التنظيم السري للإخوان المسلمين... صكوك للعنف وتصفية الخصوم

4 من أعضاء مجلس قيادة ثورة 52 كانوا منتمين للجماعة

حسن البنا - غلاف الكتاب
حسن البنا - غلاف الكتاب
TT

التنظيم السري للإخوان المسلمين... صكوك للعنف وتصفية الخصوم

حسن البنا - غلاف الكتاب
حسن البنا - غلاف الكتاب

صدر حديثاً عن دار «ميريت» للنشر، بالقاهرة، كتاب «النظام الخاص ودولة الإخوان المسلمين»، من تأليف الباحثة الإعلامية المصرية سوزان حرفي، التي سعت من خلال صفحاته التي تضم 4 أبواب و12 فصلاً لعرض أفكار الجماعة وتوجهها منذ النشأة، وعقيدتها ورؤيتها للذات وللآخر، وحقيقة وجود عقيدتين ورؤيتين أو تيارين داخلها.
الكتاب صدر بمقدمة ضافية للدكتور كمال الهلباوي، القيادي البارز في الإخوان، الذي انشق عنها لاحقاً. وقد ذكر الهلباوي أن الجماعة ضمت كلاً من النقيب آنذاك جمال عبد الناصر، والملازم أول حسين أحمد حمودة، والملازم كمال الدين حسين، وكذلك عبد المنعم عبد الرؤوف، وكلهم كانوا أعضاء بمجلس قيادة ثورة يوليو 1952، التي انقلبت على الإخوان وأطاحت بهم، وحلت الجماعة.
شرعت سوزان حرفي في إنجاز كتابها بداية عام 2013، عندما كانت جماعة الإخوان قد أخذت طريقها كحزب الأغلبية داخل البرلمان المصري. واهتمت الباحثة بتقصي وتدقيق الأحداث التي شاركت الجماعة فيها، أو كانت أحد أطرافها، وحللت علاقتها وموقفها من الدولة والسلطة القائمة والمجتمع، وحدود التغير الذي تسعى الجماعة لإحداثه في المحيط العام، وكذلك في محيطها الخاص.
وذكرت حرفي أن الجهاز الخاص هو أكثر المناطق ضبابية في تاريخ الجماعة، سواء في ما ارتبط به من نشأة وأهداف، أو عضوية وعقيدة ونشاط وأفعال، فكل هذه الأشياء تقع غالباً في المساحة المظلمة التي يتجنب تنظيم الإخوان على مدار تاريخه السابق الاقتراب منها، إلا لماماً.
هذا الصمت، حسب وجهة نظر الباحثة، قد يكون نتيجة لطبيعة النظام الذي تغطيه السرية، فهو «النظام السري» أو «التنظيم السري»، وكان معظم أعضائه غير معروفين لرجال «النظام العام» داخل جماعة الإخوان نفسها، كما أن الصمت جاء التزاماً من أعضاء النظام الخاص أنفسهم بقسم الانضمام، أو البيعة، فالسرية جزء من عقيدة النظام وعقيدة أعضائه. وما زاد من مساحة الصمت ربما ارتباط هذا النظام بعدة جرائم كشفت منهج الجماعة، مثل قتل القاضي أحمد الخازندار وكيل محكمة الاستئناف، واغتيال أحمد ماهر باشا ومحمود فهمي النقراشي باشا، رئيسي وزراء مصر، وغيرهما من المسؤولين، إضافة للقيام بعدد من التفجيرات والعمليات المسلحة التي راح ضحيتها كثير من المصريين.
ولفتت حرفي إلى أن سعي مؤسس الجماعة (حسن البنا)، من خلال التنظيم الخاص، كان لإنشاء «جيش بديل» عن الجيش المصري، هو «جيش المسلمين»، طبقاً لما أكده جمال البنا، وكذلك محمود الصباغ أحد قيادات هذا الجيش في أربعينات القرن العشرين.
وقد ذكر حسن البنا في إحدى رسائله الموجهة للتنظيم الخاص، وهي رسالة «المنهج» التي رسم فيها مراحل العمل وتكوين الكتائب ونموها، أن العدد المستهدف لهذا الجيش في مرحلته هذه هو اثنا عشر ألفاً، مضيفاً: «ولن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة».
فكرة «الجيش البديل» هذه أسرت محمود الصباغ، طالب كلية العلوم بجامعة فؤاد الأول، عندما التقى حسن البنا لأول مرة عام 1939م، في لقاء للتعارف رتبه زميله بالكلية مصطفي مشهور في دار الإخوان التي كانت تقع بمنطقة الحلمية الجديدة، بالقاهرة، حيث كان البنا يشرح الإسلام ودعوته لعدد لا يزيد على العشرة من طلاب الجامعة.
يقول الصباغ: «رأيت أن كل ما يسوقه من آيات بينات رسمها الله للمسلمين شرعة ومنهاجاً في هذه الحياة تعالج ما نحن فيه في زماننا الحالي، فخرجت وأنا أقول: ولماذا التباطؤ في التنفيذ؟ خرجت مسلماً صحيح الإسلام، عضواً في جماعة الإخوان المسلمين، دون أن أكتب استمارة عضوية، أو أدفع اشتراكاً شهرياً أو سنوياً، أبحث مع مصطفى وسيلة لتنفيذ ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله، التي تجلت واضحة في مقاتلة العدو من خلال (جيش مسلم) سيتحقق له نصر مؤكد، لو صدق ما عاهد الله عليه»، ثم يضيف في كتابه «حقيقة التنظيم الخاص ودوره في دعوة الإخوان المسلمين»، الصادر عن «دار الاعتصام» عام 1989: «همست بما يجول بخاطري لمصطفي مشهور، فعرفني على أخي في الله المرحوم الأستاذ عبد الرحمن السندي، بصفته المسؤول عن إعداد (جيش المسلمين) في تنظيم الإخوان المسلمين».
المهم أن مشاركة هذا الجيش الإخواني في فلسطين لم تكن كما يروجون، فإنهم - حسب ما ذكرته حرفي - لم يدخلوا إلا معارك قليلة جداً فيها، فقد صدرت من الشيخ محمد فرغلي، وهو المسؤول العام للمقاتلين الإخوان في فلسطين، الأوامر بعدم الدخول في مزيد من المعارك، بحجة أن هناك مؤامرة لتصفية المجاهدين، وظل الإخوان في معسكرهم لا يحاربون إلى أن عادوا من فلسطين.
الحكاية إذن لم تكن محاربة الصهاينة في فلسطين، كما روجوا، لكن هدف إنشاء النظام الخاص الحقيقي أوضحته حرفي وهي تستشهد بما كتبه عبد الرحمن الساعاتي، شقيق حسن البنا، المراقب العام للجماعة: «استعدوا يا جنود، وليأخذ كل منكم أهبته، ويعد سلاحه، ولا يلتفت منكم أحد، وامضوا إلى حيث تؤمرون، خذوا هذه الأمة برفق، وصفوا لها الدواء، فكم على ضفاف النيل من قلب يعاني وجسم عليل. فإذا الأمة أبت، فأوثقوا يديها بالقيود، وأثقلوا ظهرها بالحديد، وجرعوها الدواء بالقوة. وإن وجدتم في جسمها عضواً خبيثاً فاقطعوه، أو سرطاناً خطيراً فأزيلوه، فكثير من أبناء هذا الشعب في آذانهم وقر، وفي عيونهم عمى».
