قيادات التطرف خارج حسابات إعادة التأهيل

نظرة واقعية إلى الممكن والمتعذّر في مسألة مكافحة الإرهاب

أطباق التقاط لـ«داعش» عبر الأقمار الصناعية في الرقة بعد خسارة التنظيم وهروب قياداته (غيتي)
أطباق التقاط لـ«داعش» عبر الأقمار الصناعية في الرقة بعد خسارة التنظيم وهروب قياداته (غيتي)
TT

قيادات التطرف خارج حسابات إعادة التأهيل

أطباق التقاط لـ«داعش» عبر الأقمار الصناعية في الرقة بعد خسارة التنظيم وهروب قياداته (غيتي)
أطباق التقاط لـ«داعش» عبر الأقمار الصناعية في الرقة بعد خسارة التنظيم وهروب قياداته (غيتي)

يقول الفيلسوف اليوناني القديم سقراط «العلم هو الخير والجهل هو الشر»، بمعنى أن الوقوع في الشر يأتي نتيجة الجهل، ما قد يدل على إمكانية إعادة تأهيل الأشخاص الذين وقعوا في هاوية التطرّف فانتموا لتنظيم إرهابي... لكن هل ينطبق هذا المبدأ على الإرهابيين والمتطرفين النازعين إلى العنف الدموي، لا سيما بحق المدنيين الأبرياء.
عودة المقاتلين الأجانب من مناطق النزاع تطرح مسألة ما إذا كان من الممكن إعادة تأهيلهم، وبالأخص، أولئك الذين انضموا لتنظيم متطرف نتيجة جهل تسبب بسوء اختيار. ولقد تكثف الاهتمام بأسباب الانضمام للتنظيمات الإرهابية تحديداً في أعقاب هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وذلك من أجل معرفة إمكانية إعادة تأهيلهم من عدمه حسب الأسباب التي أدّت لذلك التطرف، فقد كانت في السابق مرتكزة على مسببات سياسية أو دينية تحتم ضرورة القتال من أجل البقاء.
إلا أن ذلك لم يعد السبب الأبرز، لا سيما أن غالبية المجتمعات أصبح لديها وعي بمدى خطورات الجماعات المسلحة على الشعوب لتضررها من الهجمات الإرهابية. وهذا حاصل اليوم ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط أو في مناطق النزاع الأخرى، وإنما في العالم أجمع، نتيجة قدرة التنظيمات الإرهابية على نشر أعضائها في مناطق مختلفة من العالم، حتى وإن كانوا ذئاباً منفرداً دون وجود بيئة خصبة تحتضنهم.

التسلسل الهرمي للإرهابي
تختلف إمكانية إعادة تأهيل مقاتل من عدمه، حسب موقعه في التسلسل الهرمي للتنظيم، فكلما ارتقى عضو التنظيم إلى أعلى الهرم استحال إعادة تأهيله وقد تشبع بمبادئ التنظيم وأصبح جزءاً من صنّاع القرار فيه. على سبيل المثال، يستحيل تصور شخصية مثل خالد شيخ محمد، أحد أبرز قيادي تنظيم «القاعدة»، والمسؤول عن التخطيط لـ29 عملية إرهابية؛ تضمنت الهجوم على مركز التجارة العالمي في نيويورك وتفجيرات بالي في عام 2002، تائباً عن انتمائه للتنظيم، وراغباً في الاندماج في مجتمع والإصلاح فيه. وكان صيت شيخ محمد قد ذاع بعد الرد الذي نطق به في المحكمة الأميركية حين سئل إبّان محاكمته عما إذا كان يفهم أنه سيواجه عقوبة الإعدام فأجاب: «هذا ما أتمناه وما أردته طويلاً عندما حاربت الروس في أفغانستان».
مثل هذه الشخصيات التي صعدت هرم التنظيم يستحيل أن يعطى فرصة لإعادة تأهيله، إذ إنه يفضّل الموت على ذلك. كذلك يستحيل تصوّر احتمال إعادة تأهيل أمثال الناطق باسم تنظيم داعش الإرهابي «أبو محمد العدناني» الذي قتل في عام 2016. وقد دشّن كلمات صوتية عديدة هدفها الحث على الانضمام إلى التنظيم على نسق: «الآن الآن جاء القتال» و«قل موتوا بغيظكم». أمثال هذا وذاك شخصيات وصلت إلى قمة الهرم، وساهمت في تطوير استراتيجيات القتال والتجنيد، ولم تتحقق لها مكانة قيادية لولا تمتعها بدرجة من الثقافة والقدرة على الإقناع.
على الرغم من ذلك، ما زال يظهر من يحاول التخفيف من شيطنة الإرهابيين المتسببين بالكوارث التي أودت بحياة العديد ممن لم يستحقوا الموت. عليا غانم، والدة مؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، التي رفضت على مدى سنوات عديدة التحدث عن ابنها، ظهرت أخيراً بعد مضي سبع سنوات على قتل ابنها لتصفه بأنه كان طفلاً خجولاً ومتفوقاً في دراسته، تحول إلى شخصية مندفعة وشديدة التدين في بداية عشريناته حين أصبح - حسب تعبيرها - «رجلاً آخر مختلفاً»، في إشارة إلى تأثره بـ«جماعة الإخوان» ومن ثم اعتناقه للفكر المتطرف. في هذا الكلام إيحاء بأن مؤسس «القاعدة» نفسه كان ضحية تأثره بآخرين، وكأن في ذلك وقوعاً في حلقة مفرغة من توجيه الاتهامات لتأسيس التنظيم أو من هو الجلاّد ومن يعد الضحية، إذ قد يكون الجلاّد ذاته عبارة عن ضحية هو الآخر، وإن كان ذلك في منظور والدته. أما مَن لا يحمل صفة قيادية في التنظيمات الإرهابية والمتطرفة مثل الانتحاريين العاديين فهو أقل قدرة على إقناع الآخرين بمبرراته، فعلى سبيل المثال تظهر وصية السعودي المنتمي لتنظيم داعش الذي فجر نفسه بمسجد الصادق في الكويت، عبر التسجيل الصوتي الذي ظهر له، غير مقنعة البتة. لقد كان كلامه حديثاً محشواً بآيات وكلمات مبهمة مثل «أبشروا بالدم. أبشروا بالموت»، موجهاً إياه للفئة التي قام بشيطنتها، فيما يذكر محاولاً طمأنة أعضاء تنظيم داعش هاتفاً: «أبشروا يا إخوة الدين والعقيدة فإنكم على حق وألا إن نصر الله قريب».

