ماكرون يدعو الأوروبيين إلى الاعتماد على أنفسهم لتوفير أمنهم

قمة متوسطية في مرسيليا الربيع المقبل... وباريس تتمسك بانتخابات ليبيا قبل نهاية العام

ماكرون يلقي خطابه أمام السفراء في الإليزيه أمس (أ.ف.ب)
ماكرون يلقي خطابه أمام السفراء في الإليزيه أمس (أ.ف.ب)
TT

ماكرون يدعو الأوروبيين إلى الاعتماد على أنفسهم لتوفير أمنهم

ماكرون يلقي خطابه أمام السفراء في الإليزيه أمس (أ.ف.ب)
ماكرون يلقي خطابه أمام السفراء في الإليزيه أمس (أ.ف.ب)

ككل عام، وبعد انتهاء العطلة الصيفية، يلتئم مؤتمر سفراء فرنسا عبر العالم، وتكون فاتحته خطاب لرئيس الجمهورية يرسم فيه «خريطة الطريق» لدبلوماسية بلاده للسنة الطالعة، ويحدد أولوياتها، والتحديات التي ستواجهها. ومنذ ما قبل انتخابه ربيع العام الماضي، جعل الرئيس إيمانويل ماكرون من تجذير وتحديث المشروع الأوروبي أولى أولوياته، بالنظر لما يعرفه الاتحاد من صعوبات وانقسامات داخلية، لعل أبرزها اليوم خروج بريطانيا منه، وصعود اليمين المتطرف في أكثر من بلد، والتناحر بين أطراف الاتحاد بشأن مسألة الهجرة، كما برز ذلك في الأسابيع الأخيرة.
وإزاء هذا الوضع، لم يكن مستغرباً أن يكرس ماكرون الأساسي من خطابه أمام السفراء والدبلوماسيين والمحللين والإعلاميين للملف الأوروبي من عدة زوايا، وأن يضع الأصبع على مكامن الضعف، وأن يطرح مقترحاته التي سبق له أن عرضها في مناسبات سابقة.
اللافت في كلام ماكرون كان التركيز على حاجة أوروبا إلى ضمان أمنها بنفسها، والتوقف عن الاعتماد كلية على «المظلة» الأميركية، خصوصا مع وجود رئيس للولايات المتحدة يمارس «الانعزالية»، ولا يؤمن بأهمية الحلف الأطلسي، ولا ينفك عن مطالبة شركائه الأوروبيين بأن يرفعوا مساهماتهم المالية. ويربط ماكرون ذلك كله بمفهوم «السيادة» الأوروبية الشامل، التي يريدها أمنية كما يريدها اقتصادية.
وبانتظار أن يكشف الرئيس الفرنسي عن مقترحاته بصدد الأمن في أوروبا «في الأشهر المقبلة»، كما قال، فإنه يعتبر أنه «لم يعد بإمكان أوروبا الاعتماد على الولايات المتحدة حصراً في أمنها، حيث إن ضمان أمنها من مسؤولياتنا».
وفي حين تتدهور العلاقة بين واشنطن وموسكو، فإن الرئيس الفرنسي لا يجد حرجاً في القول إن على الأوروبيين أن «يطلقوا مراجعة شاملة لملف أمنهم، يشمل روسيا» التي يفرض عليها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية عقوبات اقتصادية وتجارية، بسبب دورها في حرب أوكرانيا، ولضمها شبه جزيرة القرم في عام 2014.
بيد أن مشكلة ماكرون تكمن في أن الملف الأمني يفتقر للإجماع أوروبياً، ذلك أن مقاربة دول الاتحاد تختلف من دولة إلى أخرى، وليس أدل على ذلك من تمسك بلدان البلطيق وأوروبا الشرقية بالمظلة الأميركية، التي تفضلها على أمن أوروبي في طور التكوين.
كذلك، فإن هذه الدول المترددة ليست راغبة بأن تكون تحت الحماية الفرنسية الألمانية، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد. لذا، فإن أكثر من مصدر فرنسي يعتبر أن تحقيق «الحلم» الرئاسي سيحتاج إلى سنوات، أو أنه لن يتحقق أبداً.
ما يصح على أوروبا في الملف الأمني يصح كذلك على الملف الاقتصادي والإصلاحي، وكلاهما يتمسك بهما ماكرون، الذي لا يخفي حجم العوائق التي تواجهها طروحاته، والتي منها صعود نجم الحركات القومية والحكومات الشعبوية، والانقسامات بين دول الشمال والجنوب، وتفجر ملف الهجرات، والضعف الذي يلحق بالاتحاد بسبب «بريكست»، وهشاشة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، حيث إن برلين هي الشريك التقليدي التاريخي لفرنسا داخل الاتحاد. وإذا كان ماكرون يؤكد أنه زار منذ انتخابه نصف بلدان الاتحاد، وهو اليوم في زيارة للدنمارك، ثم لفنلندا، فإن مقترحاته لإعادة إطلاق البناء الأوروبي لم تلاقِ الأصداء الإيجابية التي يرغب بها. ومن هنا، يأتي تركيزه على أهمية الجهود لمتابعتها من أجل إعادة تحريك الاتحاد.
بيد أن الاهتمام بأوروبا لا ينسي ماكرون التحديات الأخرى، خصوصاً تلك التي تهدد أمن ومصالح فرنسا وأوروبا المباشرة، وأولها الوضع الليبي. ويرى الرئيس الفرنسي أن توفير الأمن والاستقرار في ليبيا، والمحافظة على وحدتها، تشكل «عنصراً أساسياً لإرساء الاستقرار في المنطقة، وبالتالي لمكافحة جميع الإرهابيين والمهربين».