أما عن المكانة التي كان يتمتع بها هؤلاء الذين اختارهم البنا لهذه المهمة، فقد كانت أعلى من غيرهم من المنتمين للجماعة، طبقاً لما أكده الشيخ أحمد حسن الباقوري، في كتابه «بقايا ذكريات»، الصادر عن «مركز الأهرام للترجمة والنشر» عام 1988، حيث أفاد الباقوري بأنه تم توجيه هذا الشباب الذي انضم للتنظيم الخاص على أنهم هم أعضاء الجماعة الحقيقيون، وأن إخوانهم المشتغلين في الدعوة العامة مع البنا هم أقل منهم درجة، فهم كانوا يحملون صفة تربوية، عرفها حسن البنا لهم بـ«الأخ المجاهد»، بينما المشتغلون مع البنا في الدعوة العامة كانوا يعرفوا بـ«الأخ العامل».
تابعت حرفي في كتابها قصة نهاية عقد الثلاثينات وبداية الأربعينات، وما ساقه بعض ممن ساهم في تأسيس خلايا وكتائب داخل النظام الخاص في تلك الفترة، كما كشفت أن فكرة الاغتيالات كانت مرحباً بها بين أعضاء الجماعة، وهو ما ظهر جلياً في ما قاله الدكتور يوسف القرضاوي، عضو تنظيم الإخوان سابقاً، بمذكراته «ابن القرية والكُتاب.. ملامح سيرة ومسيرة»، عن «دار الشروق»، الجزء الأول، إصدار 2002: «قابلنا، نحن الشباب والطلاب، اغتيال النقراشي بارتياح واستبشار، فقد شفى غليلنا ورد اعتبارنا».
ولفتت حرفي إلى أن الأهداف التي استدعت تشكيل النظام الخاص، بما فيها الدفاع عن «الدعوة»، وحماية ظهرها من الأعداء، كان بينها ضرب الخصوم. فالنظام الخاص أو التنظيم السري يعتبر تنظيماً عسكرياً هرمياً سرياً، هدفه ضرب الخصوم، والخارجين حتى عن الطاعة من داخل الجماعة نفسها.
وذكرت حرفي أن البنا كان يؤيد العنف بكل أشكاله، وقد اتضح ذلك في المؤتمر الخامس للإخوان، الذي انعقد عام 1938، عندما وجه بأن «القوة شعار الإسلام، وأول درجاتها قوة العقيدة والإيمان، ويلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدها قوة الساعد والسلاح، وإن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها». وقد بدا ذلك تحولاً في نهج الإخوان من الاكتفاء بنهج التربية والدعوة إلى السعي للتغيير بالقوة، وتدشيناً لمرحلة جديدة من طور نمو التنظيم، بعد مرحلة «التعريف»، بالانتقال للمرحلة الثانية، وهي مرحلة «التكوين»، وصولاً لـ«التمكين»، لإقامة دولة «الخلافة الإسلامية» التي تقترب من دولة الخلفاء الراشدين الأربعة، ولا سبيل لتحقيق تلك الغاية إلا بالجهاد المسلح، وهو ما أعلنه عدد من القيادات البارزة داخل تنظيم الإخوان، على رأسهم اثنان من مكتب الإرشاد، وهما محمود أبو زيد عثمان، صاحب امتياز مجلة «النذير»، ومحمد المغلاوي مسؤول قسم الطلبة والعمال، ومعهما محمد عطية خميس، والدكتور علي النشار، والشيخ حافظ سلامة، كما انضم لهم عدد كبير من كوادر الجماعة. وجاء هذا بوضوح في مجلة «النذير»، لسان حالهم بعد الانشقاق.
اللافت أن البنا لم يهاجمهم، ولم يقف رافضاً لما قاموا به، بل تبرع لهم للمساعدة في إنشاء مقرات، كما أن بعض قيادات الجماعة وقفوا الموقف نفسه، ووصفوهم بأنهم «شباب استعجلوا النصر».
وكشفت حرفي أن البنا أصدر توجيهاته بأن يكون هناك لقاء أسبوعي «يوم المعسكر»، هدفه تسهيل إمداد النظام الخاص بعناصر جديدة تعوض الخسائر التي فقدوها بخروج مجموعة «محمد عزت» و«شباب محمد».
وكشفت أيضاً أن استعراضات الجوالة لم تكن مقصودة لذاتها دائماً، وإنما كانت ذريعة لإظهار قوة الجماعة ومظهرها العسكري، والإيحاء بأنها هي القوة العسكرية للجماعة، وصرف النظر عن التنظيم الذي يتم إعداده سراً، وفي كتمان تام بعيداً عن مظهريات الجماعة. وقد تطرقت المؤلفة لطريقة تكوينه، وبيعة أعضائه، وتشكيله العنقودي، وسريته التامة حتى داخل أعضائه أنفسهم.
وأشارت حرفي إلى أن «القيادة» كانت تضم عشرة أشخاص، خمسة من بينهم لا يتصل أحد منهم اتصالاً مباشراً بأي من أعضاء النظام، وتم تحديد مهام «قيادة الجيش» بدراسة طرق التنفيذ لما يصل من خطط صادرة من الأركان، وإصدار بيانات يشترك فيها جميع الأعضاء، كذلك الإشراف على أحوال الجند، والاطمئنان على دوام قوتهم المعنوية، كما تقوم القيادة بالاتصال بالإدارة العليا، وتبليغ الأركان بكل ما يحتاج إليه من إرشاداتها، ويجب أن يكون كل فرد من الأفراد العشرة المكونين لمجلس القيادة على استعداد لتولي القيادة في أي لحظة. أما «الأركان» فهي مجلس مكون من خمسة أشخاص، ويمكن أن يزيد عدده كلما احتاج الأمر، ومهماته وضع خطط لتنظيم القوات في كل من أوقات السلم والحرب، ودراسة المعدات عملياً، وتحديد ما يصلح منها لاستعمال الجيش، وإصدار بيانات بمميزاتها وطرق استعمالها وحفظها، كذلك تحديد الأهداف التي سيتم التعامل معها، ورسم خطة التنفيذ، من زمان ومكان والقوات المطلوبة، ودراسة كل ما يصل إليها عن طريق مجلس القيادة، من صعوبات ومشكلات عملية، ومطالب مستجدة، وإصدار بيانات بنتيجة الدراسة ترسل إلى مجلس القيادة، وبالنسبة لـ«الجنود» فمهمتهم الاستعداد الروحي والعقلي والطاعة والتنفيذ.
وهكذا، ظل العنف شريعة لدى الجماعة، رغم إعلانهم الدائم عن رفضه.


