«سيرة الرواية المحرمة» أصبحت سيرة محفوظ من «نوبل» إلى طعنة الرقبة

محمد شعير يعيدنا إلى مسار الصحافة السردية من بوابة «أولاد حارتنا»

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ
TT

«سيرة الرواية المحرمة» أصبحت سيرة محفوظ من «نوبل» إلى طعنة الرقبة

نجيب محفوظ
نجيب محفوظ

ولدت الصحافة العربية في حضن الأدب قبل أن تستقر تقاليدها الخاصة بوصفها «حرفة». كان الأدباء هم كتاب المقالات السياسية، ومع الوقت انحسروا في الصحافة الثقافية. وحتى الآن يندر أن يكون المحرر الثقافي محرراً فقط. البعض كان شاعراً أو قاصاً قبل أن يحترف الصحافة، والبعض الآخر يشعر بعد سنوات من العمل أنه لم يعد يليق به أن يكتفي بمتابعة إبداعات الآخرين، وعليه أن يختار بين الشعر والرواية أو يجمع بينهما مع حرفته.
الصحافي المصري محمد شعير واحد من عدد قليل من المحررين الأدبيين الذين لم يتجهوا لكتابة الشعر أو الرواية، مكتفياً بلقب الصحافي، وكأنه يذكِّر بأساتذة المهنة الكبار، وبالمهنة عندما كانت مهيبة ومُرضية لمزاوليها.
ولم يكن على خطأ، إذ بات جهده محسوساً، وهو يواصل نضجه في تعميق مسار الصحافة السردية التي تعد طوق النجاة للصحافة المكتوبة، فهي التي يمكن أن تميز الصحيفة عن وسائل الاتصال الأحدث التي انتزعت منها الخبر السريع. وقد نال هذا الفن اعتراف مؤسسة نوبل التي منحت جائزة الأدب عام 2015 للروسية سفيتلانا أليكسييفيتش.
ومن حسن الحظ أن الجوائز العربية، وهي عادة أقرب إلى الظلم منها إلى العدل، أحست بما يقدمه شعير؛ ففاز بجائزة دبي وجائزة نقابة الصحافيين المصريين لمرات متعددة.
صدر لشعير مؤخراً عن دار العين بالقاهرة كتاب ينتمي لهذا الفن «الصحافة السردية» بعنوان «أولاد حارتنا... سيرة الرواية المحرمة» ويمكن كذلك تصنيفه ضمن فرع التاريخ الأدبي والسياسي، منتصراً للسرد والتحليل والجهد الاستقصائي.
تفتقر المكتبة العربية لهذا النوع من التأليف وقد يكون هذا أحد أسباب ما تعانيه ثقافتنا من انقطاع بين الأجيال، بينما يمثل حضوره في الثقافات الأخرى سبباً مهماً في استمرار كتابها الكلاسيكيين على قيد الحياة، ومن الأمثلة البارزة على ذلك شكسبير ومارسيل بروست.
لدينا بالطبع بعض الكتب تصدر بين وقت وآخر تحمل مراسلات الأدباء، أو أوراقا جديدة من سيرتهم، لكنها تكون بمثابة نشر للأرشيف الميت. ولكن شعير بث الحياة في المادة الأرشيفية، واستكملها بلقاءات أجراها مع أطراف قضيته الذين لا يزالون على قيد الحياة. وقد اتخذ من «أولاد حارتنا» منطلقاً لكتابة سيرة جديدة لمحفوظ ومنطلقاً لإعادة فهم عصر ومجتمع، بنية النظام السياسي وطريقة تفكيره وتفكير النخبة الثقافية، ولا نخرج من الكتاب إلا وقد عرفنا لماذا وكيف تخطت مجال الأدب لتصبح ورقة في الصراع السياسي والديني منذ صدورها مسلسلة في صحيفة الأهرام إلى اليوم!
