خلف إبراهيم... «مكوجي رِجل» يقاوم الزمن في شارع كلوت بك

الأسطى خلف يرقص بقدميه على المكواة في محله («الشرق الأوسط»)
الأسطى خلف يرقص بقدميه على المكواة في محله («الشرق الأوسط»)
TT

خلف إبراهيم... «مكوجي رِجل» يقاوم الزمن في شارع كلوت بك

الأسطى خلف يرقص بقدميه على المكواة في محله («الشرق الأوسط»)
الأسطى خلف يرقص بقدميه على المكواة في محله («الشرق الأوسط»)

منذ أكثر من 20 عاماً، جاء خلف إبراهيم محمد إلى حارة «البرقي» في قلب منطقة كلوت بك التاريخية بالعاصمة القاهرة ليفتح محل «مكوجي رِجل»، وهي مهنة تكاد تختفي من بر مصر، بسبب الآلات التي استحدثت في مجال كي الملابس، وانتشار المغاسل، ومكاوي البخار في كل مكان.
كان قبل ذلك لديه محلات في مناطق ساقية مكي بالجيزة، وفي مصر القديمة، وهناك قضى 10 سنوات، كان يكوي الجلباب نظير 75 قرشاً لمعلمي المدبح القريب من المنطقة في حي السيدة زينب، لكن بعد نقل المدبح إلى منطقة البساتين أصيب العمل بالكساد، فاضطر إلى الانتقال إلى مكانه الحالي.
عرف خلف مكواة الرجل أو «القدم» وهو صبي صغير في سن 12 عاماً، كان وقتها يعيش في مدينة بني سويف جنوب القاهرة، وقد تعلم المهنة على يد معلمين كبار في بلدته الصغيرة (الفشن)، ولا يزال حتى الآن رغم مرور 50 عاماً على أيامه الأولى في العمل، يتذكر من علموه، «عم علي، وعم أحمد، فهما أصحاب الفضل الأول علي في تعلم الصنعة». ويذكر خلف أن أول مبلغ تقاضاه نظير كي قطع الملابس كان 5 قروش، ثم تتابعت الزيادات بعدها إلى 10 قروش، وربع جنيه، وهكذا، ومن حصيلة هذه المبالغ البسيطة تزوج خلف وكون أسرة وأنجب أطفالاً، قام بتربيتهم وتعليمهم، وزوج بعضهم، وسعى لتعليمهم مهنته، التي لم يستطيعوا عليها صبراً، وغادروها جميعاً إلى مهن أخرى أكثر سهولة، وربحاً.
في المحل الصغير الذي يعمل فيه خلف الذي تجاوز عمره 60 عاماً، توجد مكواتا رِجل، يتبادل تسخينهما على موقد في ركن منه، وعندما تبلغ الواحدة منهما درجة حرارة معينة يرفعها ليضع الأخرى مكانها، ويبدأ في عملية الكي، حيث يضع قطعة قماش بيضاء من القطن، قال إنها تمنع تغيير لون الملابس، أو احتراقها، والتصاق جسم المكواة بها، راح يفرد بنطلوناً أسود، بعد أن رشه بالماء، وبلل قطعة القماش وفرشها عليه، وقال فائدتها الحقيقية أنها لا تجعل اللون الأسود يلمع من أثر الكي، «تعرف لم يحدث مرة في حياتي منذ أن تعلمت هذه المهنة أن أحرقت (قطعة هدوم)، حتى فساتين النساء ذات القماش الحريري الخفيف كنت أخرجه من تحت مكواتي كأنه مقبل من المصنع».
يحكي لنا: «أنجبت تسعاً من الأولاد والبنات، وعشت مستوراً من صنعتي هذه، وجميعهم تعلموا، ومنهم من تزوج أيضاً، حتى أزواج بناتي كنت حريصاً على نقل فنونها لهم، كانوا يأتون لمساعدتي والعمل معي، لكنهم بعد فترة معينة انتقلوا إلى أعمال أخرى، منهم من توظف في الزراعة، وصار لا يسأل عني، ومنهم من يعمل في تجارة المواشي، الوحيد الذي تعلم مني وافتتح محلاً، وما زال يعمل حتى الآن هو زوج ابنتي الوسطى، أما أصغر أولادي فيأتي دائماً ليساعدني، وفي المواسم والأعياد يظل قبلها بأيام يعمل معي، ويسهر للصباح لتسليم الزبائن ملابسهم، قبل صلاة العيد».
وأشار خلف إلى أنه يتقاضى حالياً 5 جنيهات نظير كي البنطلون، وجنيهين اثنين للقميص، أما الجلباب، فلا يأتيه منه سوى القليل، ويكون في الغالب لزبائن يسكنون في الفنادق الموجودة في كلوت بك، وقادمون للشراء أو البيع... توقفت قدم خلف عن الحركة فوق البنطلون، وقال: «قبل 20 عاماً كان لدي محل قريب من المدبح، كانت ملابس تجار اللحوم والجزارين تملأ دكاني، ولا أتوقف عن العمل، لكنهم بعد نقله من مكانه، غادر الجزارون، وما عاد يأتي لنا أحد فاضطررنا إلى المجيء إلى هنا، كنا نستخدم بابور الكيروسين، الآن نستخدم أنابيب الغاز، التي ترتفع أسعارها دائماً، كانت بـ7 جنيهات، الآن صار سعرها 140 جنيهاً، أضف إلى ذلك 700 جنيه قيمة الإيجار الشهري للمحل، لكني لا أريد أن أجلس في منزلي، لو حدث ذلك سوف أصاب بالشلل والعجز، وأنا لا أريد أن أموت إلا وتراب الشوارع فوق قدمي، هكذا أدعو الله دائماً، لا أريد أن يتحمل أحد عبء شيخوختي، وكبر سني، الكل ملهي في حياته ومعيشته، والأعباء ثقيلة ولا طاقة لزيادات أخرى».
وأشار خلف إلى أن مكواة الرجل مهمة في كي الصوف، وملابس الكتان، وهي الأكثر فائدة في فرد القماش، وهي مصنعة من الحديد الزهر، ومثبت فوقها قطعة من الخشب «أضع فوقها قدمي لأحركها يميناً ويساراً، وهي تختلف عن المكواة الصغيرة، التي امتهنها الكثيرون هذه الأيام، لأنها سهلة التعلم، ويستطيع الواحد منهم كيّ ضعف ما أقدمه من قطع، لكنه لا يمكن أن تكون لديه هذه الجودة التي تخرج بها الملابس من تحت قدميّ».



ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
TT

ستيف بركات لـ«الشرق الأوسط»: أصولي اللبنانية تتردّد أبداً في صدى موسيقاي

عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية     -   ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)
عازف البيانو ستيف بركات ينسج موسيقاه من جذوره اللبنانية - ستيف بركات يؤمن بالموسيقى لغة عالمية توحّد الشعوب (الشرق الأوسط)

ستيف بركات عازف بيانو كندي من أصل لبناني، ينتج ويغنّي ويلحّن. لفحه حنين للجذور جرّه إلى إصدار مقطوعة «أرض الأجداد» (Motherland) أخيراً. فهو اكتشف لبنان في وقت لاحق من حياته، وينسب حبّه له إلى «خيارات مدروسة وواعية» متجذرة في رحلته. من اكتسابه فهماً متيناً لهويته وتعبيره عن الامتنان لما منحه إياه الإرث من عمق يتردّد صداه كل يوم، تحاوره «الشرق الأوسط» في أصله الإنساني المنساب على النوتة، وما أضفاه إحساسه الدفين بالصلة مع أسلافه من فرادة فنية.
غرست عائلته في داخله مجموعة قيم غنية استقتها من جذورها، رغم أنه مولود في كندا: «شكلت هذه القيم جزءاً من حياتي منذ الطفولة، ولو لم أدركها بوعي في سنّ مبكرة. خلال زيارتي الأولى إلى لبنان في عام 2008. شعرتُ بلهفة الانتماء وبمدى ارتباطي بجذوري. عندها أدركتُ تماماً أنّ جوانب عدة من شخصيتي تأثرت بأصولي اللبنانية».
بين كوبنهاغن وسيول وبلغراد، وصولاً إلى قاعة «كارنيغي» الشهيرة في نيويورك التي قدّم فيها حفلاً للمرة الأولى، يخوض ستيف بركات جولة عالمية طوال العام الحالي، تشمل أيضاً إسبانيا والصين والبرتغال وكوريا الجنوبية واليابان... يتحدث عن «طبيعة الأداء الفردي (Solo) التي تتيح حرية التكيّف مع كل حفل موسيقي وتشكيله بخصوصية. فالجولات تفسح المجال للتواصل مع أشخاص من ثقافات متنوعة والغوص في حضارة البلدان المضيفة وتعلّم إدراك جوهرها، مما يؤثر في المقاربة الموسيقية والفلسفية لكل أمسية».
يتوقف عند ما يمثله العزف على آلات البيانو المختلفة في قاعات العالم من تحدٍ مثير: «أكرّس اهتماماً كبيراً لأن تلائم طريقة عزفي ضمانَ أفضل تجربة فنية ممكنة للجمهور. للقدرة على التكيّف والاستجابة ضمن البيئات المتنوّعة دور حيوي في إنشاء تجربة موسيقية خاصة لا تُنسى. إنني ممتنّ لخيار الجمهور حضور حفلاتي، وهذا امتياز حقيقي لكل فنان. فهم يمنحونني بعضاً من وقتهم الثمين رغم تعدّد ملاهي الحياة».
كيف يستعد ستيف بركات لحفلاته؟ هل يقسو عليه القلق ويصيبه التوتر بإرباك؟ يجيب: «أولويتي هي أن يشعر الحاضر باحتضان دافئ ضمن العالم الموسيقي الذي أقدّمه. أسعى إلى خلق جو تفاعلي بحيث لا يكون مجرد متفرج بل ضيف عزيز. بالإضافة إلى الجانب الموسيقي، أعمل بحرص على تنمية الشعور بالصداقة الحميمة بين الفنان والمتلقي. يستحق الناس أن يلمسوا إحساساً حقيقياً بالضيافة والاستقبال». ويعلّق أهمية على إدارة مستويات التوتّر لديه وضمان الحصول على قسط كافٍ من الراحة: «أراعي ضرورة أن أكون مستعداً تماماً ولائقاً بدنياً من أجل المسرح. في النهاية، الحفلات الموسيقية هي تجارب تتطلب مجهوداً جسدياً وعاطفياً لا تكتمل من دونه».