مقالات ذات صلة

جوامع باريس لـ«الدعاء لفرنسا» بعد خطبة الجمعة

أوروبا جوامع باريس لـ«الدعاء لفرنسا» بعد خطبة الجمعة

جوامع باريس لـ«الدعاء لفرنسا» بعد خطبة الجمعة

طلب عميد «المسجد الكبير» في باريس، شمس الدين حفيز، من الأئمة التابعين للمسجد الدعاء لفرنسا في نهاية خطب الجمعة.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق جانب من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في نسخته الأولى (واس)

بينالي الفنون الإسلامية في جدة... حوار المقدس والمعاصر

يجري العمل على قدم وساق لتقديم النسخة الثانية من بينالي الفنون الإسلامية بجدة في 25 من يناير القادم، ما الذي يتم إعداده للزائر؟

عبير مشخص (لندن)
ثقافة وفنون المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة الدكتور سالم بن محمد المالك (صورة من الموقع الرسمي للإيسيسكو)

«الإيسيسكو» تؤكد أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي

أكد المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة «إيسيسكو»، الدكتور سالم بن محمد المالك، أن المخطوطات شاهدٌ حيٌّ على أصالة العالم الإسلامي.

«الشرق الأوسط» (الرباط)
أوروبا رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتس يتحدث خلال اجتماع ترشيح الحزب في أوسنابروك ودائرة ميتيلمس في ألاندو بالهاوس (د.ب.أ)

زعيم المعارضة الألمانية يؤيد تدريب أئمة المساجد في ألمانيا

أعرب زعيم المعارضة الألمانية فريدريش ميرتس عن اعتقاده بأن تدريب الأئمة في «الكليةالإسلامية بألمانيا» أمر معقول.

«الشرق الأوسط» (أوسنابروك (ألمانيا))
المشرق العربي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬ في خطبة الجمعة بأكبر جوامع مدينة دار السلام التنزانية

أمين رابطة العالم الإسلامي يزور تنزانيا

ألقى معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، رئيس هيئة علماء المسلمين، فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى‬، خطبةَ الجمعة ضمن زيارة لتنزانيا.

«الشرق الأوسط» (دار السلام)

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

تيري ايغلتون
تيري ايغلتون
TT

تيري إيغلتون... ما بعد النظرية وأسئلة الثقافة

تيري ايغلتون
تيري ايغلتون

يظل سؤال الثقافة مفتوحاً، لكنه متردد، وخائف، ليس لحمولاته وإحالاته، ولعلاقته بالمخفي من الأسئلة المقموعة فحسب، بل بعلاقة هذه الثقافة بصناعة الهيمنة، وتسويغ عنف مركزية العقل «الليبرالي»، وعبر منابر وقنوات الآيديولوجيا والمدرسة والإعلام والدعاية والخطاب السياسي والخوارزميات، وحتى عبر مرجعيات النظرية الأدبية والثقافية التي تُخضعه هي الأخرى إلى المؤلف المهيمن، وترسل إلى القارئ المُستهدف.

ما طرحه الناقد تيري إيغلتون في كتابه «ما بعد النظرية» بترجمة ثائر ديب، الصادر عن «المركز العربي لدراسة السياسات» (2025)، يضعنا إزاء قضايا إشكالية تخص الخوف الثقافي والقلق الثقافي، والتمثيل الثقافي، وإلى ما يدفعنا إلى الشك بجدوى النظرية، وبأن ما يجري أفقد النظريات كثيراً من صلاحياتها.

الدرس الثقافي يعني في جوهره درساً مفهومياً، في توظيفه الفلسفي، أو في إجراءاته التي تخص التعلّم والفهم، وفي ما يتعلق بالإنثربولوجيات المعقدة التي كشف تشظيها عن عالم يتمرد على المركزيات، بحثاً عن مركزيات موازية، أو عن هويات محلية، يمكنه من خلالها يستأنف لعبته في إعادة إنتاج السلطة، والهوية، والخطاب، بوصفها عناصر موجّهة للهيمنة، ولصياغة العالم في أفكاره ومعتقداته وهوياته وأساطيره، عبر ما تصنعه السلطة من سياسات وثقافات، وعبر ما يجعل «النظرية» مجالاً للتخيل، ولتقعيد العالم عبر القياس.

