تنظيم «القاعدة» يزحف إلى المناطق «الرخوة»

توسّع في اليمن وأفريقيا... و«حمزة» في المشهد

سيارة مفخخة ببصمة عناصر «حركة الشباب» أحالت وسط مقديشو إلى خراب ودمار (أ.ف.ب)
سيارة مفخخة ببصمة عناصر «حركة الشباب» أحالت وسط مقديشو إلى خراب ودمار (أ.ف.ب)
TT

تنظيم «القاعدة» يزحف إلى المناطق «الرخوة»

سيارة مفخخة ببصمة عناصر «حركة الشباب» أحالت وسط مقديشو إلى خراب ودمار (أ.ف.ب)
سيارة مفخخة ببصمة عناصر «حركة الشباب» أحالت وسط مقديشو إلى خراب ودمار (أ.ف.ب)

بعد مرور 30 عاماً على تأسيس «القاعدة»... بداية من 1987 عندما أقام أسامة بن لادن (زعيم القاعدة السابق) مخيم تدريب في أفغانستان، وأصبح فيما بعد يعرف باسم «القاعدة». بات التنظيم الذي يمتلك سجلاً أسود في العمليات الإرهابية، يتقدم في المشهد الدموي على «أطلال» غريمه «داعش»، وبدأ «القاعدة» يخطط ليكون التنظيم الأول، كما كان قبل ظهور «داعش»... والفترة الأخيرة شهدت زيادة نشاطات «القاعدة» في اليمن؛ فالتنظيم استطاع أن يستغل هذه الحرب لزيادة أسهمه، ورغم أن نشاطاته الإرهابية قلت مؤخراً، زاد أسهمه، ووجوده. فتنظيم القاعدة الذي قاد حركة «الجهاد العالمي» منذ نحو العقدين، ونفذ عملية هزت أميركا في «11 سبتمبر (أيلول)» عام 2001، كما قام بتفجير مبنى سفارتي الولايات المتحدة الأميركية في نيروبي ودار السلام بكينيا؛ مما أسفر عن مقتل أكثر من 300 شخص عام 1998، تعرض لمرحلة «خفوت» عززها ظهور «داعش»؛ إلا أن الأخير دخل في مرحلة خسارة الأرض والنفوذ بالعراق وسوريا، ولاذت عناصره الأكثر شهرة بالفرار.
مختصون في الحركات الأصولية بمصر قالوا لـ«الشرق الأوسط»، إن «القاعدة» لن ينتهي أو يتلاشى؛ لأن عوامل البقاء موجودة وتغذيها بعض المشكلات الإقليمية والدولية... فالتنظيم لم يخف خلال السنوات السبع الماضية سعيه الحثيث للحضور ضمن دائرة التأثير في شمال وغرب أفريقيا، وجدّد خلال تلك المدة شبكاته وهياكله وتطوير خطابه الإعلامي.
وأكد المختصون، أن «القاعدة» توسع في اليمن أيضاً، والزحف قادم في المناطق «الفارغة والرخوة» مثل، الصحراء الغربية في ليبيا، وبعض المناطق بالسودان، والصومال، وإريتريا، واليمن، وسوريا، والعراق، وفي آسيا، وفي عدد من العواصم الكبيرة الضخمة التي بها عناصر لها مظلوميات داخل دولها مثل «الصين، وفرنسا، وألمانيا».

تقدم بعد زوال
قتل «بن لادن» عام 2011 عندما داهمت القوات البحرية مجمعه في أبوت آباد في باكستان، وتوقع البعض حينها أن يؤدي ذلك إلى زوال «القاعدة»؛ لكن لم يحدث هذا، حيث بحلول نهاية العام الماضي، كان «داعش» في حالة يرثى لها؛ إذ حررت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة المدن العراقية والسورية، التي كانت تحت سيطرة «داعش»، وبدأ تنظيم القاعدة يتقدم من جديد وينتعش.
من جهته، أكد عمرو عبد المنعم، الخبير المتخصص في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن هناك تطوراً لتنظيم القاعدة خلال الأشهر الماضية، والذي يدلل على ذلك تطوران، الأول هو أن الفكر القاعدي لا ينتهي ولا يندثر؛ لأن عوامل بقائه واستمراره متوافرة في العالمين العربي والغربي، وبالتالي ينحصر ثم يتقدم من جديد. أما التطور الآخر، فهو الصراع الحقيقي بين «القاعدة» و«داعش»، ومن هم القادة الفعليون للتنظيم الأصلي؟ مضيفاً أن «الضربات التي تلقاها (داعش) في سوريا والعراق، جعلت (القاعدة) يحاول أن يرث الإرث الداعشي، وبخاصة أن هناك أكثر من إصدار مرئي لأيمن الظواهري زعيم (القاعدة) يهاجم فيه (داعش) وزعيمها أبو بكر البغدادي، وأنهما (أي «داعش» والبغدادي) يسعيان لشق صف المسلمين، وأنهم صاروا أسوأ من (الخوارج) فلم يكتفوا بتكفير المسلمين بما ليس بمُكفر؛ بل كفروا العلماء والصالحين والمجاهدين».