ومنذ انتخابه، شكل الملف الليبي أحد الثوابت لسياسته الخارجية، ولعل أفضل دليل على ذلك أن باريس نظمت واستضافت اجتماعين رئيسيين حول ليبيا: الأول في يوليو (تموز) العام الماضي. والثاني في مايو (أيار) الماضي، الذي ضم شخصيات رئيسية مؤثرة محلياً، وتمخضت عنه «خريطة طريق»، أبرز بنودها إجراء انتخابات قبل نهاية العام الحالي، وكلّف وزير الخارجية جان إيف لودريان بمتابعتها. ولذا، فقد قام بزيارة مطولة إلى ليبيا، والتقى كل الأطراف. إلا أن سياسة فرنسا، التي تدعمها مصر والسعودية والإمارات، تلقى انتقادات من كثير من البلدان، بينها إيطاليا. وأمس، شدد ماكرون على أهمية المضي قدماً باتفاق باريس، وجدد دعم بلاده للمبعوث الأممي غسان سلامة، الذي حضر الاجتماعين المشار إليهما.
وفي رؤية ماكرون لجوار فرنسا وأوروبا المباشر، وللمشكلات المرتبطة به، يتداخل البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط وبلدان الساحل وأفريقيا. ومن هنا تأتي أهمية مقترح الرئيس الفرنسي لعقد قمة متوسطية بداية صيف العام المقبل في مدينة مرسيليا الساحلية المتوسطية.
وتقصد ماكرون اختيار هذا التاريخ لأنه يأتي بعد عشر سنوات على إطلاق الاتحاد من أجل المتوسط، إبان رئاسة نيكولا ساركوزي. والحال أن هذا الاتحاد، رغم جهود أمنائه العامين، بقي هامشياً غير فاعل بسبب ما يعرفه كثير من أعضائه من مشكلات داخلية، وحروب وأزمات توافقت مع «الربيع العربي»، إضافة إلى ملف النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. ومن هنا، فإن ماكرون يعلو على قمة متوسطية جديدة لإعادة «بلورة سياسة متوسطية» تكون «مختلفة» عما سبقها، وتضم المجتمعات المدنية، وتتحدث إلى الشباب على ضفتي المتوسط، وتهتم بالمسائل الجامعية، وتبادل الخبرات.
وذكر ماكرون بأنه سبق له أن زار ثلاثاً من الدول المغاربية، هي: الجزائر وتونس والمغرب، وأنه ينوي كذلك زيارة مصر «في الأشهر المقبلة»، بعد أن تتسلم رئاسة الاتحاد الأفريقي. وسبق لماكرون أن أعلن عن رغبته بزيارة لبنان «أوائل العام المقبل»، بحسب تصريح سابق للسفير الفرنسي في بيروت، برونو فوشيه.
وفي السياق المتوسطي، كان لافتاً تركيز ماكرون على تركيا. ورغم التأكيد على الحاجة لإقامة «شراكة استراتيجية» معها، «ومع روسيا»، من أجل أمن أوروبا، فإن ماكرون أغلق الباب تماماً بوجه انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، واعتبر أن «تركيا الرئيس إردوغان ليست تركيا كمال أتاتورك»، مقارناً بذلك بين الدولة العلمانية التي بناها الثاني والبرنامج السياسي والاجتماعي للرئيس الحالي، الذي وصفه بـ«الإسلاموي»، حيث «لا تتوافق قيمه مع القيم الأوروبية».
الغائب الكبير في المنطقة المتوسطية الشرق أوسطية عن خطاب ماكرون هو الملف الفلسطيني الإسرائيلي. وللعام الثاني على التوالي، يمتنع الرئيس الفرنسي عن الخوض فيه، رغم أنه استقبل أكثر من مرة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في قصر الإليزيه. وما هو معروف أن باريس «نصحت» الفلسطينيين بألا ينقطعوا عن الولايات المتحدة الأميركية، وأن «ينتظروا» أن تكشف إدارة الرئيس ترمب عن «خطتها» المرتقبة التي يبدو أن الكشف عنها سيتأخر بعد انقضاء عدة مواعيد حددت لها، ولكن بشكل غير رسمي. وكانت باريس فد انتقدت بقوة قرار واشنطن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارتها إليها.
وخلال تسعين دقيقة، تناول ماكرون بكثير من التفصيل في غالب الأحيان التحديات التي تواجهها فرنسا، والفرص التي دعا إلى اقتناصها، من خلال اعتماد «الدبلوماسية الاقتصادية»، القائمة على تسخير العمل الدبلوماسي لدفع الاقتصاد الوطني. ولم ينسَ ماكرون ما يسمى «القوة الناعمة»، أي التأثير الثقافي والعلمي والجامعي، مشدداً على أهمية الفرنكوفونية لحمل «رسالة» فرنسا إلى العالم.
وفي أي حال، فإن فرنسا ستكون قبلة العالم بمناسبة احتفالات 11 نوفمبر (تشرين الثاني)، التي ستشهد «قمة» عالمية للاحتفال بمرور مائة عام على انتهاء الحرب العالمية الأولى. كذلك تخطط باريس لقمة أخرى، ستكرس للأمن الجماعي، وستكون إبان ترؤس باريس لمجموعة البلدان السبع الأكثر تقدماً، التي سيلتقي قادتها في مدينة بيارتز، جنوب غربي فرنسا، على المحيط الأطلسي، في الربيع المقبل.