ما أثاره إيغلتون عن «نهاية العصر الذهبي للنظرية» يظل افتراضياً، لأن ما أسسه كبار المُنظّرين ترك ثقلاً معرفياً كبيراً، في إطار الأطروحات الفلسفية، أو في تمثيل النظريات الأدبية، وحتى في السيميائيات، وفي الاجتماع السياسي والتربوي، وفي بنى النظام والخطاب والرقابة والقمع، لكنه بالمقابل خضع إلى كثير من التحول، والتصادم، والاختلاف، حيث وجدت الأفكار نفسها إزاء «واقع سائل» ليس لتمثيل علاقاتها بـ«ما بعد الحداثة»، كما يرى زيغموند باومان، بل لأن وجودها اصطدم بكثير من الفعاليات التي تعمل لصالح مؤسسات ومنابر ومخابر ومراكز بحوث وبنوك وعيادات وشركات عابرة للقارات، وهذا هو الوجه الرمادي لـ«الليبرالية الجديدة»، رغم أن مرجعيات «النظرية» لم تكن بعيدةً عن تاريخ المجتمعات، ولا عن مسار تطور العلوم والأفكار.

النظرية ورهاب الغياب

القضية التي يثيرها إيغلتون حول «نهاية العصر الذهبي للنظرية» تطرح أسئلة فائقة الخطورة، حول المرجعيات، لا سيما الماركسية، التي تحتاج إلى مراجعة، لمواجهة سلسلة من التحولات الكبرى، بما فيها تحول صناعة الأفكار وتلقيها، وعلاقتها بالمؤسسات والآيديولوجيات، وبأنموذج المثقف الذي تخلى عن وظيفته النقدية، لصالح القوة، ولصالح نوع من «الواقعية المتوحشة» التي أفقدت «البطل الغربي» سحره السينمائي، وغوايته الطبقية، وعلاقة مدنه البرجوازية بذاكرة الرواية الرومانسية، وبيوميات القصور والحفلات الموسيقية والمعارض الفنية وعروض الأزياء وإعلانات العطور، ونظم الاتصال الحديثة واحتكار المعلومات والأخبار.

الفقد تحوّل إلى رهاب نفسي، لأن الغرب لم يعد مسيجاً على طريقة «أثينا القديمة»، فالهجرات والأسواق والصراعات الاجتماعية والحروب جعلت من هذا الغرب إزاء ما يشبه «الهجنة الثقافية» التي جعلت من حديث النظرية جزءاً من المفارقة، ومن مأزق الغرب بمفهومه الأوروبي الهيغيلي.

حديث الفقد يمكن أن يكون جزءاً من النسيان، ومن التباسات ثقافية، تواجه صراعاً غير منضبط بين المستويات، لا سيما ما يتعلق بالثقافات الشعبية، وثقافات الهامش، التي جعلت من اليسار أكثر اندفاعاً لها، وتعبيراً عن سردياتها الطبقية والثورية، مقابل ثقافة النخبة، التي ظل المحافظون والتقليديون يحرصون على مغاليقها، بوصفها جزءاً من صراعهم الطبقي والوجودي.

ما جعله تيري إيغلتون عتبته للحديث عن «الما بعد» هو إحساسه بأن العالم لم يعد صالحاً للمعنى الذي أنتجه اليسار حول الصراع الطبقي والعائلة والاجتماع والحقوق والعدالة والمشاركة، وأنه جعل الغرب يتغول، حيث بدا صعود التطرف اليمني وموجات «أوروبا الصافية» أكثر هوساً بالعنف «الصياني» وبمشروع إعادة النظر بالأفكار، وبالنظام الاجتماعي وبالسياسات، وبطبيعة الأفكار الرثة التي فقدت فاعليتها في مواجهة «رهاب الاستهلاك» ورهاب العنف والتطرف الأبيض. هذه التمثلات تحولت إلى مظاهر ثقافية، وإلى أطروحات إشكالية تخص تعقيدات الصراع الاجتماعي، وقضايا أنثربولوجية وحقوقية، وأزمات اجتماعية تخص العلاقة بالآخر، هذا الآخر المسكون بأشباح الشرق، ويوميات العنف السياسي والتلوث البيئي والحروب الأهلية، الذي صنع بالمقابل موجهات من المهاجرين واللاجئين الذي اتخموا «أوروبا» وأثاروا جدل النوع والنمط والهوية، وهو ما أسهم في تقويض مفهوم «الثقافة العالِمة» التي تملك الخطاب، والقدرة على مواجهة انهيار عالم مفتوح على لا نهايات عاقلة.

الما بعد وأفول النظرية

من الصعب عزل الثقافة عن التاريخ، وعن التحولات الكبرى، فبقدر ما يربط إيغلتون بين خمود النظرية وبين حركة ما بعد الحداثة، التي جعلت من «العولمة» و«الرقمة» توصيفات لنهايات إنسانية، أفقدت بعض المفاهيم جدواها، مثل الطبقة والتصنيع والجماعة، مقابل ما يراه خطيراً في صعود «الأعمال التحويلية» ووظائف البنوك الكبرى، التي تعني في جوهرها صعود «طبقة» لها سلطتها، ولها إدارتها في التعاطي مع المال والقوة والخطاب والعمل، وكذلك مع قيم إشكالية تخص «التحرر الجنسي» وموضوعات الجندر، والهجرة والهوية، وهي قضايا ثقافية جعلت منها «الدراسات الثقافية» مجالاً واسعاً لأطروحاتها، ولتداوليتها التي تخص الصراع الاجتماعي، وإعادة تعريف الغرب الذي لم يعد غرباً، كما في التوصيف الاستعماري لروديار كبلنغ، إن «الما بعد» قد يكون نقداً، وقد يكون نفياً، وكلاهما يدخل في سياق المواجهة مع الأفكار، ومع التاريخ الطويل للنظريات، بما فيها نظريات العلوم والآداب والسياسيات، إذ تحول الصراع حول جدوى النظرية مجالاً للحديث عن جدوى الأفكار ذاتها، ومنها ما يتعلق بأفكار الاشتراكية، والصراع الطبقي والعدالة الاجتماعية، والبطالة والهجرات الكبيرة، وبالحروب التي لم تعد للأفكار على طريقة الزعيم الصيني ماو تسي تونغ أو تروتسكي حول مفهوم الثورة الدائمة.