تآكل «داعش»
وقال مراقبون، إن هجوم «الظواهري» على «البغدادي» عزز الخلاف بين «القاعدة» و«داعش» منذ الإعلان عن «الخلافة المزعومة» في 2014؛ إذ كان زعيم «داعش» ومن معه يرون أن فرض «دولة» بالقوة هو الخيار الوحيد لتنفيذ حلم «الإسلاميين» في دولة؛ في حين كان يرى «القاعدة» أن طرح فكرة «الدولة الإسلامية» في الظروف الدولية الحالية يضر بالفكرة وسيكون مصيرها الفشل.
لكن انتهاء «داعش» الذي تآكلت «دولته المزعومة» عقب الانتصارات الواسعة التي حققتها القوات المتعاونة بقيادة أميركا، دفع كثيراً من «المتطرفين» لفقد انبهارهم بـ«داعش»؛ وهو ما يعني نجاحاً ضمنياً لتصور «القاعدة» عن «داعش» - على حد زعم التنظيم -، وفي سبيل ذلك يسعى «القاعدة» لاستعادة صدارة التنظيمات الإرهابية.
ويتفق المختصون والمراقبون على أن «القاعدة» يشارك «داعش» الأهداف نفسها بعيدة المدى؛ لكنها تسير على طريق مختلفة، تريد أن تسير في بطء وفي حذر... وكان تنظيم «القاعدة» يستثمر في العمل طويل المدى. رغم اختفائه كثيراً من الساحة، ظل باقياً، وها هو يتجدد الآن قائداً للحركة الجهادية العالمية.

تأهيل حمزة
وبشأن كون حمزة بن لادن مؤهلاً لقيادة «القاعدة» مستقبلاً، لم يستبعد عبد المنعم ذلك، مؤكداً قد يكون التنظيم يعد «حمزة» لخلافة «الظواهري» أو أي قيادة أخرى. ويدلل على ذلك بأن التنظيم لا يثق في أي قيادة من خارج «القاعدة»؛ لذلك يتم تصعيده من باب التوثيق. فبعض قيادات «القاعدة» تدفع بـ«حمزة» لكونه «فلاش» إعلامياً، ليقول التنظيم إنه «باقٍ». في حين ترى قيادات أخرى في «القاعدة» أنه لا يتولى القيادة إلا من هو أكبر القيادات سناً، والذي لم يتعرض لمحن، وليس لديه أي شبهات في تاريخه.
وقال عبد المنعم، إن الجانب الفكري عند «القاعدة» و«داعش» واحد؛ لكن الصراع بات واضحاً في «الخلافة» ومن يتولى «الخلافة» ومن بايع من؟، فتأخر الإعلان عن وفاة المُلا عمر (الزعيم الروحي لحركة طالبان الأفغانية) أكثر من عامين ونصف العام ساهم في إحداث فجوة كبيرة. فضلاً عن استراتيجية «داعش» في الحرب على العالم كله، لكن «القاعدة» ترى الحرب بالوكالة أو المرحلية أو تقديم عدو على عدو، أو تصفية الأعداء وفي بعض المراحل الأنظمة أو الغرب... فوجود «القاعدة» أو «داعش» لن ينتهي أو يتلاشى؛ لأن عوامل البقاء موجودة وتغذيها بعض المشكلات الإقليمية والدولية.

توسعات مستقبلية
كما رصدت الكثير من الدراسات والتقارير الدولية، تمدد «القاعدة» في شمال وغرب أفريقيا، وبخاصة دول مجموعة الساحل مضافاً إليها تونس والجزائر... وأن التنظيم يمثل التهديد الأول والأخطر على أمن واستقرار منطقة شمال وغرب أفريقيا... وسبق أن هدد فرع لتنظيم القاعدة بشن هجمات على شركات غربية في شمال وغرب أفريقيا، ودعا إلى مقاطعتها.
وعن توسعات «القاعدة» الحالية على حساب «داعش»، قال عبد المنعم، إن «القاعدة» توسع في أفريقيا واليمن، والزحف قادم في المناطق الفارغة، فضلاً عن توسعات قادمة في المستقبل للتنظيم، وليس أمامنا سوى ملء الفراغين السياسي والفكري؛ لأنه حتى في تعامل «القاعدة» مع الغرب كانت له أكثر من طريقة، ومهم جداً أن نعرف استراتيجيات تنظيمات العنف والإرهاب... فعندما انتقل «القاعدة» من أفغانستان إلى العراق كان أقل حدة في التعامل مع الأمر السياسي، وعندما انتقل لسوريا حدث المشهد نفسه، وهذا سبب انتقال عناصر من «القاعدة» إلى «داعش».
ويؤكد المراقبون أن الوسائل التي يعتمد عليها تنظيم «الظواهري» في المناطق التي يتمدد فيها تتمثل في «عمليات اختطاف وتبادل الرهائن الأجانب، وتجارة المخدرات، وبيع السلاح، وغسل الأموال، والسرقة والنهب، وتهريب المهاجرين، والتبرعات، وتحويل الأموال، من الجمعيات غير الشرعية».

