«بريد القراء» أول باب تفاعلي إعلامي منذ القرن الـ18

الوسائط الاجتماعية تزاحمه بأسلوب عصري

تنشر الصحف تعليقات القراء وفق أسلوب نشرها للمقالات ويلجأ بعضها  إلى نشر نبذة مختصرة لبعض من بريد القراء الذي يصلها بأعداد هائلة
تنشر الصحف تعليقات القراء وفق أسلوب نشرها للمقالات ويلجأ بعضها إلى نشر نبذة مختصرة لبعض من بريد القراء الذي يصلها بأعداد هائلة
TT

«بريد القراء» أول باب تفاعلي إعلامي منذ القرن الـ18

تنشر الصحف تعليقات القراء وفق أسلوب نشرها للمقالات ويلجأ بعضها  إلى نشر نبذة مختصرة لبعض من بريد القراء الذي يصلها بأعداد هائلة
تنشر الصحف تعليقات القراء وفق أسلوب نشرها للمقالات ويلجأ بعضها إلى نشر نبذة مختصرة لبعض من بريد القراء الذي يصلها بأعداد هائلة

قبل أكثر من قرنين من الزمان كان باب التفاعل الوحيد بين الصحف، منذ بداياتها، وبين القراء، هو باب «بريد القراء». ومن خلال هذا الباب كان القراء يعبرون عن آرائهم فيما ينشر من أخبار وتعليقات. وبين الاستحسان والاعتراض كان الصحافيون يعرفون موقف القراء من الصحيفة، ويتفاعلون معهم بنشر الرسائل وأحياناً بالرد عليها.
وتطور الوضع الآن إلى رسائل إلكترونية ترسل إلى مواقع الصحف الإلكترونية للتعقيب على المقالات والأخبار مباشرة، بالإضافة إلى البريد العادي، وأيضاً النشر المستقل على وسائط التواصل الاجتماعي مع تعليقات مباشرة لا تخضع لإشراف الصحف، وتكون في بعضها ركيكة اللغة، ولا تلتزم بشروط النشر المحترف.
المحتوى العام لـ«بريد القراء» متنوع، ويشمل التعليق على أخبار سياسية أو اجتماعية، أو الاعتراض على وجهات نظر كتاب الصحيفة أو تشجيعها، وأحياناً تكون بغرض وضع الأمور في نصابها الصحيح من وجهة نظر القارئ، أو تصحيح ما يراه قد جانب الصواب من كتابات الصحافيين. وفي الغالب يكون الدافع إلى الاعتراض أقوى من الاستحسان في «بريد القراء». يكون هدف بعض القراء تصحيح ما يرونه من أخطاء في النشر.
وتنشر الصحف تعليقات القراء، وفق أسلوب نشرها للمقالات. وتلجأ الصحف الكبرى إلى نشر نبذة مختصرة لبعض من «بريد القراء» الذي يصلها بأعداد هائلة. بينما تلجأ الصحف الصغرى والمحلية لنشر نسبة أكبر من البريد الذي يصلها بأعداد قليلة.
ويشرف محرر متخصص على «بريد القراء»، بحيث يخضع لمعايير النشر من حيث سلامة اللغة والالتزام بالأصول الصحافية بعدم التعدي أو اتهام أشخاص بلا دليل، أو تناول قضايا من جانب واحد يغفل حقوق الطرف الآخر. وفي الغالب يختصر المحرر رسائل البريد طويلة الحجم، بحيث لا تزيد عن ما بين 200 و500 كلمة بحد أقصى. ويغفل المحرر المسؤول الرسائل التي تأتي بلا توقيع أو تحتوي على لغة بذيئة لا تصلح للنشر.
مما يذكر أن «بريد القراء» لا يقتصر على الصحف وحدها، بل يرسل أيضاً إلى محطات التلفزيون والراديو، كما يرسل لمواقع الصحف الإلكترونية. ويتم بث هذه الرسائل في برامج خاصة تبث دورياً.

