كمال داود صاحب «البشرة السوداء والقناع الأبيض»

يبدو الرجل وكأنّه أصيب بالانفصام فانقلب إلى سحنة لا تشبه جيناتها

كمال داود
كمال داود
TT

كمال داود صاحب «البشرة السوداء والقناع الأبيض»

كمال داود
كمال داود

قبل ثلاثة أعوام لفت كاتب جزائري مغمور اسمه كمال داود الأنظار في فضاء الثقافة الفرانكوفونيّة عندما صدرت روايته (قضيّة ميرسو)، وما لبثت أن طبعت عدة مرات وترجمت إلى عدّة لغات وأثارت الكثير من الجدل في الصحف ومجلات الثقافة. فميرسو هذا الذي استدعاه داود كان بالفعل بطل رواية ألبير كامو الذائعة الصيت (الغريب - 1942) التي يعدّها كثيرون الأنموذج الأعلى لروايات الاغتراب وأدب العبث. لكن داود اختار أن يعيد سرد أحداث تلك الرواية، وهذه المرّة على لسان شقيق الرجل الذي قتله ميرسو في نص كامو. نظريّة داود في تفكيك (غريب) كامو وإعادة قراءة أحداث نصه، أن مؤلفها المعروف عالمياً بمواقفه السياسيّة التقدميّة، سقط في الرواية التي خطّها ضحيّة لنظرة كولونياليّة تسربت إلى لا وعي الفرنسيين، فجعلتهم يُهمشون شخصيّة الجزائري – الآخر - ويتعاطون معها بوصفها مجرد خلفيّة لصراعات الأبطال الغربيين. لمَسَ طرح داود الجريء هذا أوتاراً حسّاسة عند المؤسسة الأدبيّة الفرنسيّة، التي طالما اعتبرت كامو – ربما دون مواقفه السياسيّة – نجم الرّواية الفرنسية في النّصف الثاني من القرن العشرين، ليصبح داود - وروايته التي ولدت من تحت عباءة (الغريب) - موضع أخذ وشدّ بين النقاد، وما لبثت أن ذاعت شهرتها بوصفها تحريراً للرّواية الشهيرة من أدران الثقافة الكولونياليّة ذات النظرة الاستعلائيّة تجاه أهل البلاد الأصليين.
الروائي الجزائري المغمور الذي تجرأ على إعادة تركيب كامو بعد تفكيكه أصبح في يوم وليلة نجم الرواية الفرنسيّة المعاصرة، وفتحت له (قضيّة ميرسو) أبواب الصحف الفرنسيّة الكبرى لينشر فيها مقالات يوميّة تتناقل بعضها «نيويورك تايمز» – صحيفة أميركا الأولى -، وقد جمعت بعضها في كتاب صدر حديثاً بالفرنسيّة والإنجليزيّة.
كان الجميع بانتظار التهام وجبات الأفكار اليوميّة لصوت جزائر ما بعد الكولونياليّة لا سيّما في أجواء الحروب الثقافيّة بين الحضارات التي يشهدها الغرب نتاج صعود الفاشيات الجديدة وتفشي كراهيّة الإسلام والعداء للمهاجرين من الجنوب. لكن الرجل وكأنّه أصيب بالانفصام فانقلب سحنة إنسانية أخرى تماماً لا تشبه جيناتها، يكتب نصّاً نزقاً ومنفعلاً وغارقاً لأذنيه في لجة تسطيحات استشراقيّة على أسوأ ما في الاستشراق من مثالب التسطيح.
لم يوفّر داود أحداً من سهام نقده. فهاجم سياسة التعريب التي تبنتها النخبة الجزائريّة الحاكمة بعد الاستقلال عام 1962. معتبراً إيّاها مشروعاً استعماريّاً آخر - إلى جوار المشروع الاستعماري الفرنسي على حد تعبيره -، وضع الجزائريين في حمأة مأزق لغوي فأصبحوا تائهين بين الفرنسيّة والعربيّة الفصحى واللهجات المحليّة، فلا هم فرنساويون ولا عرب ولا جزائريون، وإنما خليط ملفق من كل هؤلاء. كما صبّ غضباً كثيراً على النخبة الجزائريّة الحاكمة، وعلى القوميّة العربيّة، وعلى الشعبويّة الآخذة بزمام الأوروبيين نحو أزمنة مظلمة.
النفور المتبادل بين السّلطات الجزائريّة وداود لا يعني أن ذلك الأخير يَقْصُر اهتمامه على نقد السّلطة، إذ هو يسلق بألسنة حداد بني قومه الجزائريين العاديين، مديناً هلاميتهم وانعدام القدرة على الفعل لديهم في مواجهة جبروت الدّولة، وتعلّقهم بلعبتهم المفضّلة تحويل اللّوم عن مآسيهم – ودائماً بحسب داود - نحو الاستعمار الغربي دون أي مساءلة للذّات أو استعداد لتحمّل المسؤوليّة عمّا آلت إليه بلادهم. وهو بذات المكيال يرفض التضامن مع الفلسطينيين سوى على الصعيد الإنساني المحض، معتبراً أن القضيّة الفلسطينيّة ليست إلا مرآة لفشل العالم العربي المتراكم وتفشي الأصوليّة الإسلاميّة فيه.
