بيرت رينولدز... نجم كل العصور

عزف على أوتار قليلة وحقق نجاحاً مبهراً

بيرت رينولدز كما بدا في «سموكي أند ذي باندت»
بيرت رينولدز كما بدا في «سموكي أند ذي باندت»
TT

بيرت رينولدز... نجم كل العصور

بيرت رينولدز كما بدا في «سموكي أند ذي باندت»
بيرت رينولدز كما بدا في «سموكي أند ذي باندت»

بيرت رينولدز الذي توفي يوم السادس من سبتمبر (أيلول) 2018، عن 82 سنة كان نجما ثنائي الموهبة الفنية. هو ممثل جيد في نطاق أدواره، درامية كانت أو كوميدية، ومخرجاً لا يقل إجادة. في كلا المهنتين لم يسع لإنجاز أفلام تدعي حيازتها على معايير فنية عالية، ولم يسع لتمثيل شخصيات تتطلب قدرات مسرحية أو تحديات كبيرة.
على ذلك، كان صادقاً فيما هدف إليه، ونجح في تبوء مكانة جيدة في السبعينات والثمانينات. بذلك كان، من ناحية محبوباً ومن ناحية أخرى موهوباً.

- حكاية ميتافيزيقية
وُلد سنة 1936 في ميتشيغن. هوى كرة القدم ومارسها حتى سنوات الجامعة، كما كتب في مذكراته المنشورة سنة 2015، بعنوان «لكن يكفي هذا عني» (But Enough About Me)، وكما عُرف عنه منذ أن أصبح نجماً.
خلال إحدى المباريات أصيب بحادثة جعلته غير قادر على مواصلة هوايته المفضلة، فلجأ إلى التمثيل ودخل منازل متابعي حلقات «غنسموك» (Gunsmoke)، تلك التي كان يقود بطولتها جيمس أرنس (شقيق الممثل بيتر غرايفز المشهور بحلقات Mission‪:‬ Impossible). دور رينولدز في ذلك المسلسل الوسترن الناجح كان مسانداً. إنه الشاب المولود من أبوين أحدهما هندي والآخر أبيض. البعض كان يعايره بذلك، لكنه كان يقف في مواجهة ذلك بهدوء يساعده الشريف ديلون (أرنس) في صد الاعتداءات حين تقع.
في الوقت ذاته، مطلع الستينات، عرج على السينما فظهر في فيلمين سنة 1961، لاعباً دورين صغيرين. أولهما «أنجل بايبي» لبول وندكوس و«أرمورد كوماند» لبرايان هسكين. نظراً لنجاح ظهوره في «غنسموك» طُلب منه بطولة Operation C‪.‬I‪.‬A سنة 1965 لكريستيان نيبي. هذا الفيلم الثالث ترتيباً له، لم يترك أثراً يذكر، لكنه لفت نظر المخرج الإيطالي سيرجيو كوربوتشي الذي كان منهمكاً في تحقيق أفلام وسترن سباغيتي على غرار تلك الموجة التي سادت السينما الإيطالية حينذاك، فدعاه لبطولة فيلم «نافاهو جو» (1966). بعد ثلاث سنوات وجدناه لجانب راكيل ولش و(نجم الكرة سابقاً) جيم براون في فيلم وسترن أميركي للمخرج توم غرايز عنوانه «100 بندقية».
بعده بضعة أفلام ما بين الأكشن والبوليسي والوسترن من بينها «سام ويسكي» و«قرش» (صوره المخرج سام فولر في البحر الأحمر) و«بوليس» (Fuzz). هذا الأخير من إخراج التلفزيوني عادة بَز كوليك كذلك فيلم «تحري»، فيلم بوليسي مقبول آخر.
- في عام 1972 برز بيرت رينولدز الذي لا يُنسى
كان ذلك عندما قام المخرج الآيرلندي بتحقيق فيلم «خلاص» (Deliverance) سنة 1972. كان المخرج قد فكر في لي مارڤن بالدور وبمارلون براندو، لكن بعد اطلاع مارفن على السيناريو أوعز لبورمان أنه وبراندو أكبر سناً من تأدية بطولة فيلم من هذا النوع الذي يتطلب جهداً بدنياً خارقاً واقترح عليه بيرت رينولدز.
الحكاية ميتافيزيقية تتمحور حول الصراع مع الطبيعة التي لا يمكن قهرها والبيئة المختلفة ما بين رجال المدينة ورجال الجبال المنعزلة. تلك التي تجعل من أربعة رجال أعمال (رينولدز، وجون فويت، وند بيتي وروني كوكس) ضحايا من دون أي توقعات مسبقة. الأربعة يقررون الذهاب برحلة في نهر جارف قبل بناء سد عليه. ما يحدث خلال الرحلة هو سيل من التحديات بينهم وبين الطبيعة كما بينهم وبين أشرار موزعين فوق تلك الجبال التي تحيط بالنهر.
رينولدز هو الأقوى شكيمة بين الجميع والذي يسأل في مشهد مهيب (بعدما قتل أحد رجال الجبال الذي اعتدى جنسياً على أحد المشاركين في الرحلة) «أين القانون هنا؟». عبارة تلخص بعض جوانب ذلك الصراع.