تاريخ حافل

يعود تاريخ «بريد القراء» إلى نشأة الصحف نفسها، وبدأت كفكرة متضمنة في صحف بدائية بدأت تنتشر في الغرب منذ منتصف القرن الثامن عشر. وخلال القرن التاسع عشر كان المتعارف عليه أن «بريد القراء» يأتي تعقيباً على «عمود رأي» الصحيفة في قضايا محلية أو وطنية وفق خريطة توزيعها. ومنذ ذلك التاريخ، وخلال القرن العشرين، كان المتعارف عليه أن ينشر «بريد القراء» بجوار «عمود الرأي» في الصحيفة.
وفي الماضي كان من المقبول إرسال رسائل بلا توقيع، على اعتبار أنها من أسس حرية الرأي. ولكن رؤساء تحرير الصحف اعتبروا هذا التوجه سلبياً في سبعينات القرن الماضي. ومع نهاية القرن العشرين كانت الأغلبية الساحقة من الرسائل مجهولة المصدر لا تأخذ طريقها إلى النشر. ولكن من الممكن أن يطلب القارئ عدم نشر اسمه مع الرسالة مع الإفصاح عن الاسم والعنوان للمحرر.
ومع ذلك وجد هواة إرسال البريد مجهول المصدر ضالتهم في منصات الحوار الإلكتروني التي يدخلونها بأسماء مستعارة، وينشرون من خلالها آراءهم التي يمكن اعتبار بعضها دون مستوى النشر المعتاد. وهي تماثل في مجموعها «بريد القراء» الذي كان ينشر في الصحف التاريخية من قرون سابقة.
وبمفهوم القرن الحادي والعشرين، فإن معظم التفاعل بين وسائل الإعلام، وبين القراء أو المستمعين أو المشاهدين، يكون عبر الإنترنت. وتتلقى وسائل الإعلام تعليقات القراء عبر البريد الإلكتروني أو تطبيقات مثل «تويتر» و«فيسبوك» و«آنستغرام». ولأن النشر الإلكتروني عبر الإنترنت فتح مجال القراءة لملايين القراء، بالإضافة إلى من يشترون النسخ الورقية، فإن التعليقات زادت في حجمها عن قدرة بعض الصحف على قراءة كل التعليقات أو نشرها، كما أن بعض المواقع الإلكترونية انهارت تحت ضغط الإقبال عليها.
وفي صورته الحديثة، يعتبر «بريد القراء» وسيلة تفاعلية فورية بين الإعلام وجمهوره، ولكن مع بعض الظواهر السلبية التي تتمثل في محاولات تأثير وهمية عبر كتابة أعداد هائلة من الرسائل التي تصب في موضوع واحد، وإرسالها على أنها من قراء متعددين، وهي حملات يرصدها الصحافيون المشرفون على «بريد القراء» بسهولة، ويتعاملون معها بحسم.
واشتهر رونالد كلارك رئيس تحرير صحيفة «سان بول بيونير برس» تاريخياً بالقول: إن «بريد القراء» هو بارومتر التفاعل بين الصحيفة وجمهورها، وكلما زاد البريد كلما كانت الصحيفة ناجحة في التفاعل مع جمهورها، أما إذا تراجع حجم البريد فهذا يعني أن الصحيفة خاملة، ولا تثير قراءها.
ورصدت محاولات لاستغلال «بريد القراء» لمصالح ذاتية، منها حالة السياسي الكندي بول رايتسما الذي كان يرسل العديد من رسائل «بريد القراء» إلى الصحف الكندية بأسماء مستعارة لكيل المديح إلى شخصه ومهاجمة معارضيه. وعندما كشفت صحيفة محلية أمره نشرت في صدر صفحتها الأولى عنوان «رايتسما كاذب، ولدينا الإثبات». وكان هذا بمثابة نهاية رايتسما سياسياً.
وتلجأ بعض الصحف والمجلات إلى تشجيع «بريد القراء» باختيار أفضل الرسائل ونشرها في موقع بارز، وأحياناً بتخصيص بعض الجوائز لأفضل الرسائل، منها تقديم أقلام فاخرة للقراء.