في عالم الثقافة المعاصرة التي ما زالت دائبة على نزع القداسة عن كل التابوهات وإخضاعها لمشارط الفكر، فإن مساءلة السّقف العالي لداود، أو الفضاء المفتوح الذي قدّمته له أهم صحف الغرب للانتقاد والتفكيك وإعادة التكوين دون محرمات تبدو شكلاً وكأنها في سياق نظري سليم متوافق مع وقائع الحاضر وروحه. لكن النصّ الداودي – كما في مقالاته المتتابعة في صحف باريس – يبدو مثقلاً بعيوب فكريّة بنيوية، ومفتقداً إلى أي منهجيّة نظريّة محكمة في تقييمه للأحداث، ومكتفياً بلعب دور صدى مقعّر لاتجاهات اليمين الأوروبي المتطرّف مع مبالغة غير مقبولة في استخدام التنميطات الاستشراقيّة الطابع، والتعميمات عديمة المعنى التي لا تستند على أرجل، والآراء الذاتيّة التي تعتمد على تجربة الكاتب الشخصيّة المحضة وحتى المعلومات المغلوطة تاريخيّاً أو واقعيّاً.
داود - الذي كان أصوليّاً إسلاميّاً أيام شبابه قبل أن يتفرنس - يتعاطى في مقالاته مع المسلمين جميعهم وكأنهم كتلة مصمتة متعادلة الكثافة بين أجزائها، تتشارك جميعا في ذات الاستجابات الثقافيّة تجاه الذّات وتجاه الغرب، مهملاً على الإطلاق إمكان النّظر في الظروف الموضوعيّة المحليّة التي تفصل بين المسلمين في بلادهم المتعددة، ويوجه انتقادات لاذعة للمهاجرين المسلمين إلى الغرب يُشفق الغربيّون أنفسهم من قولها بألسنتهم، لا سيّما مقالته بعد حادثة كولون بألمانيا عندما تورطت مجموعة كبيرة من المهاجرين في اعتداءات جنسيّة، وهي المقالة التي تسببت وقتها بجدل واسع داخل فرنسا بعدما أصدر أكاديميون بياناً أدانوا فيه داود «الذي بدل أن يحلل ماذا حصل في كولون، اكتفى بإيراد أكليشيهات استشراقيّة الطابع تغذي مشاعر الإسلاموفوبيا لدى قطاعات من المجتمع الأوروبي».
داود صاحب «البشرة السوداء والقناع الأبيض» – على ما كان فرانز فانون يدعو أمثاله -، الذي يشتاط غضباً من كل نقد موضوعي يوجه لكتاباته، يجد مصفقين له وأكبر المدافعين عنه بين عتاة اليمين الفرنسي تحديداً، الذين يرضيهم أن يجدوا من بين بني جلدتنا من يقوم بمهماتهم التي تفوح منها رائحة العنصريّة، فيقدمونهم إلى جمهورهم بوصفهم التأكيد الملموس على صحة تحذيراتهم من رهاب الإسلام وبدائيّة سلوك المسلمين.
لا شكّ طبعاً أن كل المجتمعات العربيّة والمسلمة تعاني من مصاعب فكريّة وأزمات ثقافيّة بدرجات متفاوتة، وأن عيوباً كثيرة شابت مرحلة ما بعد رحيل القوى الاستعماريّة عنها وفي مقدمها وطن داود الأصلي الجزائر التي نالت استقلالاً باهظاً معمداً ببحر دماء بعد أكثر من 132 عاماً على استعمار استيطاني مبرمج استهدف قبل كل شيء إلغاء معالم الهوّية الجزائريّة وفرنستها بالكامل. ولا شكّ أن هذي المجتمعات على تنوع تجاربها بحاجة ماسّة دوماً إلى نقّاد يمكنهم تفكيك أسباب الضعف والتخلّف، والتلويح لها باتجاه القادم الأفضل. لكن تجربة كمال داود تومئ إلى أن النّقد لن يكون يوماً محايدا سياسيا على الإطلاق، وأن المثقف العربي – مع استثناءات قليلة - ليس بريئاً من الأمراض الثقافيّة والاجتماعيّة التي يحاول أن يهجوها، بل هو مهزوم داخلياً أمام الغرب يبتاع أوهامه المعلبة عن (صراع الحضارات) دون كبير تمحيص.
بروايته الأهم (قضيّة ميرسو) الرّواية المضادة لـ(الغريب)، صعد داود الروائي على أكتاف كامو لينسج خيوط شمس شهرته، لكنه عندما ارتدى بزة الصحافي وقع في بحر من هفوات وتعميماتٍ ثقافيّة مستشرقة، كان ألبير كامو لو اطلع على بعضها لوجد فيها زاداً كثيراً لتفكيك كمال داود وإعادة كتابة (قضيته) من جديد.