- العزف على أوتار قليلة
من هذا الفيلم دلف رينولدز إلى الوسترن مرة أخرى في «الرجل الذي أحب كات دانسينغ» (ريتشارد سرافيان، 1973) وفي العام ذاته «برقٌ أبيض» (White Lightning) لجوزيف سرجنت، وفي عام 1974 دور رائع آخر في «ذا لونغست يارد» (The Longest Yard) لروبرت ألدريتش.
«وايت لايتنينغ» كان الأول في اتجاه جديد لتقديم ما هو خفيف ومغاير يوفر للمشاهدين صورة مازجة بين القوة وبين الخفة الكوميدية. في هذا السبيل وجدناه لاحقاً في «غاتور» الذي كان أول إخراج له، وسلسلة «سموكي أند ذا باندت» (التي نتج عنها سلسلة كوميدية ناجحة تقوم على سباق السيارات السريعة تبعتها سلسلة أخرى هي «كانونبول»).
رينولدز انجرف عملياً في هذا النوع من الأفلام المتوسطة القيمة، لكنها ذات الإقبال الجماهيري الناجح. فضلها على فرص صنعت للآخرين أمجاداً من بينها الفرصة التي أتيحت له للعب بطولة أول «ستار وورز»، ذلك الدور الذي قام به هاريسون فورد بعد ذلك.
ربما لم يخطط لمستقبله جيداً. هذا يحدث مع الكثير ممن يجدون شهرة ونجاحاً في إطار واحد (أو إطارين) من الأدوار. ليس أن رينولدز كان متعدد القدرات الأدائية. في الواقع كان يجيد العزف على أوتار قليلة من بينها ابتسامته وكياسته المستخدمتان كبصمة تدل عليه. من بينها أيضاً وسامته التي سهلت له دخول قلوب المعجبات وحتى المعجبين. لكنه لم يكن من ذوي القدرات التي تعلو كثيراً عن تلك الاستخدامات.
كلينت إيستوود (وكلاهما التقيا مرة واحدة على الشاشة في فيلم ضعيف الحياكة اسمه «سيتي هيت»، لريتشارد بنجامِين) كان مثله في الانفرادية والنبرة التمثيلية التي قليلاً ما تتغير، لكنه أدار حياته المهنية بذكاء أعلى وحشد طاقة رائعة من فن الإخراج لم تتوفر لرينولدز.
ليس أن رينولدز لم يكن طموحاً. كذلك فإن الأفلام التي أخرجها (خمسة أفلام للسينما وسبعة للتلفزيون) لم تكن رديئة، ساقطة أو خفيفة المعالجة. كانت، مثل معظم أدواره، أعلى بقليل من منتصف الطريق بين الاعتيادية وبين الإجادة التامة. لا يمكن في «آلة شاركي» (1981) و«ستِك» (Stick سنة 1985) إلا ملاحظة رغبته في تقديم فيلم جيد، لكن جيد فقط ضمن النوع البوليسي الذي يرتاده. ضمن توليفة محسوبة بين أداء جيد وفيلم جيد إنما تحت مظلة النوع (Genre) المحددة.