أفول النظرية لا علاقة له بأفول الحداثة، لأن ما يجري هو تغيير لقواعد الاشتباك الثقافي القديم، ولطبيعة التشكلات الطبقية، والإحالات الثورية، فالطبقات الوسطى فشلت في أن تصنع السلطة، إذ اكتفت بالهامش التمثيلي للثقافة، ولمواجهة عنف الطبقات الحاكمة، فرغم أن الحداثة في الغرب عكست «قوة العقل» بمفهومه الكانطي، أو أنها أبرزت مظاهر الصراع الطبقي، والتحولات الصادمة التي جعلت من كافكا مسكوناً بالخوف والكوابيس، حد الهروب إلى سردية المسخ، بحثاً عن ذاته التي ظلت خالية من الاطمئنان، إلا أن هذه الحداثة فشلت في مواجهة تنامي أزمة الإنسان ذاته، الإنسان الذي تحوّل إلى قربان للحروب والأزمات المفتوحة.

إيغلتون وصدمة المفارقة

التقويض الآيديولوجي للنظرية لم يشأ أن يترك الصراع دون مقاربات، تخص النظرية، أو تخص «صناعة الثقافة» بتعبير إدرنو، إذ تتحول الصناعة إلى إجراء لمواجهة التغريب والعزل، مثلما تتم استعادة ماركس الشاب الفيلسوف، وماركس الكبير الاقتصادي، إلى منابر لا تملك أدوات الاستمرار، بسبب الضآلة الثقافية من جانب، والخمود المؤسساتي والنظري من جانب آخر، فتذكّر مركز «برمنكهام» الإنجليزي المؤسس لـ«الدراسات الثقافية» في الستينات، يضعنا أمام رهاب متاهة الغياب المؤسساتي، وصعود المؤسسات الضد، التي لا علاقة بالزمن الثقافي، ولا بسرديات الثقافة، ولا حتى بالنظرية النقدية وبمناهجها، وبما تملكه من أدوات ووسائط ومناهج تساعد على بقاء الثقافات والآداب حية وفاعلة، وعالقة بكثير من قيم الاجتماع والأخلاق والنقد والتحليل.

صدمة المفارقة في مشغل إيغلتون ليست بعيدة عن فكرة «الاغتراب الثقافي» فما فشلت به الحداثة، لن تصنعه ما بعد الحداثة التي يصفها إيغلتون بالغلو والسطحية، وأنها المسؤولة عن صناعات أكثر رعباً، وعن إخفاقات واسعة، بما فيها إخفاق «النظرية الأدبية ذاتها» وعجزها عن إدامة الوعي الاجتماعي، وعن نقد الخطاب السياسي، إذ تحولت الحداثة، وحتى ما بعدها إلى مجال أو سوق للترويج للصناعات الثقافية، من منطلق أن الثقافة سلعة، وأن قانون «العرض والطلب» هو الفيصل الوجودي الذي يتحكم بالإنتاج، وبقيمة هذه الصناعات في تعزيز قيم الإشباع والعدالة، ومواجهة رعب «الرأسمال» الذي جعل من الثقافة جزءاً من وظائف «رجال الأعمال» ومن مسؤوليات منتجي أفلام السينما وعروض الأزياء وغيرهم.

عجز النظرية عن مواكبة «سيولة الأفكار» هو المُهدد الأكبر لوجودها، ولفاعليتها في الارتقاء بالوعي الاجتماعي - الثقافي لمواجهة مشكلات الواقع، وتعقيدات العنف السياسي، ولمظاهر الإرهاب والإكراهية والاستغلال والاستبداد، فضلاً عن مواجهة إكراهات الفقد العاطفي والرمزي، والصحي والإنساني، فما بات واضحاً في الما بعد حداثي هو «تشظي الحقيقة» أو موتها بتعبير نيتشه، وهو ما يعني تقوّض كثير من المركزيات الآيديولوجية، والأطروحات المطلقة، وربما تقوض الأنظمة التقليدية، مثل النظام الصحي، والنظام المصرفي، والرعاية الصحية وقوانين الحماية الاجتماعية، ليس للانخراط في لا مركزية ما بعد الحداثة، بل للتعبير عن أن العالم لم يعد آمناً، وأن من يصنع الحرب، يمكنه أن يصنع الشر، وأن يعيد إنتاج أساطير العنف، وشخصيات العنف مثل الليدي ماكبث، كما يقول إيغلتون.


كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟
TT

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

كيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع التعقيد الرقمي؟

ينطلق كتاب «بلاغة الكود» للكاتب والباحث المصري مدحت صفوت من فكرة نقدية وجمالية تسعى إلى استدراج معانٍ ودلالات إبداعية من قلب التطوّر الرقمي وخوارزمياته، عبر تساؤل مركزي يفتتح به المؤلف أفق كتابه: «ماذا لو كان للكود لغة أعمق من مجرد المنطق الصارم؟»، وهو سؤال يُطرح بوصفه مدخلاً نقدياً لفهم عالم باتت بنيته قائمة على الأكواد، لا بوصفها لغة برمجية محايدة، بل أنساق لغوية تُنتج المعنى، وتوجّه الخيال، وتُعيد عبر ذلك تشكيل الخبرة الإنسانية.

