لم تأتِ نتائج قمة طهران على هوى الكرملين، ليس فقط لأنها فشلت في التوصل إلى تفاهمات تدفع عملية إدلب، كما كانت تأمل موسكو، لكن لأن مناقشات القمة كشفت، رغم كل محاولات الرؤساء الثلاثة إظهار العكس، هشاشة محور آستانة، وتحوله إلى «تحالف الأمر الواقع» أو «تجمع المضطرين»، وفقاً لتعبير محلل روسي رأى أن «تقلبات الوضع الإقليمي والدولي، وسياسات واشنطن، بشقيها الواضح أو المتخبط، تدفع الأطراف الثلاثة إلى التمسك بالحد الأدنى اللازم للمحافظة على تحالفها».
وأبرزت القمة الثلاثية، التي تميزت عن سابقتيها في سوتشي وأنقرة لجهة اختيار الشكل العلني المفتوح لجانب أساسي من المناقشات، أن الخلافات بين أقطاب محور آستانة تتسع وتزداد تعقيداً كلما اقتربت الأوضاع في سوريا من دخول منعطف حاسم، وهو أمر كان حتى وقت قريب يبرز عبر تلميحات وتأويلات، مثلما حدث عندما أشار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أخيراً إلى أن الأهداف النهائية للأطراف الثلاثة ليست متطابقة تماماً في سوريا.
كانت موسكو تعول على نجاح القمة في وضع سيناريو لعملية محدودة تقلص قدرات «جبهة النصرة» على شن عمليات ضد محافظة اللاذقية وضد قاعدة حميميم، وتم تسريب معطيات عما وصف بأنه تفاهمات تم التوصل إليها على المستويين العسكري والدبلوماسي لإقرارها على طاولة الرؤساء، يقوم جوهرها على إطلاق عملية محدودة تسفر عن إقامة ما يشبه حزام أمن، يمتد من جسر الشغور شمالاً إلى بلدة اللطامنة جنوب محافظة إدلب، من دون دخول النظام إلى المدينة، على أن يتم تكليف أنقرة بمواصلة العمل لفصل «النصرة» عن بقية الفصائل، لكن المناقشات العلنية للرؤساء أظهرت أن هذا «التفاهم» غير مكتمل.
وأفادت مصادر روسية متابعة للملف، تحدثت إليها «الشرق الأوسط»، بأن العقدة الأساسية تمثلت في طلب أنقرة ضمانات بأن يحترم النظام حدود أي عملية محدودة، بسبب الخشية من أن يفتح هذا التقدم شهية النظام أو الميليشيات الإيرانية لتوسيع نطاق المعركة. والعنصر الآخر المهم لأنقرة هو أن التقدم باتجاه إدلب يمكن أن يضع على طاولة النقاش لاحقاً مصير المناطق التي تسيطر عليها تركيا، شمال مدينة حلب، ما يعني أنه يفقد الرئيس رجب طيب إردوغان الورقة الأساسية التي تعزز موقفه في أي مفاوضات لاحقة حول شكل التسوية النهائية.
والسؤال هنا: لماذا فشلت موسكو في تقديم هذه الضمانات لأنقرة؟ الجواب، وفقاً للمصادر، أن روسيا، التي تستعجل تنفيذ عملية عسكرية حاسمة تعزز مواقفها مع حليفيها إيران والنظام أمام استدارة محتملة للسياسة الأميركية في سوريا، ليست قادرة في هذه الظروف على تقليص السقف المطلوب من العملية، لكن ذلك لا يعني أن تأجيل عملية إدلب لبعض الوقت قد يقلب المعادلات، ويلغي خطط الحسم.
وحقيقة أن الرئيس فلاديمير بوتين قد قال إنه «استجابة لطلب الرئيس التركي، سوف نطلب من كل القوى إلقاء السلاح، ووقف النار»، لا تعني أن بوتين وافق تماماً على طلب إردوغان إعلان هدنة، وهذا برز من غياب الحديث عن الهدنة في البيان الختامي، لكنه يعكس أن موسكو قررت أن تتمهل قليلاً لإنضاج ظروف العملية العسكرية. وقد طرح مصدر عسكري، أمس، فرضيتين للتحرك اللاحق: الأولى، أن تذهب موسكو فعلاً نحو إعلان هدنة محدودة، مرفقة بفتح ممرات آمنة، كما حصل في مناطق أخرى سابقاً في سوريا، مع إدراك أن الخطوة لن تسفر عن نتائج، لكنها سوف تفقد أنقرة ورقتها الأساسية لمعارضة العملية العسكرية، لأن الجانب التركي لن ينجح في ظروف مهلة جديدة من إنجاز فصل المعارضة، وعزل «النصرة»، ناهيك عن القدرة على إقناع الفصائل بإلقاء السلاح. والفرضية الثانية هي مواصلة الإعداد للعملية، ومراقبة تحركات المعارضة، بهدف التدخل عند أي استفزاز قوي. وقد قالت وزارة الدفاع الروسية، أمس، إن لديها معطيات موثوقة تدل على أنه «تم في مركز قيادة الإرهابيين، الواقع في منطقة مدرسة الوحدة، بمدينة إدلب، في الـ7 من سبتمبر (أيلول) الحالي، اجتماع لزعماء جماعتي (هيئة تحرير الشام) - جبهة النصرة - و(حزب تركمانستان الإسلامي)، بمشاركة المنسقين المحليين لـ(الدفاع المدني السوري) - الخوذ البيضاء».