دون مقدمة يبدأ الكتاب، كما تبدأ الروايات. الفصل الأول بعنوان «21 سبتمبر (أيلول) 1959» وهذا التاريخ هو اليوم الذي نشرت فيه الأهرام الحلقة الأولى من الرواية، ويبدأ الفصل هكذا:«انخفاض مفاجئ في درجات الحرارة، الجو أقرب إلى البرودة، والسحب الخريفية تغطي سماء القاهرة، الشيوعيون في سجن المحاريق بالواحات، بينما تتواصل الحملات الإعلامية ضدهم. لص مجهول يسطو على كرمة ابن هانئ، بيت الشاعر أحمد شوقي على نيل الجيزة. العناوين الرئيسية للصحف تتحدث عن مظاهرات حاشدة ضد عبد الكريم قاسم، بعد تنفيذ حكم الإعدام في عدد من قادة ثورة الشواف».
حملت صحافة ذلك اليوم الكثير من الأحداث الأخرى: الصورة الرئيسية لجمال عبد الناصر مع عبد الحكيم عامر بعد خطاب ألقاه في اليوم السابق بمدينة رشيد تحدث فيه عن الحرب مع الإنجليز والحرب على الإقطاع، وقد وزع ناصر في الاحتفال ذاته الماشية على الفلاحين وسلم جوائز مسابقة للقصة بعنوان «في سبيل الحرية» وقد قامت الصحف بواجبها في مهاجمة الكتاب الكبار لأنهم لم يتقدموا بنصوص للمسابقة!
كانت عناوين الصحف تتناول كذلك خطاب نيكيتا خروتشوف أمام الأمم المتحدة وتركز على مطالبته بإلغاء الجيوش والكليات العسكرية والاكتفاء بمجموعات صغيرة لحفظ الأمن الداخلي! وهناك كذلك حملة صحافية على «أتباع جيمس دين» وهم مجموعة من الشباب المعجبين بالممثل الأميركي (1931 - 1955) وقد جعلهم رحيله الفاجع يقلدون مظهره!
سنعرف كذلك ما كان يعرضه المسرح القومي في ذلك الوقت، وخبر انتهاء السنباطي من تلحين أغنية «الحب كده» التي ستفتتح بها أم كلثوم موسمها الغنائي.
يأخذنا السرد في فصول تالية لنعرف أن اللص الذي سرق فيلا أمير الشعراء، سيتابع أعمال السطو، ويصبح لغزاً أمنياً يهز المجتمع ويجذب نجيب محفوظ ليكتب رواية أخرى هي «اللص والكلاب».
يحكي شعير ما ذكره محفوظ عن اللحظة التي ألهمته كتابة «أولاد حارتنا» أما نشر المسلسل فقد كان مقرراً أن يكون في مجلة «الإذاعة والتلفزيون» ونشرت المجلة إعلانا يعد القراء بالرواية، لكنها لم تنشرها ونشرتها «الأهرام». ويتتبع الكاتب هذا التحول من خلال روايات الأطراف: الكاتب نفسه، حلمي سالم رئيس تحرير المجلة، ومحمد حسنين هيكل رئيس مجلس إدارة الأهرام، ومثلما انتقل مجد السبق الصحافي من مجلة محدودة التوزيع إلى الصحيفة الكبرى، انتقلت الرواية من مربع الاحتفاء إلى مربع الاتهام، وأصبحت محلاً للتقارير الدينية والسياسية والمكائد الأدبية التي لاحقتها ولم تزل!