روته: يجب على «الناتو» تبني «عقلية الحرب» في ضوء الغزو الروسي لأوكرانيا

TT

روته: يجب على «الناتو» تبني «عقلية الحرب» في ضوء الغزو الروسي لأوكرانيا

صورة التُقطت 4 ديسمبر 2024 في بروكسل ببلجيكا تظهر الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته خلال مؤتمر صحافي (د.ب.أ)
صورة التُقطت 4 ديسمبر 2024 في بروكسل ببلجيكا تظهر الأمين العام لحلف «الناتو» مارك روته خلال مؤتمر صحافي (د.ب.أ)

وجّه الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) مارك روته، الخميس، تحذيراً قوياً بشأن ضرورة «زيادة» الإنفاق الدفاعي، قائلاً إن الدول الأوروبية في حاجة إلى بذل مزيد من الجهود «لمنع الحرب الكبرى التالية» مع تنامي التهديد الروسي، وقال إن الحلف يحتاج إلى التحول إلى «عقلية الحرب» في مواجهة العدوان المتزايد من روسيا والتهديدات الجديدة من الصين.

وقال روته في كلمة ألقاها في بروكسل: «نحن لسنا مستعدين لما ينتظرنا خلال أربع أو خمس سنوات»، مضيفاً: «الخطر يتجه نحونا بسرعة كبيرة»، وفق «وكالة الصحافة الفرنسية».

وتحدّث روته في فعالية نظمها مركز بحثي في بروكسل تهدف إلى إطلاق نقاش حول الاستثمار العسكري.

جنود أميركيون من حلف «الناتو» في منطقة قريبة من أورزيسز في بولندا 13 أبريل 2017 (رويترز)

ويتعين على حلفاء «الناتو» استثمار ما لا يقل عن 2 في المائة من إجمالي ناتجهم المحلي في مجال الدفاع، لكن الأعضاء الأوروبيين وكندا لم يصلوا غالباً في الماضي إلى هذه النسبة.

وقد انتقدت الولايات المتحدة مراراً الحلفاء الذين لم يستثمروا بما يكفي، وهي قضية تم طرحها بشكل خاص خلال الإدارة الأولى للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب.

وأضاف روته أن الاقتصاد الروسي في «حالة حرب»، مشيراً إلى أنه في عام 2025، سيبلغ إجمالي الإنفاق العسكري 7 - 8 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد - وهو أعلى مستوى له منذ الحرب الباردة.

وبينما أشار روته إلى أن الإنفاق الدفاعي ارتفع عما كان عليه قبل 10 سنوات، عندما تحرك «الناتو» لأول مرة لزيادة الاستثمار بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم من طرف واحد، غير أنه قال إن الحلفاء ما زالوا ينفقون أقل مما كانوا ينفقونه خلال الحرب الباردة، رغم أن المخاطر التي يواجهها حلف شمال الأطلسي هي «بالقدر نفسه من الضخامة إن لم تكن أكبر» (من مرحلة الحرب الباردة). واعتبر أن النسبة الحالية من الإنفاق الدفاعي من الناتج المحلي الإجمالي والتي تبلغ 2 في المائة ليست كافية على الإطلاق.

خلال تحليق لمقاتلات تابعة للـ«ناتو» فوق رومانيا 11 يونيو 2024 (رويترز)

وذكر روته أنه خلال الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، أنفق الأوروبيون أكثر من 3 في المائة من ناتجهم المحلي الإجمالي على الدفاع، غير أنه رفض اقتراح هذا الرقم هدفاً جديداً.

وسلَّط روته الضوء على الإنفاق الحكومي الأوروبي الحالي على معاشات التقاعد وأنظمة الرعاية الصحية وخدمات الرعاية الاجتماعية مصدراً محتملاً للتمويل.

واستطرد: «نحن في حاجة إلى جزء صغير من هذه الأموال لجعل دفاعاتنا أقوى بكثير، وللحفاظ على أسلوب حياتنا».