من هذا المنطلق، لا يقدّم الكتاب قراءة تقنية للتطور الرقمي، بل يفتح أفقاً نقدياً لفهمه بوصفه خطاباً معاصراً له بلاغته الخاصة وأسئلته، وتأثيره العميق في طرائق التفكير والإبداع، في زمن تحكمه الشاشات وتديره الخوارزميات.

يقترح الكتاب، الصادر أخيراً عن دار «بيت الحكمة للثقافة» في القاهرة، مقاربة مركبة تجمع بين الفكر الجمالي، وفلسفة اللغة، والتحليل الاجتماعي، ودراسات الوسائط الرقمية، كاشفاً كيف أسهمت الخوارزميات في إعادة تعريف مفاهيم الإبداع والكتابة والاختيار، بل في إعادة صياغة العلاقة بين الفنان والآلة، فالكود في هذا السياق لا يعمل في الخلفية فقط، بل يتداخل مع الوعي، ويعيد ترتيب منظومات الإدراك، ويطرح سؤالاً جوهرياً حول إمكانية تزاوج «المنطق» و«العاطفة» بوصفهما درعاً فكرياً وإبداعياً في مواجهة المخاطر المتزايدة لعصر الرقمنة.

من هنا يتجاوز الكتاب النظر إلى الخوارزميات باعتبارها نقيضاً للخيال، ليطرح إمكانية أن تصبح مادة سردية جديدة، يمكن للكاتب أن ينسج منها حكايات لم تُروَ من قبل، تتقاطع فيها المادة الرقمية مع الروح الإنسانية، في محاولة لإعادة تخيل مستقبل أعمق اتصالاً بالإنسان.

ممارسة وجودية

يضع المؤلف قارئه داخل واقع ينسج نفسه من ألياف «الكود» الخفية، واقع تتشابك فيه التهديدات السيبرانية، والأسئلة الأخلاقية المرتبطة بالتكنولوجيا، والأوبئة العالمية، والتأثيرات العميقة للذكاء الاصطناعي، وهو واقع لم يعد فيه السؤال الجمالي ترفاً، بل ضرورة معرفية ملحّة، فكيف يمكن للفنون والآداب أن تتفاعل مع هذا التعقيد الرقمي، وهل يمكن للكود ذاته أن يتحول من أداة للضبط والسيطرة إلى وسيط إبداعي قادر على فتح مساحات جديدة للتعبير الإنساني؟

وينطلق صفوت في معالجة هذه الأسئلة من حزمة من الأدوات والمفاهيم النقدية المتداخلة، من بينها مفهوم «الحداثة الانعكاسية»، التي تُفهم هنا بوصفها لحظة وعي نقدي بالحداثة نفسها، وبآثارها، وبالتحولات العميقة التي أحدثتها في الفنون والآداب، وبموقع الفنان ودوره داخل عالم مشفّر بالمخاطر والشكوك. فالفن، في هذا التصور، لا يُختزل في كونه مرآةً للواقع أو هروباً منه، بل يتحول إلى ممارسة وجودية «ضد الموت»، وسجل حيّ للحياة بكل هشاشتها وتعقيداتها، داخل منظومة ثقافية يُعاد تشكيلها باستمرار عبر الأكواد.

عبر فصول الكتاب الثلاثة، يطرح المؤلف سياقاً تاريخياً ممتداً، يبدأ من صدمات الحروب العالمية، ويمر بتحوّلات الحداثة وما بعدها، وصولاً إلى فنان العصر الرقمي، ويتتبع العلامات والمدارس النقدية التي حاولت فهم تحوّلات الحركات الفنية، ومحاولات نحت مصطلحات نقدية جديدة تواكب التحولات الكونية الكبرى، من بينها تعبير «ما بعد الكورونولانية»؛ المصطلح الذي بدأ ساخراً في سياق جائحة «كورونا»، قبل أن يتحول إلى أداة تحليلية لفهم التحولات النفسية والثقافية التي أعقبتها.

مجتمع المخاطر

يتعمق صفوت في رصد تداعيات جائحة «كورونا» على المشهد الفني والأدبي، متتبعاً تحولات الممارسات الإبداعية، وأنماط تلقي الفن، ودور الناقد في عالم باتت فيه التجربة الجمالية مشروطة بالوسائط والشاشات. وفي هذا السياق، يتقاطع طرح الكتاب مع مفهوم «الحداثة الفيروسية» كما تطرحه الباحثة إليزابيث أوتكا، التي ترى أن الوباء لم يكن حدثاً صحياً فقط، بل عامل كاشف عن هشاشة البنى الثقافية والمعرفية، وعن سرعة انتقال القلق والخوف بوصفهما أنماطاً رمزية لا تقل فاعليةً عن الفيروس نفسه.

كما يستفيد الكتاب من استراتيجيات ما بعد الحداثة في أعمال عدد من المفكرين، وعلى رأسهم عالم الاجتماع الألماني أولريش بيك، أحد أبرز المفكرين المؤثرين في القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، الذي انشغلت أعماله بتحليل تحوّل المجتمعات الصناعية الحديثة إلى ما سماه «مجتمعات المخاطر»، الذي يشير به إلى مجتمعات لا تواجه الخطر بوصفه استثناء، بل بوصفه بنية دائمة ناتجة عن التقدم ذاته، ويرى الكتاب في هذا الطرح مهاداً سوسيوجمالياً ضرورياً لفهم عصرنا الراهن، وطبيعة المخاطر الجديدة التي تمثلها الرقمنة، وكيفية مقاربتها نقدياً وجمالياً، لا تقنياً فقط.

ولا ينفصل هذا المسار عن نقد أوسع لما وصفه الفيلسوف الفرنسي جان بودريار بـ«الواقع الفائق»، حيث تنفصل العلامات عن مدلولاتها، وتغدو الصور أكثر حضوراً من الواقع نفسه، ويتحول المعنى إلى سلسلة من الإحالات المؤجلة، في هذا العالم لا يصبح الغموض إثراءً للمعنى، بل اختزال له، وصولاً إلى عتبة العدمية، ومن هنا تطرح الأعمال الفنية والأدبية أسئلةً ملحّة حول العلاقة بين التخيل والواقع، وحول ما إذا كان ما نراه قائماً بذاته، أم مجرد نتاج للخطابات والوسائط التي تشكل وعينا.

