلون بلا حدود»، الذي كتب عبر مجلة «نوفال أوبسرفاتور» يقول «إن الانتخابات القادمة لأعضاء البرلمان الأوروبي ستكون في قلب الخطابات ونشاطات الشعبويين والقوميين؛ بهدف توجيه ضربة انتخابات قوية ولإخضاع هذه المؤسسة الديمقراطية في القارة لتوجهاتهم واعتبارها رهينة في أيديهم».
حديث هاسكي، في واقع الأمر، يضعنا أمام حقائق عدة للمد اليميني الأوروبي المتأثر، ولا شك بالمقدمة الألمانية الطاغية؛ ففي المجر ترى فيكتور أوروبان، رئيس وزرائها، الرجل المعروف بعدائه للتوجهات الأوروبية الليبرالية، وعلى ساحل البحر الأبيض المتوسط يمكنك أن تلاحظ وزير الداخلية الإيطالي ماتيو سالفيني، رمزاً من رموز اليمين المتطرف، وكان كلاهما قد أعلن على طريقته الخاصة، انطلاق حملة الترشيح للانتخابات البرلمانية الأوروبية، التي ستكون ساخنة ومرتكزة على المخاوف التي تقلق القارة الأوروبية.
واضح أنه لا وجود لوحدة بين قوى اليمين المتطرف؛ فكل جماعة لديها توجهاتها السياسية، لكن تجمعها حاضنة واحدة تتمثل في كراهية المهاجرين الجدد، واعتبار مسألة «أسلمة أوروبا» مسألة حياة أو موت، ومن هنا تأتي إشكالية رفض إدماج الإسلام والمسلمين، بنداً من بنود اليمين الأوروبي والنازي بنوع خاص، وهناك على الأرض ومن أسف شديد من الأوروبيين، والأكثر سوءاً من الأميركيين، من يسكب الزيت على النار.
وبالتالي، يبدو أننا أمام رافدين كلاهما أسوأ من صاحبه: الأول أوروبي ويتمثل في طبقة الكتاب والمفكرين المثيرين للجدل والمعروفين بآرائهم الشديدة التطرف والعنصرية، والآخر أميركي يغني فيه الحال عن السؤال.
من عينة الجماعة الأولى نجد الكاتب الألماني تيلو زاراتسين، الذي أصدر الأيام الفائتة كتابه الجديد «استيلاء عدواني»، والذي يتضمن آراء مثيرة للجدل عن المسلمين ووجودهم في ألمانيا.
ويعمّق زاراتسين الشرخ مع الأجيال الألمانية عندما يشير إلى أن الأجيال القادمة من المسلمين ستكون أقل تعليماً في المتوسط، ولن تحقق الكثير من النجاح الاقتصادي، وستزداد بينها نسبة الجريمة بشكل مفرط، إضافة إلى أنها لن تكون متفتحة كثيراً على الديمقراطية والمساواة بين الجنسين.
ويخلص المؤلف إلى أن اختلاف المسلمين المصبوغ بصبغة دينية وثقافية وتزايد أعداد المواليد عوامل تهدد المجتمع المفتوح والديمقراطية والرخاء، ويطالب بضبط هجرة المسلمين إلى ألمانيا بشكل صارم.
أما الرافد الأميركي الذي أشرنا إليه، فيتصل بشخص مثل ستيف بانون، الذي عمل سابقاً كبير مستشاري الرئيس الأميركي دونالد ترمب. بانون ترك الولايات المتحدة الأشهر الماضية، وتوجه إلى أوروبا، أما هدفه فهو إنشاء مؤسسة في أوروبا تهدف إلى إطلاق «ثورة» شعبوية يمينية في القارة، والعهدة هنا على موقع «دايلي بيست» الأميركي.
بانون، وبحسب تصريحاته، ينوي أن تكون الانتخابات الأوروبية المقررة في 2019 أولى الاستحقاقات لمؤسسته التي سيتخذ من بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، مقراً رئيسياً لها، وسوف يطلق عليها اسم «الحركة». أما ما ستقوم به «الحركة»، فهو تزويد شخصيات سياسية يمينية لا تحظى بالضرورة بدعم منظمات فاعلة باستطلاعات واستشارات وأفكار ومقترحات.
وبحسب مجلة «بوليتيكو» الأميركية، فإن بانون التقى في مقر إقامته بالسياسي الفرنسي اليميني لويس آليوت، شريك ورفيق مارين لوبن زعيمة اليمين في فرنسا، ونايجل فاراج، مهندس حركة الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، والزعيم السابق لـ«حزب استقلال بريطانيا»، ويحتاج الحديث عن دور بانون في أوروبا لإذكاء صحوة اليمين الأصولي المتطرف إلى قراءة قائمة بذاتها.
مقابل ما يحصل، هناك بالفعل حالة من الرفض الجاد لمثل هذا التوجه غير الخلاق؛ فقد أطلقت زعيمة الحزب اليساري الألماني ساره فاغنكنشت حركة «انهضوا» رسمياً في برلين رداً على نجاحات اليمين الشعبوي، وفي تصريحات لها حذرت من التطورات الحالية قائلة «لدينا في ألمانيا أزمة ديمقراطية، والجميع يشعر بأنه لم يعد ممثلاً، ولا نريد أن نبقى متفرجين بعد الآن، نريد تغيير شيء ما».
خطوة فاغنكنشت لاقت قبولاً من الكثير من رموز الحياة السياسية الألمانية، وكان أفضل المواقف التي رصدناها من الداخل الألماني كانت من نصيب وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، خلال مقابلة معه أجرتها صحيفة «بيلد إم سونتاغ» الألمانية، حيث ذهب إلى حد تقريع مواطني ألمانيا باتهامهم بـ«الكسل في الكفاح من أجل تثبيت الديمقراطية ومحاربة العنصرية»، معتبراً أنه «من المهم النهوض عن الأريكة وفتح الفم بوجه ما يجري».
الخلاصة، لن تكون المعركة مع اليمين الأوروبي ولا النازيين الجدد الألمان يسيرة، لكن الفوز فيها معقود بناصية الجماهير الأوروبية، وعليها أن تختار، العودة إلى الماضي بإرثه السيئ، أم تجاوز حزازات الصدور إلى فرح اللقاء مع الآخر.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.