لكن كيف بدأت المشكلات؟ حسب رواية محمد حسنين هيكل فقد كانت البداية رسائل من قراء غاضبين وصلت إلى الأهرام ورئاسة الجمهورية. رجاء النقاش، في كتابه الشهير الذي يعد بمثابة سيرة لمحفوظ، نسب إلى محفوظ قوله إن البداية كانت خبراً نشرته جريدة «الجمهورية» يلفت النظر إلى أن الرواية تتضمن تعريضاً بالأنبياء، وبعدها بدأت رسائل تحريض اشترك فيها أدباء للأسف. ويعود محفوظ في آخر حوار له مع عادل حمودة ونشرته «الأهرام» ليقول إن الرواية لم تكن لتتعرض لما تعرضت له لولا وشاية كاتب يساري في «الجمهورية» ربما كان أحمد عباس صالح أو سعد الدين وهبة. ولا يترك شعير الأمر لذاكرتي هيكل ومحفوظ فيواصل البحث عن البداية ليكتشف أن أول هجوم على الرواية خرج من مجلة «المصور» في رسالة من قارئ يدعى محمد أمين إلى باب «أدب وفن» الذي يحرره الشاعر صالح جودت. ويبحث شعير عن محمد أمين حسب العنوان المنشور على رسالته فيجد من يخبره بأن هذا العقار كان يسكنه شخص اسمه محمد الأمين لا علاقة له بالأدب. كان مصارعاً. هل كانت الرسالة مفبركة باسم الملاكم، مع قليل من التصرف في اسمه؟!
الضجة الصحافية ستتفاعل وتصبح جدلاً دينياً عنيفاً. وفي فصل بعنوان كيف يقرأ المشايخ الأدب يستقصي شعير رحلة الرواية في دهاليز الأزهر ولجانه، ومن حسن الحظ أن أديباً كان حاضراً بينهم، هو سليمان فياض الذي كان طالباً بالأزهر، وكان موعوداً من الشيخ محمد الغزالي بتعيينه إماماً لمسجد السيدة زينب، لكنه رفض هذا المكان الذي يدر مبالغ طائلة من صندوق النذور، موقع «تتقطع دونه الرقاب» بتعبير الغزالي. بالطبع فضَّل فياض الأدب، وصار كاتباً وشهادته حول الرواية مثيرة، فيها ما فيها عن الترصد وتكتلات المشايخ ضد الرواية!
يرجح شعير أن هيكل لم يكن ليمضي في نشر الرواية دون موافقة عبد الناصر، ويسأل سامي شرف إن كان ناصر قد قرأ المخطوط قبل النشر، فيجيبه إنه كان حريصاً على قراءة محفوظ لكنه لم يقرأ مخطوط أولاد حارتنا.
على أية حال، فقد تسببت الضجة المصاحبة والتالية للنشر المتسلسل في منع نشر الرواية داخل كتاب، حتى تلقى محفوظ عرض دار الآداب ببيروت التي نشرت أولاد حارتنا في ديسمبر (كانون الأول) عام 1967 نسخة مطابقة لما نشرته الأهرام مع حذف جمل قليلة. وفي رحلة بحثه عن المخطوط الأصلي للرواية، يصل شعير إلى شهادة فيليب ستيوارت أول مترجميها إلى الإنجليزية، الذي ترجم النص عن نص «الأهرام» كذلك، واستكمل من محفوظ بعض الكلمات التي سقطت في النشر الصحافي، وقال إن محفوظ أخبره بأنه لم يحتفظ بصورة من الأصل الذي سلمه للأهرام!
ويقول ستيوارت إن ترجمته للرواية التي أثارت كل هذا الضجيج لم توزع أكثر من 400 نسخة!
يضيق المجال عن تتبع مسارات السرد في الكتاب الذي يحمل عنوان «سيرة الرواية المحرمة» فإذا به يصبح سيرة جديدة لنجيب محفوظ ومن عاصر وما عاصر من سلاطين وملوك ورؤساء، ونكبة ونكسة ونصر وصلح... ومن الحجب إلى «نوبل» ومن «نوبل» إلى الطعنة في الرقبة. مسيرة تأتي على حكايات كتاب آخرين مع المنع والتكفير، حيث تبرز أسماء مثل فتحي غانم ونصر حامد أبو زيد.
هو الزمن الدائري بلا تقدم، زمن الاستبداد وأعوان الاستبداد، وفي الصف الأول من الأعوان أدباء ومشايخ!


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.