موسكو تحضر رداً «متكافئاً» على واشنطن يشمل إجراءات عسكرية

تجري مناورات ضخمة الشهر المقبل... ودعوات لنشر أسلحة نووية تكتيكية

قاذف لهب روسي حاز إعجاب زبائن أجانب خلال عرضه في معرض عسكري في البينو قرب موسكو (أ.ب)
قاذف لهب روسي حاز إعجاب زبائن أجانب خلال عرضه في معرض عسكري في البينو قرب موسكو (أ.ب)
TT

موسكو تحضر رداً «متكافئاً» على واشنطن يشمل إجراءات عسكرية

قاذف لهب روسي حاز إعجاب زبائن أجانب خلال عرضه في معرض عسكري في البينو قرب موسكو (أ.ب)
قاذف لهب روسي حاز إعجاب زبائن أجانب خلال عرضه في معرض عسكري في البينو قرب موسكو (أ.ب)

استعدت موسكو لإعلان رزمة من التدابير ردا على فرض عقوبات أميركية جديدة ضدها على خلفية قضية تسميم العميل المزدوج سيرغي سكريبال في بريطانيا. ورجحت أوساط روسية أن تشمل التدابير الروسية مقاطعة شركات أميركية وفرض قيود على بعض التعاملات مع الولايات المتحدة، وسط دعوات على المستويين العسكري والدبلوماسي لإعلان انسحاب موسكو من معاهدات في مجال خفض التسلح موقعة مع واشنطن ما يسمح لها بتعزيز قدراتها الدفاعية.
وأعلن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أمس، أن روسيا «سترد بالتأكيد على عقوبات واشنطن»، موضحا أن «الرد الروسي متكافئا مع إجراءات واشنطن ويقوم على مبدأ المعاملة بالمثل». وقال الوزير الروسي خلال حوار صحافي «من جانبنا، سنواصل العمل بهدوء وبراغماتية، وسنرد على جميع الهجمات وفقا لمبدأ المعاملة بالمثل»، منبها إلى أن «محاولات التحدث معنا بلغة الإنذارات، غير مقبولة». وأضاف لافروف أن بلاده ستبقى برغم ذلك منفتحة للحوار، بهدف «بناء علاقات طبيعية مع واشنطن تقوم على أساس الاحترام الحقيقي لمصالح بعضنا البعض».
وكانت رزمة العقوبات التي أعلنتها وزارة الخارجية الأميركية، ردا على اتهام موسكو باستخدام الأسلحة الكيماوية في مدينة سالزبوري البريطانية دخلت حيز التنفيذ صباح الاثنين.
وفي إطار هذه العقوبات ينبغي على واشنطن إنهاء أي مساعدة أميركية لروسيا بموجب قانون المساعدات الأجنبية لعام 1961، باستثناء المساعدات الإنسانية العاجلة والمواد الغذائية والمنتجات الزراعية الأخرى.
وتضع العقوبات قيودا على منح تراخيص لتصدير الأسلحة الأميركية للمؤسسات الحكومية الروسية، والمنتجات ذات الاستخدام المزدوج، باستثناء الصادرات اللازمة للتعاون في عمليات إطلاق الصواريخ للأغراض التجارية إلى الفضاء، بالإضافة إلى المنتجات اللازمة لضمان سلامة رحلات الطيران المدني. كما أكدت الخارجية الأميركية أنه سيتم وفقا لرزمة العقوبات الجديدة رفض منح أي قرض وضمانات ائتمانية لروسيا أو أي دعم آخر، من قبل أي مؤسسة أميركية.
بينما تتجه الحزمة الثانية الأكثر صرامة، التي تدخل حيز التطبيق في نوفمبر (تشرين الثاني)، إلى تجميد أصول مصارف روسية ومنعها من التعامل مع خدمات المصارف الوسيطة للتحويلات بالعملة الأميركية، نحو تقليص التمثيل الدبلوماسي بين البلدين إلى أدنى درجة. ووصفت أوساط روسية رزمة العقوبات الجديدة بأنها «تعود بالعلاقات أكثر من أربعين عاما إلى الوراء».
اللافت أن السجالات حول الرد الروسي المحتمل على العقوبات الجديدة تزامنت مع تصاعد في وتيرة التحذيرات العسكرية، وسط مطالبات من أوساط برلمانية وقريبة من وزارة الدفاع باللجوء إلى تدابير «غير مسبوقة» بينها الانسحاب من معاهدات خفض التسلح ونشر أسلحة روسية استراتيجية خارج البلاد للمرة الأولى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.
وقال النائب الأول لرئيس لجنة مجلس الدوما للسياسة الاقتصادية والتنمية فلاديمير غوتينيف إن الولايات المتحدة تخطت «الخط الأحمر» في علاقاتها مع روسيا. ودعا الرئيس الروسي إلى «التفكير في الرد المناسب عبر تعليق الاتفاق بشأن الصواريخ النووية مع واشنطن ونشر أسلحة نووية في بلدان عدة بينها سوريا». ورأى النائب أن «الضغط على روسيا سيزداد في المجال العسكري، بما في ذلك محاولة عرقلة مبيعات الأسلحة الروسية إلى بلدان أخرى. نحن نرى أن الأميركيين الآن يتحدثون عن فرض عقوبات على الدول التي ستشتري أسلحة روسية.. وينبغي الاستماع إلى رأي بعض الخبراء الذين يقولون إنه يتوجب على روسيا تعليق تنفيذ اتفاق عدم نشر التكنولوجيا الصاروخية وكذلك أن تحذو حذو الولايات المتحدة وتنشر في خارج البلاد أسلحة تكتيكية نووية. وأنا لا استبعد أن تكون إحدى الدول التي ستنشر فيها الأسلحة هي سوريا، حيث يوجد عندنا قاعدة جوية محمية».
وأشار غوتينيف إلى أن الخطوة الأخرى يمكن أن تتمثل في التحول في الحسابات عند تصدير الأسلحة إلى العملات المشفرة عندما تكون مرتبطة بالذهب، مشدداً على أن «هذا الأمر سيثير اهتمام الصين والهند وبلدان أخرى». ورأى أن حزمة العقوبات التالية ستجبر روسيا على «رسم خطوطها الحمراء»، وكل التدابير المقترحة ستصبح «ذريعة خطيرة للغاية لمزيد من التأجيج».
وكان الحديث عن رد «عسكري» روسي على تحركات واشنطن الأخيرة اتخذ منحى أكثر شمولا خلال الأسبوعين الأخيرين، خصوصا على خلفية الإعلان عن زيادة الموازنة العسكرية الأميركية.
وأعلن نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، أن موسكو تشعر بالقلق من المبالغ القياسية التي خصصتها واشنطن للأغراض العسكرية في ميزانية الدفاع الجديدة، وسوف تحللها بعناية. واتهم الدبلوماسي الروسي الولايات المتحدة والدول الحليفة لها في أوروبا بأنها تنتهك عمدا معاهدة تدمير الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى عن طريق نشر منصات إطلاق صاروخية على مقربة من الحدود مع روسيا.
وزاد ريابكوف في حوار صحافي أمس، أن التحضيرات الروسية للرد على إجراءات واشنطن ستشتمل «كل المجالات». وتساءل: «هل تعتبرون حقا أننا لن نتمكن من التعامل مع موجة أو حتى 5 موجات من العقوبات؟ نعم، علينا الاستعداد لذلك، ونحن نستعد».
وشدد ريابكوف على أن «هذا الأمر يستعد له كل من القطاعين الاقتصادي والعسكري، وتذكروا ما قاله الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في رسالته السنوية إلى الهيئة الاشتراعية. إن ذلك إشارة للعالم كله، وبالدرجة الأولى للولايات المتحدة، ويكمن مفادها في أننا سندافع عن أمننا في أي حال من الأحوال بما في ذلك عبر الوسائل العسكرية». وشدد ريابكوف على أن روسيا «ستصمد» أمام جميع محاولات ترهيبها مهما كان عدد مشاريع القوانين المتدفقة بسرعة خيالية في الكونغرس الأميركي التي تستهدف «تركيع الدولة الروسية وإضعافها».
تزامن ذلك مع إعلان وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أمس، عن إجراء مناورات عسكرية الشهر المقبل وصفت بأنها ستكون الأضخم في روسيا خلال العقود الأربعة الماضية. وتشتمل التدريبات التي أطلقت عليها تسمية «فوستوك (الشرق) – 2018» على مناورات يشارك فيها أكثر من 300 ألف عسكري من مختلف قطاعات الجيش البرية والجوية البحرية.
وذكرت أوساط روسية لـ«الشرق الأوسط» أن المناورات ستجري بين 11 إلى 15 سبتمبر (أيلول)، وأن وزارة الدفاع وجهت دعوات إلى كل الملحقين العسكريين في السفارات الأجنبية المعتمدة لديها لحضور التدريبات كمراقبين، وزادت أن بعض السفارات أبلغت الجانب الروسي بتلبيتها الدعوة.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