هيكلة جديدة
في غضون ذلك، أعدت دار الإفتاء المصرية دراسة عن تنظيم «القاعدة»، وكشفت عن أن التنظيم لم يخف خلال السنوات السبع الماضية سعيه الحثيث للحضور ضمن دائرة التأثير في شمال وغرب أفريقيا، وجدّد خلال تلك المدة شبكاته وهياكله وتطوير خطابه الإعلامي.
وأوضح معدو الدراسة، أن التنظيم سعى إلى الامتثال لتعليمات «الظواهري» بضرورة عمل تحالف واندماج الجماعات «المتطرفة» في محاولة لمعالجة التشتت والتخبط التنظيمي، الذي عانى منه التنظيم خلال السنوات الماضية؛ وهو ما أضعفه. لذا؛ عملت خمسة أفرع تابعة للتنظيم في المنطقة على تبني نهج التحالف والاندماج تحت اسم «نصرة الإسلام والمسلمين»، وهو يعد التنظيم الأخطر في المنطقة منذ تأسيسه في 2017 لجهة عدد العمليات في مالي.
ويشار إلى أن لتنظيم القاعدة 5 أفرع، هي «جبهة النصرة في سوريا، والقاعدة في شبه الجزيرة العربية باليمن، والقاعدة في شبه القارة الهندية بجنوب آسيا، والشباب في الصومال، والقاعدة في المغرب الإسلامي بشمال أفريقيا»، وهناك روابط مع مجموعات أخرى في سوريا، وأفغانستان، وباكستان، وغرب أفريقيا.

الذئاب المنفردة
في هذا الصدد، لفت عمرو عبد المنعم إلى أنه لا بد من أن نفرق بين التنظيمات التي تواجه أنظمة عربية أو غربية، والتي تولد من رحم هذه التنظيمات، والتي تبدأ من الصفر، فالتنظيمات الكبيرة مثل «القاعدة» ولها تاريخ، إذا لم تتلاشَ فسوف تتحول إلى تنظيمات أخرى؛ لذلك سوف يتوسع تنظيم القاعدة في مناطق أخرى «فضاء ورخوة»، مثل، الصحراء الغربية في ليبيا، ومناطق بالسودان، والصومال، وإريتريا، وبعض المناطق في اليمن، وسوريا، والعراق، وفي آسيا، وفي عدد من العواصم الكبيرة الضخمة التي بها عناصر لها مظلوميات داخل دولها مثل «الصين، وفرنسا، وألمانيا»، مضيفاً: ينشط القاعدة في هذه الأماكن عن طريق «الذئاب المنفردة» أو ما يعرف باسم «العملية الواحدة»، وفيها عنصر واحد يساعده آخر، الأول يتم توقيفه من قبل سلطات الدول أو يقتل في عملية انتحارية، والآخر يذهب للتنظيم بالعملية ليعلنها للجميع... لذا؛ سوف نجد نشاطاً أكبر لـ«القاعدة» وهذا مكمن الخطر.
ويرى المراقبون أيضاً، أن كثيراً من الجماعات والتنظيمات الإرهابية التي تلقت تدريبات على يد عناصر «القاعدة» انفصلت عن التنظيم خلال السنوات الماضية وانضمت إلى تنظيمات أخرى مثل «داعش».
ويسعى «القاعدة» إلى ضم هؤلاء «الدواعش» الآن. وذكرت دراسة دار الإفتاء، أنها اعتمدت على شواهد كثيرة تدل على تنامي «القاعدة» منذ عام 2017 بعد أن تمكن التنظيم من إعادة بناء قدراته بهدوء خلال السنوات الماضية، في ظل توقعات بأن يكون التنظيم أكثر نشاطاً وخطورة على الأمن القومي لعدد من المناطق الإقليمية ودول بعينها في شمال وغرب أفريقيا.
وأكدت الدراسة وجود علاقة قوية بين المراجعات التي أعدها قيادات من التنظيم بهدف إعادة إحيائه وتجديد نشاطه، وبين ممارسات التنظيم خلال السنوات الماضية؛ وهو ما يؤشر إلى أهمية تلك المراجعات في فهم ورصد أهم الاستراتيجيات التي سينطلق منها التنظيم لتنفيذ عملياته، كما أنها تساعد على رصد الأهداف التي يمكن للتنظيم استهدافها في عمليات تمدده. كذلك، تعطي صورة أوضح لفهم خطاب التنظيم الإعلامي.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.