نماذج غريبة

تشتهر بعض النماذج الغريبة من «بريد القراء»، سواء على الجانب العربي أو الأجنبي. وفي مصر اشتهر محمد حسين حجازي المعروف باسم «مجنون أم كلثوم» بمراسلة الصحف المصرية على مدى ما يقرب من نصف قرن خلال حياة أم كلثوم وبعدها، لتصحيح أي معلومات منشورة عنها أو عن أغانيها. ثم استهواه أمر إرسال الرسائل التي تنشر باسمه فانتقل باهتمامه إلى القضايا العامة.
وفي بريطانيا نشرت صحيفة «دايلي ميل» رسالة من قارئ كتب فيها: أنه يشاهد مباريات «الكريكت» بين فريق بلاده والفريق الهندي، ولاحظ أن الجمهور الهندي الكبير الذي يشاهد هذه المباريات يرتدي الملابس المزركشة وتتحلى النساء بالحلي الذهبية. ثم يسأل في نهاية رسالته لماذا ترسل بريطانيا مساعدات إلى الهند وهي بلد ثري. وطالب بوقف المساعدات فوراً.
قارئ آخر اسمه بن كورماك من قرية في الساحل الجنوبي البريطاني شكا لصحيفة «التايمز» من مزارع الرياح التي تتكون من مراوح هائلة في الحجم. ويقول بن في رسالته: «لدينا ما يكفي من الرياح ولا نحتاج إلى تبديد المزيد من الكهرباء لتوليد المزيد من الرياح، فهذا تبديد لأموال دافعي الضرائب».

توجهات حديثة

السؤال الذي يشغل بال أكثر من رئيس تحرير هو: هل هناك أهمية للمحافظة على ركن «بريد القراء»؟ فالطبعات الإلكترونية تتيح فرصة التعليق من القراء على كل المقالات والأخبار مباشرة، بحيث يمكن القول: إن البريد تسلل إلى كل أبواب الصحيفة ولم يعد يقتصر على ركن خاص به.
وهناك حالات لقراء تحولوا إلى صحافيين، مع تكرار الكتابة إلى الصحف عبر أبواب «بريد القراء». كما تدعو بعض الصحف الآن قراءها لإرسال الأخبار والتحقيقات إليها من أجل الاستفادة من معلوماتهم الخاصة بقضايا معينة أو مناطق محلية يعرفونها جيداً.
بعض الصحف أيضاً، مثل صحيفة «التلغراف» البريطانية، تجمع رسائل القراء الساخرة التي لم تنشر، وتصدر بها كتاباً دورياً. من رسائل قراء «التلغراف» من يقترح فض مظاهرات الطلبة باستخدام مدافع المياه، على أن تخلط خزانات المياه ببعض الصابون، لتنظيف الطلبة وتشجيعهم على الاستحمام.
وفي رد على وزير داخلية بريطاني سابق؛ نصح المواطنين بالدفاع عن منازلهم حتى ولو بطعن اللص المقتحم، سأل روبرت وارنر من مقاطعة باركشير الصحيفة إذا كان من الممكن صعق اللص كهربائياً بدلاً من طعنه حتى لا تتسخ سجادة المنزل بالدماء.

من التعليق والاحتجاج إلى مشاكل القلوب

في تحول ملحوظ لأبواب «بريد القراء»، اكتشفت بعض الصحف المصرية أن القراء يقبلون أيضاً على قراءة «بريد القراء»، فخصصت صفحات كاملة للرسائل التي تبحث عن حلول لمشاكل شخصية، معظمها من النوع العاطفي. وتعددت أسماء هذه الصفحات من «بريد الجمعة» إلى «أريد حلاً» و«قلوب جريحة».
من أشهر هذه الأبواب ما كانت صحيفة «الأهرام» القاهرية تنشره أسبوعياً تحت عنوان «بريد الجمعة». واشتهر هذا الباب عندما تولاه الصحافي عبد الوهاب مطاوع بين عام 1982 وحتى رحيله عام 2004. ولكن شعبية الصفحة تراجعت من بعده، نظراً لاختفاء أسلوب مطاوع في الرد الراقي على الرسائل التي كان يختارها للنشر من بين مئات الرسائل التي كان يتلقاها.
وقد تميزت أيضاً مجلة «سيدتي» بأبواب «بريد القراء»، والإجابة على تساؤلات حائرة من القارئات كانت تجيب عليها الكاتبة الراحلة فوزية سلامة. وتحتاج مثل هذه الأبواب إلى اكتساب ثقة القراء والتواصل بمصداقية عبر سنوات طويلة من العطاء والنصيحة.

