بداية تطور منهجي لم يكتمل للدفاع عن الدين

الأفغاني وكتابه «في الرد على الدهريين»

بداية تطور منهجي لم يكتمل للدفاع عن الدين
TT

بداية تطور منهجي لم يكتمل للدفاع عن الدين

بداية تطور منهجي لم يكتمل للدفاع عن الدين

بعد فراق دام أكثر من ثلاثة عقود بيني وبين كتاب «الرد على الدهريين» للعلامة جمال الدين الأفغاني، الذي ناقشنا بعض أفكاره في المقال السابق، ولكن يبدو أن كلمات الأفغاني لا تزال لها صداها المنطقي والفكري اليوم كما كانت منذ قرابة قرن ونصف من الزمان، خاصة إذا ما أخذناها مع مقالاته المتناثرة ورسائله مع الفلاسفة الفرنسيين، وعلى الرغم من أن بعضها قد وارته السنوات، فإن لب القضية والمنهجية لا يزال قائماً، بل ويؤرقنا كمسلمين أمام الحملات المتعاقبة التي نستشفها إما عمداً ضد ديننا الحنيف أو في أغلبها عزوفاً عن مفهوم الدين كأساس للمجتمعات.
لقد كتب الأفغاني كتابه هذا في فارس وترجمه إلى العربية تلميذه النجيب الإمام محمد عبده، وكان هدفه الأساسي هو الرد على التيارات الأوروبية آنذاك وعلى رأسها ما أسماه «بالنيتشييرين Naturalists» أو المؤمنين بأن الطبيعة أخذت مجراها لبناء هذا الكون في إطار من فكر «نظرية التطور» لداروين وركيزتها الفكرية المتضمنة في مفهوم «الانتقاء الطبيعي Natural Selection» والذي بمقتضاه تقوم الطبيعة بانتقاء المخلوقات القوية القادرة على التطور في صراع مستمر حتى وصلنا إلى أحسن تقويم للإنسان والطبيعة، وقد اعتبرهم جزءاً من حركة يونانية قديمة تطورت مع الزمن حتى سعت لوضع قراءة علمية للكون ونشأته، فالعلم بالنسبة لهم أخذ موضع الدين ولم يعتبرهم الأفغاني حركة فكرية مجردة كما يدعون، واعتبر ظهورهم جزءاً من الجدلية المبنية على صراع الأفكار.
لم يقتصر الأفغاني هجومه على «النيتشيريين» وخطرهم على المجتمعات بل ضم إليهم مذاهب فكرية جديدة على رأسها الاشتراكية والتي كانت في بداية انطلاقتها ومعها التوجه «الفوضوي Anarchist»، فصنفهم الأفغاني على اعتبارهم خطراً مشتركاً على مجتمعاتهم لأنهم يضربون لب عقيدته الفكرية التي تضع الدين في بؤرة بناء المجتمعات كمصدر ليس فقط للعقيدة ولكن للقيم والسلوكيات والفضيلة، فبعد أن شرح أفكارهم وأهدافهم وصفهم بأنهم «ليسوا حكماء وليس هدفهم تنوير العقول» واعتبرهم «مصدر تخريب على أمتهم»، ونعتهم «بجرثومة الفساد».
لقد اعتمد الأفغاني على مذهب عقلي بدرجة كبيرة للتصدي لهذه الأفكار مستخدماً عدداً من أساسيات المنهج الأرسطي و«الديكارتي»، فرأى أن الكون لا يمكن أن يبنى على أساس مادي بحت ليكون مصدراً لهذا النظام الكوني المتقن، متقارباً بشكل كبير من منهجية «الفارابي» حيث أكد على أن العلة في نظام الكون عُلوية وسفلية، وهي التي تؤدي لاختلاف الصور والأشكال، وهو ما يستلزم من وجهة نظره ثلاثة عناصر أساسية هي المادة والقدرة والإدراك، ومن خلال التفاعل بينها يتطور الكون، وهو جزء في تقديره من المشيئة الإلهية، وهنا لا يكون الاختلاف بين فكر الأفغاني مع هذه المدارس مبنياً على اختلاف علمي فقط ولكن في الرؤية الكونية المؤسسة للكون ولنظرة الإنسان له باعتباره صانعاً للحضارة، ومن هذا المنطلق فقد أصر الأفغاني على أهمية الدين في المجتمع بأساسه الداعي للتوحيد، مؤكداً أن انتصار فكر هذه المدارس يؤدي إلى انتقاص الإنسان لوجوده، ويحض على انتشار النظرة الأنانية المطلقة والمنفعة البحتة بما يجعل الإنسان سهل «القولبة» أي وضعه في القالب المطلوب لخدمة الأهداف الاستعمارية الغربية السائدة في ذلك الوقت.
وحقيقة الأمر أن منهج هجوم الأفغاني على «النيتشيريين» يذكرني تماماً بنفس منهج الرد على «المدرسة السلوكية» في العلوم الاجتماعية في ستينات القرن الماضي والتي سعت لوضع منهجية تشرح العلية على أسس دراسة السلوك والخروج بأنماط تشرح النتائج، وقد فشلت هذه المدرسة واندثرت بلا عودة لأنه كما قال أحد منتقديها: «فإن معرفة عدد أوراق الشجرة لا يساعدك على فهم الشجرة أو كينونتها، ولكنه سيظل مجرد توصيف أجوف لها»، وتقديري أن الأفغاني استعان بنفس المنهج للرد عليهم، فقد يكون جانبه الصواب في أن هذه المدارس هدفها «قولبة» الشعوب وإخضاعها للاستعمار بقدر ما كانت جزءاً من الجدلية المتوقعة للطريق الفكري الذي سلكته أوروبا منذ عصر «إعادة البعث» مروراً بمذاهب عصر التنوير والعقلانية إلخ...
يمثل هذا الكتاب أساساً شبه علمي للرد على المدارس الناقدة للدين ودوره في المجتمعات باعتباره عامل ردة فكرية وعنصر تحول للمجتمعات إلى الرجعية المبنية على الشعوذة الذهنية والروحية، وقد استخدم الأفغاني منهجية علمية لا بأس بها في صياغة دفاعاته عن الدين، واضعاً بداية منهج علمي يساعد على حماية العقيدة من هجمات العقل المطلق، ولكنها منهجية لم تتبلور بالشكل المطلوب على مدار مائة وخمسين عاماً تالية، ولعلنا اليوم في حاجة إلى ما يمكن أن بصفه بـ«المدرسة الرشدية» أو «الفارابية الجديدة» نسبة إلى ابن رشد وأبي النصر الفارابي، فلكل داء دواء ولكل هجمة منهجية في الرد عليها، وذلك دون أي انتقاص من المدارس والتوجهات والمذاهب القائمة سواء التي تعتمد على الروح أو العقل للوصول إلى المولى عز وجل، ومع ذلك فتقديري أن من أعظم أعمال الأفغاني إلى جانب ذلك كانت رسائله في الرد على مهاجمي الإسلام والحضارة الإسلامية، ولهذا حديث آخر لاتصاله المباشر بنفس القضايا التي نتعرض لها اليوم كما حدث من قرن ونصف من الزمان.