جيناتنا العظيمة

عبد الله القصيمي
عبد الله القصيمي
TT

جيناتنا العظيمة

عبد الله القصيمي
عبد الله القصيمي

ثمة فرق بين النقد الثقافي الساعي لإصلاح حال أمة ما وتسليط الأضواء على الأخطاء التي تعيق التطور من جهة، وجلد الذات الذي يصبح إدماناً، من جهة أخرى. هذا ما خطر ببالي وأنا أعيد قراءة كتاب الفيلسوف السعودي عبد الله العلي القصيمي «العرب ظاهرة صوتية». من وجهة نظره، العرب مُصوّتون فقط في حين لا يكتفي الآخرون بإصدار الأصوات، بل يتكلمون ويفكرون ويخططون وهم أيضاً خلاقون قاموا بإبداع الحضارات والقوة والفكر وتجاوزوا الطبيعة وفهموها وقاموا بتفسيرها قراءة فهم وتغيير وبحث عن التخطي والتفوق.

مثل هذا النقد مدمر لأنه يبشر بسقوط يستحيل النهوض منه لأن المشكلة في الجينات، والجينات لا يمكن إصلاحها. «العرب ظاهرة صوتية»، شعار رفعه العديد من الكتاب وأصبحت «كليشة» مكرورة ومملة، ولا يمكن أن يكون هذا التوجه نافعاً لأنه لا يضع خطة عمل، بل يرمي العربي في حفرة من الإحباط. مع أن هناك الكثير مما نراه من إنجازات دولنا في الجوانب النهضوية وأفرادنا على الصعيد العلمي ما يدعو إلى التفاؤل، لا الإحباط.

ما الذي خرج به جلد الذات الذي يمارسه المثقفون العرب على أنفسهم وثقافتهم بعد كل هذه العقود المتتابعة؟ بطبيعة الحال، ليس هذا موقف الجميع، إلا أن الأصوات المتطرفة توصلت إلى أن العرب لديهم مشكلة جينية، تمنعهم من مواكبة قطار الحداثة وإصلاح مشكلاتهم والانتقال إلى نظام الحياة المدنية المتحضرة. لا خلاف على تطوير أنظمة الحياة وتطبيق فلسفة المنفعة العامة للمجتمع وإعلاء قيمة حقوق الإنسان والحرية، وإنما الخلاف هو في هذا الوهم الذي يُخيل لبعض المثقفين أن المشكلة ضربة لازب وأنه لا حل، وهذا ما يجعل خطابهم جزءاً من المشكلة لا الحل، لأن هذا الخطاب أسس لخطاب مضاد، لأغراض دفاعية، يتجاهل وجود المشكلة وينكرها.