«الشرق الأوسط» فتحت قلبها للقراء من البداية

من التجارب الفريدة في التفاعل مع القراء ما طبقته صحيفة «الشرق الأوسط» منذ بداياتها في نهاية سبعينات القرن الماضي، حيث فتحت صفحة للقراء للتعبير عن الآراء والخلجات ليس فقط في التعليق على موضوعات أو افتتاحيات الصحيفة، وإنما عن كل ما يروق لهم الكتابة عنه. واختارت الصحيفة يومياً رسالة بها وجهة نظر جديدة لكي تكون «رسالة اليوم». كما خصصت ركناً للردود السريعة.
وأتاحت «الشرق الأوسط» فرصة للقراء لنشر أشعار من تأليفهم، والكتابة في موضوعات مختلفة تتراوح بين شرح ما هو «الحب الأول»، وتعليق على «ضعاف النفوس». وشملت الموضوعات الاحتفال بشهر رمضان المبارك وتعقيبات على الثورة الفلسطينية وضرورة القيام بمسيرة فلسطينية.
وفي طبعتها العصرية لم يعد «بريد القراء» يقتصر على ركن أو صفحة واحدة، وإنما تتاح الفرصة للقراء للتعليق على كافة محتويات الصحيفة مباشرة على موقعها الإلكتروني. وتشمل فرصة التعليق أيضاً على مقالات الرأي، وليس فقط على المقالات المنشورة. مع خدمات إضافية للحصول على محتويات من الصحيفة أو كتابات الرأي مباشرة على «إيميل» القارئ.
وتعد «الشرق الأوسط» هي الصحيفة التي تمثل الرأي العام العربي، وينتشر قراؤها حول العالم، ويتفاعلون معها سواءً بشراء الطبعة الورقية، أو المتابعة على الإنترنت.


مقالات ذات صلة

مسؤول رفيع سابق في النظام يقول إن الصحافي الأميركي تايس اعتقله مقربون من الأسد

المشرق العربي الصحافي الأميركي أوستن تايس المختفي في سوريا منذ عام 2012 (صحافيون بلا حدود)

مسؤول رفيع سابق في النظام يقول إن الصحافي الأميركي تايس اعتقله مقربون من الأسد

أكد مصدر رفيع في جهاز الأمن التابع لبشار الأسد، هو اللواء صفوان بهلول أن أوستن تايس لم يكن محتجزاً لدى جماعات المعارضة، بل لدى أمن النظام وبعلم كامل من الأسد.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق تُلامسها الحوارات التي يتقاطع فيها الشخصي مع العام (إنستغرام)

هبة حيدري لـ«الشرق الأوسط»: المذيعة تحتاج إلى الكاريزما والمعرفة والقدرة على التواصل

كسرت هبة حيدري مقولة «كوني جميلة واصمتي» حتى ألغتها من قاموس الإعلام، واستبدلت بها عبارة «كوني ذكية ليبرز جمالك».

فيفيان حداد (بيروت)
الولايات المتحدة​ عناصر من شرطة لوس أنجليس الأميركية يطلقون الرصاص المطاطي على المتظاهرين أمام مبنى بلدية المدينة... 8 يونيو 2025 (أ.ب) play-circle 00:30

إصابة مراسلة برصاصة مطاطية خلال بث مباشر للاحتجاجات في لوس أنجليس (فيديو)

أُصيبت مراسلة تلفزيونية أسترالية برصاصة غير قاتلة في ساقها، أمس (الأحد)، في أثناء قيامها بتقديم تغطية مباشرة للاحتجاجات من وسط مدينة لوس أنجليس الأميركية.

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)
يوميات الشرق وزير الإعلام سلمان الدوسري لدى إطلاقه «منصة الصور السعودية» الأربعاء (واس)

«منصة الصور» تُعزِّز الحضور البصري للسعودية عالمياً

دشّن وزير الإعلام سلمان الدوسري «منصة الصور السعودية»، التي طوّرتها وكالة الأنباء الرسمية «واس»، وتتيح الوصول المجاني إلى صور موثّقة، قابلة للاستخدام والمشاركة.