أمام هذا التفكك، يرصد الكتاب تحوّلات الكتابة، مع تراجع نزعات التغريب التي ميزت كثيراً من تجارب ما بعد الحداثة، لصالح عودة الاهتمام بالبطل، وبناء التعاطف، وخلق جسور تواصل بينه وبين القارئ، في محاولة لاستعادة قدر من المعنى الإنساني داخل عالم متشظٍ، وهي عودة لا تعني الحنين إلى السرد التقليدي، بقدر ما تعكس وعياً بأزمة التلقي، وحاجة القارئ إلى موقع يسمح له بالتفكير في أزماته الراهنة، لا الاكتفاء بتفكيكها.


ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟
TT

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

ما الذي حصل للحلم الأميركي؟

في غضون خمسين عاماً من الاستقلال، شيّدت أميركا رؤيتين متناقضتين: النشوة، والحلم الأميركي. كانت الأولى مدفوعة بحماس نهاية العالم الذي رافق الصحوة الكبرى الثانية، فيما استُمدّت الرؤية الثانية من التفاؤل الجامح للمؤسسين أمثال توماس جيفرسون. وَعَدَت الأولى بأن الصالحين سيرتقون، فيما أقسمت الثانية بأن بإمكان الجميع فعل ذلك.

لكن اليوم، تبدو أسس الصعود غير ذات صلة. كل شيء أصبح أغلى ثمناً -رعاية الأطفال، والإيجار، والرهون العقارية، والتأمين الصحي، وفواتير الخدمات، والبقالة، والمطاعم، والأدوات المنزلية، وخدمات البث، وتذاكر الحفلات الموسيقية، وتذاكر الطيران، ومواقف السيارات، ناهيك بهدايا الأعياد... الرواتب ثابتة، وقوة العمال متحجرة، ومعركة مكافحة التضخم مستمرة للعام الخامس.

كيف ومتى أصبح الارتقاء الاجتماعي بعيد المنال كما يبدو؟ تتناول الكتب المعروضة هنا، هذا السؤال مباشرةً؛ إذ يتعمق بعض المؤلفين في كيفية تشكل الثغرات في طريق الحياة الأفضل؛ بينما يحدد آخرون مواطن الضغط الحالية. وتُظهر هذه الكتب مجتمعةً أن الأميركيين كافحوا لإصلاح اقتصادهم منذ تأسيس الولايات المتحدة، وأن جهود جيلٍ ما غالباً ما تؤتي ثمارها في الجيل الذي يليه.

كتاب «ثمن الديمقراطية» لفانيسا ويليامسون

من الضرائب المفروضة خلال حفلة شاي في بوسطن إلى التعريفات الجمركية في العصر الذهبي، قلّما نجد ما يُحدد التاريخ الأميركي مثل الضرائب. في هذا السرد التحليلي الدقيق للضرائب في الولايات المتحدة، تُجادل ويليامسون، الباحثة في معهد بروكينغز، بأن السياسة الضريبية تتجاوز مجرد تمويل الحكومة، فهي آلية لتوزيع السلطة والحفاظ عليها، فلطالما دعمت الضرائب أثرياء البلاد على حساب بقية الشعب. وتكتب ويليامسون أنه بعد الثورة، كانت أبيجيل آدامز من بين النخب التي اشترت سندات الحرب الحكومية متراجعة القيمة بأبخس الأثمان، ثم شاهدت قيمتها ترتفع مع رفع ماساتشوستس الضرائب لسدادها، على حساب المزارعين البسطاء في الغالب.

وعلى الرغم من هذه التفاوتات، فإن أطروحة ويليامسون المفاجئة هي أن الضرائب، عند تطبيقها بشكل صحيح، تُفيد الديمقراطية. فقد أسهم فرض ضريبة الدخل في ستينات القرن التاسع عشر في دعم المجهود الحربي للاتحاد، مما ضمن عدم تحميل الفقراء وحدهم عبء التكاليف.

وبعد الحرب، فرضت حكومة إعادة الإعمار في كارولاينا الجنوبية ضرائب على الأراضي، مما زاد عدد الأطفال الذين يمكنهم الحصول على التعليم العام بأكثر من أربعة أضعاف، حتى في ظل تفشي التهرب الضريبي.

وتجادل ويليامسون بأن معارضة الضرائب لطالما تستّرت وراء دعوات العدالة، لكن الخطر الحقيقي يكمن في غياب الشعور بالانتماء. وتكتب أنه في نهاية المطاف، عندما يسهم الناس في تمويل حكومة فعّالة، يصبحون أكثر ميلاً للمطالبة بحقهم في إبداء رأيهم فيما تفعله، ويتوقعون منها الاستجابة.

«حرية رجل واحد» لنيكولاس بوكولا

بين مقاطعة حافلات مونتغمري في خمسينات القرن الماضي وانتخابات عام 1964، طرح زعيم الحقوق المدنية مارتن لوثر كينغ والمرشح الرئاسي الجمهوري باري غولد ووتر، أفكاراً مؤثرة حول معنى «الحرية» في أميركا. في هذه الصورة المزدوجة المُلهمة، يُعيد بوكولا بناء كيفية تصادم حركتيهما، إذ قدّم كلا الرجلين مفهوماً مختلفاً للحرية، مُرسّخاً فهماً مُغايراً للنظام الاقتصادي الأمثل: اقتصر مفهوم كينغ عن الحرية على المساواة في الوصول إلى السلع والخدمات العامة، فيما استندت رؤية غولد ووتر للحرية إلى حقوق الملكية الشخصية.