عزف أناشيد نالت مكانة، منها نشيد «اليونيسف» الذي أُطلق من محطة الفضاء الدولية عام 2009 ونال جائزة. ولأنه ملحّن، يتمسّك بالقوة الهائلة للموسيقى لغة عالمية تنقل الرسائل والقيم. لذا حظيت مسيرته بفرص إنشاء مشروعات موسيقية لعلامات تجارية ومؤسسات ومدن؛ ومعاينة تأثير الموسيقى في محاكاة الجمهور على مستوى عاطفي عميق. يصف تأليف نشيد «اليونيسف» بـ«النقطة البارزة في رحلتي»، ويتابع: «التجربة عزّزت رغبتي في التفاني والاستفادة من الموسيقى وسيلة للتواصل ومتابعة الطريق».
تبلغ شراكته مع «يونيفرسال ميوزيك مينا» أوجها بنجاحات وأرقام مشاهدة عالية. هل يؤمن بركات بأن النجاح وليد تربة صالحة مكوّنة من جميع عناصرها، وأنّ الفنان لا يحلّق وحده؟ برأيه: «يمتد جوهر الموسيقى إلى ما وراء الألحان والتناغم، ليكمن في القدرة على تكوين روابط. فالنغمات تمتلك طاقة مذهلة تقرّب الثقافات وتوحّد البشر». ويدرك أيضاً أنّ تنفيذ المشاريع والمشاركة فيها قد يكونان بمثابة وسيلة قوية لتعزيز الروابط السلمية بين الأفراد والدول: «فالثقة والاهتمام الحقيقي بمصالح الآخرين يشكلان أسس العلاقات الدائمة، كما يوفر الانخراط في مشاريع تعاونية خطوات نحو عالم أفضل يسود فيه الانسجام والتفاهم».
بحماسة أطفال عشية الأعياد، يكشف عن حضوره إلى المنطقة العربية خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل: «يسعدني الوجود في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كجزء من جولة (Néoréalité) العالمية. إنني في مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على التفاصيل والتواريخ لنعلن عنها قريباً. تملؤني غبطة تقديم موسيقاي في هذا الحيّز النابض بالحياة والغني ثقافياً، وأتحرّق شوقاً لمشاركة شغفي وفني مع ناسه وإقامة روابط قوامها لغة الموسيقى العالمية».
منذ إطلاق ألبومه «أرض الأجداد»، وهو يراقب جمهوراً متنوعاً من الشرق الأوسط يتفاعل مع فنه. ومن ملاحظته تزايُد الاهتمام العربي بالبيانو وتعلّق المواهب به في رحلاتهم الموسيقية، يُراكم بركات إلهاماً يقوده نحو الامتنان لـ«إتاحة الفرصة لي للمساهمة في المشهد الموسيقي المزدهر في الشرق الأوسط وخارجه».
تشغله هالة الثقافات والتجارب، وهو يجلس أمام 88 مفتاحاً بالأبيض والأسود على المسارح: «إنها تولّد إحساساً بالعودة إلى الوطن، مما يوفر ألفة مريحة تسمح لي بتكثيف مشاعري والتواصل بعمق مع الموسيقى التي أهديها إلى العالم».