لا فائدة على الإطلاق في أن ننقسم إلى فريقين، فريق التمجيد والتقديس للثقافة العربية وفريق مشكلة الجينات. وأصحاب الرؤية التقديسية هم أيضاً يشكلون جزءاً كبيراً من المشكلة، لأنهم لا يرغبون في تحريك شيء، وذلك لأنهم يؤمنون بأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان، وإن دخلت معهم في نقاش فتحوا لك صفحة الماضي المجيد والانتصارات العسكرية وغزو العالم في العصر الوسيط يوم كان العرب حقاً متفوقين، وكان المثقف الأوروبي يتباهى على أقرانه بأنه يتحدث العربية ويفهم فلسفة ابن رشد.

يخطئ الإسلاميون، وهم من يرفع شعار التقديس، عندما يتخيلون أن تجربتهم هي التمثيل الأوحد للديانة الإسلامية، فالنص حمَّال أوجه وفي باطنه آلاف التفاسير، والناجح حقاً هو من يستطيع أن يتخلى عن قراءاته القديمة التي ثبت فشلها ولم تحل مشكلات الشعوب التي تتوق إلى الحياة الكريمة. يخطئ من يتصور أن بإمكانه أن يسحق الأقليات ويحكم بالحديد والنار، وها هي تجربة صدام حسين وبشار الأسد ماثلة أمام عيوننا.

لقد بدأت مشكلتنا منذ زمن قديم، فالأمة العربية الإسلامية أدارت ظهرها للعلم في لحظته المفصلية في قرون الثورة العلمية والاكتشافات، ولهذا تراجعت عن المكانة العظيمة التي كانت للحضارة العربية الإسلامية يوم كانت أقوى إمبراطورية على وجه الأرض. دخلت حقاً في عصور الانحطاط عندما رفضت مبدأ السببية الذي قام عليه كل العلم بقضه وقضيضه، وولجت في عوالم من الدروشة والتخلف، ليس فقط على صعيد العلوم المادية، بل على الصعيد الأخلاقي أيضاً، وأصبحت صورة العربي في الذاكرة الجمعية تشير إلى شخص لا يمكن أن يؤتمن ولا أن يصدّق فيما يقول. هذا ما يجعله ضيفاً ثقيلاً من وجهة نظر بعض المجتمعات الغربية التي لجأ إليها العرب للعيش فيها.

لقد عاش العربي في دول تقوم على فرق ومذاهب متباغضة متكارهة قامت على تهميش الأقليات التي تحولت بدورها إلى قنابل موقوتة. هذا المشهد تكرر في كل الأمم وليس خاصاً بالعرب، فنحن نعلم أن أوروبا عاشت حروباً دينية دموية اختلط فيها الديني بالسياسي وأزهقت بسببها مئات الآلاف من الأرواح، لكنهم بطريقة ما استطاعوا أن يداووا هذا الجرح، بسبب الجهود العظيمة لفلاسفة التنوير ودعاة التسامح والتمدن والتعامل الإنساني الحضاري، ولم يعد في أوروبا حروب دينية كالتي لا زالت تقع بين العرب المسلمين والأقليات التي تعيش في أكنافهم. العرب بحاجة إلى مثل هذا التجاوز الذي لا يمكن أن يحصل إلا في ضفاف تكاثر الدول المدنية في عالمنا، وأعني بالمدنية الدولة التي تعرف قيمة حقوق الإنسان، لا الدول التي ترفع شعار العلمانية ثم تعود وتضرب شعوبها بالأسلحة الكيماوية.

الدولة المدنية، دولة الحقوق والواجبات هي الحل، ومشكلة العرب ثقافية فكرية وليست جينية على الإطلاق. ثقافتنا التي تراكمت عبر العقود هي جهد بشري أسس لأنظمة أخلاقية وأنماط للحياة، وهذه الأنظمة والأنماط بحاجة إلى مراجعة مستمرة يديرها مشرط التصحيح والتقويم والنقد الصادق، لا لنصبح نسخة أخرى من الثقافة الغربية، وإنما لنحقق سعادة المواطن العربي وحفظ كرامته.