يتتبع بوكولا، أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة «كليرمونت ماكينا»، كيف أصبحت رؤاهما المتنافستان، اللتان عَبّرا عنهما في خطاباتهما ومواعظهما ومناقشات مجلس الشيوخ، المنطق الأخلاقي المزدوج لأميركا الحديثة: أحدهما يُقدّس السوق، والآخر يُطالب بإصلاحها. حذّر غولد ووتر من أن «الحكومة الكبيرة» -بضرائبها وشبكات الأمان الاجتماعي- و«العمالة الكبيرة» -بضغطها التصاعدي على الأجور- تُهدّدان «نمط الحياة الاقتصادي الأميركي». وردّ كينغ بأن الحقوق السياسية دون فرص اقتصادية هي حقوق جوفاء. ويرى بوكولا أن تحالف الحقوق المدنية الذي قاده كينغ أسهم في إفشال حملة غولد ووتر، لكن أفكار غولد ووتر انتشرت في أوساط السياسة الأميركية، مُشكّلةً ثورة ريغان وعولمة السوق الحرة في عهد كلينتون.

«أمراء التمويل» للياقت أحمد

في كتابه التاريخي الحائز جائزة «بوليتزر» عام 2009، يتتبع أحمد مسيرة أربعة رجال سيطروا على البنوك المركزية الكبرى في العالم في السنوات التي سبقت الكساد الكبير، وهم: مونتاجو نورمان (بنك إنجلترا)، وبنيامين سترونغ (بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك)، وإميل مورو (بنك فرنسا)، وهيالمار شاخت (بنك الرايخ).

يتناول هذا الكتاب التاريخ العالمي، ولكنه يُعدّ جزءاً لا يتجزأ من التاريخ الأميركي، إذ لطالما امتدت آثار الاقتصاد الأميركي عبر الحدود الوطنية. وبينما كانت الاقتصادات الأوروبية تعاني من الركود بعد الحرب العالمية الأولى تحت وطأة التعويضات والديون، استخدم سترونغ خطوط الائتمان الأميركية للمساعدة في إنعاش البنوك الأوروبية.

«الصندوق الراديكالي» لجون فابيان ويت

لم يعتمد الأميركيون دائماً على الحكومة لتحسين أوضاعهم المعيشية. فقد شهدت عشرينات القرن الماضي ازدهاراً في الأسواق وتفاقماً في عدم المساواة. وكان رأس المال الخاص في كثير من الأحيان شريان الحياة الوحيد لمن يكافحون الفقر والفصل العنصري المتجذر والاعتداء واسع النطاق على الحريات المدنية.

في عام 1922، رفض تشارلز غارلاند، وريث وول ستريت، المصرفي البالغ من العمر 23 عاماً من ولاية ماساتشوستس، التربح من نظام رآه ظالماً، وتبرع بكامل ميراثه البالغ مليون دولار؛ لتأسيس الصندوق الأميركي للخدمة العامة. وكما يُبين ويت في كتابه التاريخي الشيق عن الصندوق الفيدرالي، فقد أصبح هذا التنازل محركاً مالياً دعم الأفراد والمؤسسات التي ستُشكل لاحقاً برنامج الصفقة الجديدة، وحركة الحقوق المدنية.

تحت قيادة روجر بالدوين، من الاتحاد الأميركي للحريات المدنية، دعم الصندوق مشاريع عالم الاجتماع الأسود دبليو إي بي دو بويز. دو بويز، ونورمان توماس، حامل لواء الحزب الاشتراكي، وماري وايت أوفينغتون، المؤسِّسة المشاركة للجمعية الوطنية للنهوض بالملوَّنين. وأشعلت نضالاتهم شرارة تحالفات عمالية واسعة النطاق، مثل مؤتمر المنظمات الصناعية، والحملات القانونية التي بلغت ذروتها في قضية براون ضد مجلس التعليم.

«بابيت» لسنكلير لويس

يسأل جورج ف. بابيت، رجل العقارات المولع بالأجهزة، وسائق سيارة بويك، والمنتمي إلى نادٍ ريفي، والذي يُمثّل محور رواية لويس الساخرة التي صدرت عام 1922، عن الرضا الذاتي للطبقة الوسطى: «بصراحة، هل تعتقدين أن الناس سيظنونني ليبرالياً أكثر من اللازم لو قلتُ إن المضربين كانوا محترمين؟». تدور أحداث هذه الرواية وسط احتجاجات عاملات بدالة الهاتف في مدينة زينيث الخيالية في الغرب الأوسط الأميركي.

تجيبه زوجته: «لا تقلق يا عزيزي، أعرف أنك لا تعني كلمة مما تقول». ومع ذلك، فإن مساعدة المضربين هي أول ما سيفعله ذلك الشاب الجامعي -الذي كان يحلم بالدفاع عن الفقراء. يعترف لابنه لاحقاً قائلاً: «لم أفعل في حياتي شيئاً أردته حقاً!». ثم يمر بأزمة منتصف العمر قصيرة الأمد. ينخرط في الأوساط البوهيمية، ويقيم علاقة غرامية مع أرملة، ويثير ضجة في ناديه الرياضي. لكن عندما يُقابل بتجاهل مجتمعه، ومرض زوجته، ينهار بابيت.

حققت الرواية مبيعات هائلة، ودخل عنوانها إلى اللغة الدارجة: أصبح «بابيت» اختصاراً للشخص المتوافق مع التيار السائد، العالق في عالم ضيق الأفق. لقد أدرك لويس، أول أميركي يفوز بجائزة نوبل في الأدب، ما يغيب غالباً عن الاقتصاديين: الحلم الذي انتقده ليس طموحاً، بل هو إجباري. الانسحاب يعني النفي، لذا يبقى معظم الناس في الداخل، مبتسمين في الفراغ.

* تكتب أليكسس كو عموداً عن التاريخ الأميركي في ملحق الكتب بصحيفة «التايمز». وهي زميلة بارزة في مؤسسة «نيو أميركا»، ومؤلفة كتاب «لن تنسى أبداً بدايتك: سيرة جورج واشنطن».

خدمة «نيويورك تايمز».