«الشرق الأوسط» (مكة المكرمة)
شؤون إقليمية باسل عدرا المخرج الفلسطيني المشارك في الفيلم الوثائقي الحائز جائزة الأوسكار «لا أرض أخرى» ينظر إلى سيارة متضررة بعد هجوم مستوطن في قرية سوسيا في الضفة الغربية 25 مارس 2025 (أ.ب)

إسرائيل تمنع جولة إعلامية في قرية المخرج باسل عدرا الفائز بالأوسكار

عطّلت القوات الإسرائيلية جولة إعلامية دولية في الضفة الغربية عبر منع الصحافيين من دخول قرية المخرج الفلسطيني الحائز جائزة الأوسكار باسل عدرا.

«الشرق الأوسط» (رام الله)

«تيك توك» منصة للإعلام أم «التسّول الافتراضي»؟

اطفال على المنصة
اطفال على المنصة
TT

«تيك توك» منصة للإعلام أم «التسّول الافتراضي»؟

اطفال على المنصة
اطفال على المنصة

في زمن تحولت المنصّات الإعلامية الرقمية إلى نوافذ يطلّ منها العالم على قصص البشر، لم تعد المعاناة تُروى في الخفاء، بل أصبحت «محتوى» يعرض على ذوي القلوب الرحيمة لإثارة التعاطف وجني الأرباح.

هذه ما تُتهم بعرضه اليوم منصّة «تيك توك» من ممارسات تسول مقنّعة، يقوم بها أفراد، وأحياناً عائلات بكاملها، من أجل الحصول على مساعدات مادية.

انتشار هذه الظاهرة، التي تُعرف بـ«التسّول الافتراضي»، أصبح يثير تساؤلات أخلاقية بشأن الحدود الفاصلة بين التضامن والانتهازية واستغلال الفئات الضعيفة، وخاصة الأطفال.

«المعاناة» كمحتوى

الظاهرة تبدأ غالباً ببث مباشر، يظهر فيه أفراد، ومعظمهم من الأطفال والمسنين، وهم يدّعون الفقر أو المرض في هيئة مثيرة للشفقة، ويستنجدون بالمشاهدين، مطالبين بما يسمى بالهدايا الرقمية التي تتحوّل لاحقاً إلى أرباح مالية.

لكن رغم وجود قصص معاناة حقيقية، فإن هذه المحتويات باتت يصفها البعض بالمسرحيات «المُتقنة» التي تُوظف فيها كل عناصر الدراما المؤثرة، من مشاهد البكاء والموسيقى الحزينة إلى الصوت المتهدج لاستدرار العواطف.

قناة «بي بي سي» البريطانية كانت أول من كشف عن تفشّي ظاهرة التسول الرقمي، عبر تحقيق مطول في مخيمات اللاجئين السوريين، بعنوان «كيف يحصل (تيك توك) على الأموال باستغلال أطفال سوريين فقراء؟». لكن تبين فيه أن العائلات الفقيرة، وبالأخص الأطفال، يتعرضون لاستغلال «وسطاء» يديرون حسابات متخصصة في هذه النوعية من المحتوى... تصل فيها المداخيل إلى ألف دولار في الساعة. ومن هذه الحسابات يأخذون نسبة تتراوح ما بين 20 إلى 27 في المائة، والعائلات الفقيرة تحصل على نسبة ضئيلة، تتراوح ما بين 1 إلى 3 في المائة، أما نصيب الأسد فيعود إلى المنصّة الصينية التي تستحوذ على 70 في المائة من هذه المبالغ.

وفي تحقيق آخر، أشارت صحيفة «الغارديان» البريطانية إلى انتشار هذه الظاهرة في عدة دول أخرى، كأفغانستان وباكستان والهند وإندونيسيا وكينيا. وهذا بعد مراقبة عدة حسابات تحمل علامات تسول منظّم عبر الشبكة، واستشهدت الصحيفة بحساب في إندونيسيا يبّث مقاطع يومية لأطفال يتسولون هدايا افتراضية، وفي اليوم التالي يظهر أطفال مختلفون في الغرفة نفسها، مع الأشخاص البالغين أنفسهم، ولم يُحظر هذا الحساب إلا بعد نشر تقرير الصحيفة البريطانية.