وأضاف أنه تم في هذا اللقاء التنسيق النهائي لسيناريوهات إجراء وتصوير مسرحيات الحوادث بالاستخدام المزعوم للمواد السامة من قبل القوات الحكومية السورية ضد السكان المدنيين في التجمعات السكنية بجسر الشغور وسراقب وتنتفاز وسرمين.
وشدد اللواء إيغور كوناشينكوف على أن وزارة الدفاع الروسية تواصل متابعة الوضع في سوريا، وأعمال الوحدات المسلحة للدول المختلفة في الشرق الأوسط، باهتمام بالغ. ويدل تحرك الوزارة الحالي على أن موسكو تواصل الإعداد، وفقاً للسيناريو الثاني، لشن عملية عسكرية، لكنها تعمل بالتوازي على إقناع تركيا بالقبول بها. ما يمكن أن يشكل نقطة انعطاف أساسية هو التدخل المحتمل من جانب واشنطن في مسار الأحداث حول إدلب، إذ ستوفر أي ضربة أميركية أجواء مفيدة لروسيا لاستخدامها في دفع تحركها العسكري. وبالتوازي مع النقاشات المتواصلة حول إدلب، أبرزت نتائج القمة أن الأطراف الثلاثة ما زالت غير قادرة على دفع نقاشاتها إلى ملف ملامح التسوية النهائية في سوريا، علماً بأن مساعد الرئيس الروسي لشؤون السياسة الخارجية، يوري أوشاكوف، كان قد استبق القمة بتأكيد تطلع الكرملين لنقل النقاش إلى المدى الأوسع، وبلورة موقف مشترك حول التسوية النهائية. ولقد وضع الرئيس التركي بتمسكه بموقفه حيال الهدنة، ومعارضة أي تحرك عسكري حالياً، شرطاً جديداً يزيد من صعوبة عمل التحالف الثلاثي، من خلال إشارته إلى أن «اتفاقنا اليوم يوفر آليات للتعاون في مجال التسوية السياسية في إطار آستانة، فهو ربط بين اتفاق حول إدلب وتواصل العمل في إطار مجموعة آستانة»، وهي رسالة التقطها بوتين سريعاً، وتحدث بإسهاب في كلمته الجوابية حول إنجازات آستانة، والأهمية الكبرى للمحافظة على هذا المسار.
ويبدو أن «إنقاذ» مسار آستانة، ولو إلى حين، هو النتيجة الأساسية لقمة طهران، إذ رغم هشاشة التحالف، ما زالت الأطراف الثلاثة مقتنعة بضرورة المحافظة عليه، خصوصاً في وجه محاولات واشنطن إقناع الشركاء الغربيين بضرورة مقاطعته، باعتباره «لا يمكن أن يشكل بديلاً لجنيف».
لكن الكرملين الذي حصل، في مقابل تأجيل قرار الحسم في إدلب، على دعم صريح من أنقرة وطهران في مسألتي الإصلاح الدستوري ومبادرة إعادة اللاجئين، لا يبدو مقتنعاً بان إنجاز المحافظة على مسار آستانة كافياً، لأن هذا المسار الذي يتعرض لضربات أميركية خارجية بات يعاني مشكلات جدية بين أقطابه، مما يعني أن المرحلة المقبلة، ومهما كانت سيناريوهات حسم الخلاف حول إدلب، قد تشهد مسعى لتوسيع الإطار، وإدخال تعديلات عليه، وفقاً لتوقعات دبلوماسي - عسكري روسي.
قمة طهران تكشف هشاشة مسار {آستانة}
اقتراح بتأجيل حسم ملف إدلب عسكرياً بحثاً عن حل
قمة طهران تكشف هشاشة مسار {آستانة}
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة