تجريب جريء في سيرة سارة برنارت

تجريب جريء في سيرة سارة برنارت
TT

تجريب جريء في سيرة سارة برنارت

تجريب جريء في سيرة سارة برنارت

تكتب فرنسواز ساغان سيرة الممثلة المسرحية الفرنسية المعروفة في كتابها «سارة برنارت ضحك لا يُكسر» - ترجمه أخيراً عن الفرنسية عباس المفرجي - بعيداً عن الأسلوب التقليدي في كتابة السيرة، فهي لم تنحُ منحى تاريخياً في قراءتها لحياة الممثلة المسرحية الشهيرة، وكأنها تجيب بالإيجاب عن سؤال أندريه موروا: «هل ثمة ما يوصف بالسيرة الحديثة؟ وهل ثمة شكل أدبي يختلف عن شكل السيرة التقليدية»، من هنا يمكن أن نصف هذه السيرة بوصفها غير تقليدية... سيرة لا تجميلية، فيها الجوانب اللعينة والشيطانية كلها، «فقد دمّر الكذابون الأبطال الوطنيين في سيرهم»، كما يقول والت وتمان. وفرنسواز ساغان هي الكاتبة الفرنسية الشهيرة التي بدأت حياتها بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية في الفترة التي شهدت بروز الوجودية والوجوديين، وكانت باكورة أعمالها «صباح الخير أيها الحزن». أما سارة برنارت فهي الممثلة المسرحية التي سادت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ودخلت عالم السينما، والتي قال عنها تشارلي شابلن إنها «أعظم ممثلة شهدتها في حياتي».
تجول ساغان في سيرة برنارت على مدى مائة رسالة عُرضت فيها كل تفاصيل حياتها وآرائها في الفن والحياة، ومعاصريها.
رسائل مفترضة شكّلت لحوار طويل بين اثنتين، لم تلتقيا أبداً، فبينهما ما يربو على مائة عام. ويشكل هذا الحوار إعادة إنتاج سيرة هذه الممثلة العظيمة.. فساغان تعتمد أسلوب التشكيك في كل ما كتب عن برنارت من سيرة ومذكرات، بما فيها مذكراتها المعنونة «حياتي المزدوجة»، لمحاولة الوصول إلى الحقيقة. تجيبها برنارت عن أحد الأسئلة: «يا صديقتي العزيزة إنك أحياناً تزعجينني، إما لأنك تخطئين، وإما لأنك تريدين معرفة الحقيقة».
تُلخّص أولى الرسائل أسلوبها في استنطاق سيرة حياة هذه الممثلة العظيمة، تسأل ساغان: «أعتقد أني قرأت كل سِيَر الحياة، كل المذكرات، كل الحكايات والأقاويل، كل الأوصاف - أو على الأقل المتاحة حديثاً - التي كُتِبَت عنكِ منذ موتكِ. وما يعني أكثر من ستين عاماً... تحدث عنك معاصروك، إما بتوقير مغالٍ فيه، أو بحقد كبير، بمعنى آخر، بأقوال مبتذلة». ثم تمضي بالقول بأن «السبب الرئيس في اختيار هذه السيرة موضوعاً لهذا الكتاب كان هو ذلك المرح، المرح الذي لا يُكسر».
انطلاقاً من هذا القول، تحاول ساغان الغوص في تفاصيل حياة برنارت بأسئلة مشاكسة، وبكثير من الاستفزاز، الذي يجعل هذه الممثلة الكبيرة تستنطق كل ما كتب عنها من تفاصيل حقيقية أو واهمة.
تجيب برنارت: «أنا موافقة. لا لأن بي أي رغبة في تغيير الصورة التي قد تكون لدى معاصريك عنّي، أو تلك الصور التي ربما ستكون لأطفالك أو أحفادك. ما يهمني هي الصورة الخاصة بي أثناء حياتي».
كانت أمها تعيش مع مسيو لاتكراي، ابن الطبيب الجراح الخاص بنابليون، وكانت خالتها تعيش مع الدوق دو مورني... فتصبح أسيرة لأهواء الرجال الشبقين «كنت خارجة صافية ونقية الفكر والجسد من دير». ثم، تتحدث عن اللحظات الأولى التي ارتقت فيها درجات الكوميدي فرنسيز وكيف أصابتها الدهشة والإعجاب بديكور بشع، مزعج من رخام زائف. و«طوال العرض المسرحي لم أتحرك مطلقاً ولم يرف لي جفن، حسب قول مدموازيل دو برانديه التي من خلف مقعدي راقبت ردود أفعالي». وتتذكر برنارت الأدباء والكتاب في عصرها: راسيت كورناي ومولير ولافونتين وطبعا بروست الذي تقول عنه: «كان فاتناً للغاية طويل القامة بشعر أسود، وعيناه بلا ريب أغرب عينين رأيتهما في حياتي».
سارة برنارت، كانت أول نجمة في العالم قاطبة (قبل أن توجد هوليوود بخمسين عاماً)، وكان لها مريدون كُثر في أميركا وإنجلترا وموطنها فرنسا. ألهمت ألكساندر دوما في «غادة الكاميليا»، وأوسكار وايلد في «سالومي». كانت الوجه الذي مثّل الآرت نوفو (الفن الحديث)، متألقاً في عشرات البوسترات التي رسمها ألفونس موشا. في شبابها، احتضنها مجتمع التو - باري بعد أن نجحت في المسرح، كما في السينما فيما بعد: شغف بها هيغو، دوما (الأب والابن)، وايلد، كوكتو؛ وخلدها بروست في شخصية بيرما في «البحث عن الزمن المفقود». كانت الممثلة الوحيدة على الإطلاق التي نجحت في أداء أوفيليا وهاملت على حدّ سواء.
هذه السيرة هي بالتأكيد ليست تقليدية، هي حتى ضد كل التقاليد. نأت فيها فرنسوا ساغان عن جميع مَن داهنوا بطلتها أو هاجموها، وتشاورت «مباشرة» معها (عبْر المراسلة). «سارة برنارت» تجريب جريء في السيرة والسيرة الذاتية... مراسلة استثنائية بين واحدة من أشهر روائيات عصرها وواحدة من أشهر الممثلات في كل الأزمان... حوار بين امرأتين متميزتين وثائرتين ليس للموت عليهما سلطان.
تقول في ختام اعترافاتها لساغان: «الحياة عظيمة وحرّة وممتعة. الحياة مذهلة. ثمة ريح، ثمة دموع، ثمة قُبَل، ثمة حماقات، ثمة شهوات، ثمة ندامات. الحياة... بعيدة. لكن الحياة كانت قريبة جدّاً. أنصحكِ بها بكل قلبي وروحي. وبخاصّة، صدّقيني، إن استطعتِ، اضحكي! اضحكي كثيراً لأنه حقّاً، إن كان هناك من هبة هي أغلى من أي أخرى، فهي تلك: ضحكٌ لا يُكسَر...».


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.