- بوليسي - كوميدي
نجوميته تكونت من مزاياه البدنية ومن ملامحه كما من إصراره على القيام بمشاهد الخطر بنفسه قبل سنوات كثيرة من اعتماد توم كروز على هذا المنوال من الأداءات. لكن إلى جانب ذلك كان لامعاً في الأفلام التي تحمل بطياتها مضامين جادة حتى في الأفلام الكوميدية وعلى نحو خفي.
في سلسلة «سموكي أند ذي باندت» لعب شخصية متمرد على السلطة وكبار الرأسماليين الذين يحاولون الفوز دائماً بكل شيء تاركين لا شيء يُذكر لمتوسطي الدخل أو دونهم. في «خلاص» هو عنوان الصراع الذي تحدثنا عنه آنفاً. الرجل الذي يؤمن بالقوة وقتما يؤمن الآخرون بالسلامة. ويتبلور الموقف جيداً في فيلم روبرت ألدريتش الرائع «ذي لونغست يارد» (1974)، حيث يلعب رينولدز شخصية لاعب كرة، دخل السجن الذي يسيطر على أقدار من فيه، مدير فاسد (إيدي ألبرت)، ورئيس حرس مشابه (إد لوتر). المدير يطلب من بول (رينولدز) أن يؤلف فريق كرة رغبي لينازل فريق الحرس وعندما ينطلق لفعل ذلك يضع له العراقيل، من ثم يطلب منه أن يخسر المباراة. هنا يوجه ألدريتش الاتهام إلى السلطة السياسية والإدارية، وينشط رينولدز في تمثيله، لعكس صورة الأميركي الذي يرفض أن يكون ضحية.
الفيلم أُعيد صنعه سنة 2005، لكن هذه الإعادة لا تستحق أكثر من الذكر.
حين داهمه العمر وأصبح في العقد الخمسيني، لم يكن أمام رينولدز سوى الاستمرار في منهج من الأدوار البوليسية والكوميدية تبعاً لما قد ينجح في اللحظة المناسبة. بعد «سيتي هيت» و«ستِك» شاهدناه في «حرارة» لدك ريتشاردس، (يقال إن خلافاً بينهما أدى إلى نشوب معركة بالأيدي بينهما) و«مالوني» و«اقتحام» وهي بوليسية في حين «استأجر شرطياً» و«تغيير قنوات» فيلمان كوميديان. أول هذين الفيلمين كان ناجحاً إلى حد تبوء بطولة فيلم مماثل خلال التسعينات عنوانه «شرطي ونصف».
تلك التسعينات كانت صعبة. مسيرة إيستوود ما زالت متصاعدة. مسيرة رينولدز في ذلك العقد كانت - بأفضل حالاتها - ملبدة بغيوم سنوات العمر التي بدأت تظهر عليه. هنا تدخل بول توماس أندرسن ومنحه دوراً جيداً في «بوغي نايتس»، لكنه كان دوراً مناسباً لسن رينولدز وتذكيراً به.
على ذلك قلما غاب رينولدز عن العمل. ظهر في أدوار مساندة وصغيرة طوال العقدين الماضيين من ثم عاد إليه النشاط حتى ضمن هذه الأدوار الصغيرة فظهر في ثلاثة أفلام سنة 2016، وفي أربعة أفلام في سنة 2017، وفيلمين قبل وفاته هما «محارب ظل» و«لحظات محددة».


مقالات ذات صلة

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)
يوميات الشرق عصام عمر خلال العرض الخاص للفيلم (حسابه على فيسبوك)

عصام عمر: «السيد رامبو» يراهن على المتعة والمستوى الفني

قال الفنان المصري عصام عمر إن فيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» يجمع بين المتعة والفن ويعبر عن الناس.

انتصار دردير (القاهرة )
يوميات الشرق الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم في شخصية المغنّي العالمي شارل أزنافور (باتيه فيلم)

«السيّد أزنافور»... تحيّة موفّقة إلى عملاق الأغنية الفرنسية بأيادٍ عربية

ينطلق عرض فيلم «السيّد أزنافور» خلال هذا الشهر في الصالات العربية. ويسرد العمل سيرة الفنان الأرمني الفرنسي شارل أزنافور، من عثرات البدايات إلى الأمجاد التي تلت.

كريستين حبيب (بيروت)

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)