مقالات ذات صلة

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
TT

الشاعر السوري أدونيس يدعو إلى «تغيير المجتمع» وعدم الاكتفاء بتغيير النظام

أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)
أدونيس لدى تسلمه جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس (إ.ب.أ)

دعا الشاعر السوري أدونيس من منفاه في فرنسا الأربعاء إلى "تغيير المجتمع" في بلده وعدم الاكتفاء بتغيير النظام السياسي فيه بعد سقوط الرئيس بشار الأسد.

وقال أدونيس (94 عاما) خلال مؤتمر صحافي في باريس قبيل تسلّمه جائزة أدبية "أودّ أولا أن أبدي تحفّظات: لقد غادرتُ سوريا منذ العام 1956. لذلك أنا لا أعرف سوريا إذا ما تحدّثنا بعمق". وأضاف "لقد كنت ضدّ، كنت دوما ضدّ هذا النظام" الذي سقط فجر الأحد عندما دخلت الفصائل المسلّحة المعارضة إلى دمشق بعد فرار الأسد إلى موسكو وانتهاء سنوات حكمه التي استمرت 24 عاما تخلّلتها منذ 2011 حرب أهلية طاحنة.

لكنّ أدونيس الذي يقيم قرب باريس تساءل خلال المؤتمر الصحافي عن حقيقة التغيير الذي سيحدث في سوريا الآن. وقال "أولئك الذين حلّوا محلّه (الأسد)، ماذا سيفعلون؟ المسألة ليست تغيير النظام، بل تغيير المجتمع". وأوضح أنّ التغيير المطلوب هو "تحرير المرأة. تأسيس المجتمع على الحقوق والحريات، وعلى الانفتاح، وعلى الاستقلال الداخلي".

واعتبر أدونيس أنّ "العرب - ليس العرب فحسب، لكنّني هنا أتحدّث عن العرب - لا يغيّرون المجتمع. إنّهم يغيّرون النظام والسلطة. إذا لم نغيّر المجتمع، فلن نحقّق شيئا. استبدال نظام بآخر هو مجرد أمر سطحي". وأدلى الشاعر السوري بتصريحه هذا على هامش تسلّمه جائزة عن مجمل أعماله المكتوبة باللغتين العربية والفرنسية.

ونال أدونيس جائزة جون مارغاريت الدولية للشعر التي يمنحها معهد سرفانتس وتحمل اسم شاعر كتب باللغتين الكتالونية والإسبانية.