المنظمات الإنسانية ندّدت بهذه الممارسات، واتهمت «تيك توك» باستغلال البؤس الإنساني لجني الأرباح. وفي حوار مع «الغارديان»، عدّ أوليفييه دي شوتير، المفوّض الخاص للأمم المتحدة المعني بالفقر المدقع، النسب الكبيرة التي تفرضها المنصة على هذه التبرعات الافتراضية «افتراساً رقمياً». أما منظمة «هيومان رايتس واتش» فاتهمت «تيك توك» بانتهاك حقوق الأطفال لتقصيرها في حظر الحسابات التي تستغل الأطفال لساعات طويلة من العمل في مشاهد للتسول الافتراضي.

شعار "تيك توك" (رويترز)

مباريات البثّ المباشر

مداخيل الهدايا الافتراضية، التي يمنحها تطبيق البثّ المباشر، استقطبت أيضاً فئة من المؤثرين لا تعاني الفقر المدقع، لكنها تتعرض منذ فترة لتراجع في مداخيلها بسبب القوانين الجديدة التي تنظم ممارسات المؤثرين التجارية.

في فرنسا مثلاً، تلجأ هذه الفئة من «التيك توكرز» إلى نظام «المباريات» كأحد أبرز مصادر للدخل. وهنا الفكرة بسيطة، حيث يتواجه شخصان في مبارزة كلامية على الهواء، ويقوم الجمهور بمنح تبرعات للمؤثر المفضّل لديهم.

التقارير التي نشرت تشير إلى مبالغ ضخمة تبرع بها مستخدمون عبر البثّ المباشر للمنصة الصينية، بلغت في فرنسا، حسب تقرير لمكتب الدراسات «داتا آي»، نحو 81 مليون يورو عام 2023، مقابل مليونين ونصف مليون عام 2020.

وهنا تشرح أودري شييو، الصحافية الفرنسية المتخصصة في منصات التواصل: «المشكلة هي أن هؤلاء المؤثرين، ومعظمهم نجوم سابقون من تلفزيون الواقع، لا يكتفون بتنظيم هذه المباريات، بل يطلبون من الجمهور تشجيعهم بإرسال هدايا افتراضية كالوردة أو الأسد، التي قد تصل قيمتها إلى 400 يورو».

أيضاً يلجأ بعضهم إلى التلاعب النفسي عبر إنشاء روابط شخصية مع المتابعين من المراهقين من خلال الرسائل الخاصّة، أو ذكرهم بالأسماء لضمان استمرار تدفق الهدايا الرقمية، وهو ما تعدّه الإعلامية الفرنسية نوعاً من أنواع الاستغلال والتسول الرقمي المُلبّس بقناع البثّ الترفيهي.

بيد أن المخاطر لا تقتصر على الناحية المالية فحسب، ففي شهادة مؤلمة، نقلتها إذاعة «فرانس إنتير»، تروي أمّ كيف أن ابنها المراهق، البالغ من العمر 14 سنة، أنفق قرابة 4 آلاف يورو من مدّخرات العائلة على الهدايا في «تيك توك» لأنه كان يعدّ نفسه «صديقاً» لبعض المؤثرين.

من جانبها، لا تبدو المنصة الصينية مستعدة لتقييد نشاطات تدرّ عليها أرباحاً طائلة، لكنها رغم ذلك مطالبة اليوم باتخاذ عدد من التدابير الصارمة للقضاء على ظاهرة التسول الرقمي. أهمها؛ وضع قوانين داخلية صارمة تمنع المحتوى الذي يتضمن استجداء صريح أو مبطن للهدايا الافتراضية، وتعزيز الرقابة على البثّ الحيّ لرصد المخالفات.

هذا، وفي تقرير، طالب نائب أوروبي أيضاً «تيك توك» بوضع سقف شهري للأرباح الفردية، ومنع القاصرين من استخدام خاصية الهدايا الافتراضية من أجل حمايتهم والحفاظ على أخلاقيات المنصة.