عامل الأزمات النفسية
من جهة أخرى تظهر التنظيمات الحديثة مثل «داعش» احتضانها لأولئك المنغمسين في أزمات سلوكية شخصية أو نفسية، وكأن الانضمام لجماعة ستنتشله من حالة الوهن التي يمرّ بها حتى وإن كان مجرد مجرم ليست له توجهات دينية أو سياسية مفضية للإرهاب.
ولقد لوحظ هذا الأمر من خلال عمليات «الذئاب المنفردة» التي تبدو أشبه بعمليات إجرامية عادية مثل حالات الطعن والدهس، على نسق ما قام به الإرهابي الفرنسي من أصل شيشاني حمزة عظيموف (21 سنة) في باريس وقد أظهر ميلاً سابقاً للتطرف، من طعن للمارة بالقرب من دار الأوبرا بباريس. ولقد تبنى تنظيم داعش الحادثة مع أنها كانت عملية عشوائية هوجاء. كذلك شن البريطاني خالد مسعود (52 سنة) هجوماً انتحارياً أخرق أمام مبنى البرلمان البريطاني أسفر عن مقتله إلى جانب مقتل ثلاثة آخرين، ولم تتجاوز سوابقه عمليات إجرامية مثل حمل سلاح أو اعتداء على أفراد دون أي دليل على ميله للتطرف. وهذا ما يشير إلى عامل الأزمات النفسية والسلوكية لـ«الذئاب المنفردة» المغرر بها، والمتأثرة بالتنظيمات الإرهابية، ومنها إشكالية شعور بعض الأفراد المنتمين للأقليات بالنبذ في تلك المجتمعات، وهنا تبرز أهمية احتضانهم ودمجهم في المجتمع.
هذا الجانب الأخير تفاوتت طرق معالجته بالأخص مع عودة المقاتلين الأجانب من مناطق النزاع، ما بين التعامل الناعم والعقاب التأديبي الذي وصل إلى سحب الجنسيات ومنع العودة إلى أوطانهم. وتعتبر «مذكرة روما لإعادة تأهيل المجرمين في عام 2012» من أبرز المساعي العالمية الجدية لسن قوانين دولية غير ملزمة تؤيد الدول المكافحة للتطرف في جهودها من أجل التخلص من التطرف في السجون. ومن جهة أخرى، ظهرت وطبقت تجارب عدة دول اختارت أسلوب القوة الناعمة لمكافحة التطرف مثل «برنامج المناصحة السعودي» الذي أسس في المملكة العربية السعودية عام 2006، وتضمن البرنامج إعادة تأهيل المتطرفين من خلال «المناصحة»، ومن ثم تزويدهم بالمهارات الوظيفية وكذلك إعادة دمجهم في المجتمع. وثمة دول أخرى اختارت اعتماد نهج مماثل منها سنغافورة وماليزيا وإندونيسيا.
ويرى خبراء في هذا المجال أنه لا بد من معرفة خلفيات وحيثيات انضمام المقاتلين للتنظيمات المتطرفة المنساقة نحو الإرهاب. ومن الضروري أيضاً معرفة ما إذا كان سبق لمن يوقفون بتهم الإرهاب اقتراف أعمال جنائية سابقة تستلزم محاكمتهم عليها، من أجل محاولة اكتشاف ما إذا كانت لديهم قابلية ارتكاب هجمات إرهابية، أم إن ما فعلوه جاء نتيجة للتضليل والتغرير بهم، أو حتى وجود ظروف جعلتهم في بيئة إحباط وتطرف كحال أبناء الأهالي القاطنين في مناطق النزاعات الساخنة مثل سوريا والعراق. والمعروف أن كثيرين ممن يشكلون الفئة الأخيرة أجبروا رغم إرادتهم على الانضمام للتنظيمات المتطرفة في نطاق سعيها لتعويض نقص عدد المقاتلين في صفوفها، وهو ما حدث لـ«داعش» بعد استهدافه من قبل قوات التحالف الدولية.
ثم إن هناك كثيرين من أبناء المتطرفين العائدين من مناطق النزاع تأثروا بمشاهد العنف، وظهرت أيضاً أساليب استقطاب عديدة للأطفال من أجل أدلجتهم وإنتاج جيل جديد أكثر بطشاً وقسوة ممن انضم للتنظيم في سن كبير، لا سيما أن من الأصعب إقناع شخص نشأ على العنف والتطرف بأن تلك السلوكيات لا أخلاقية وغير صائبة إذا كان أحد والديه منتمياً للتنظيم، أو جرى اختطافه وتربيته عليه.
إن البيئة تعد مكاناً خصباً لنمو التطرف أو درئه، وهذا ما لوحظ أخيراً في الهجمات التي استهدفت كنائس في مدينة سورابايا الإندونيسية حين نفذت أسرة إندونيسية بأكملها لتشمل الأم والأطفال الهجمات الانتحارية. إن «أدلجة» أسرة بأكملها تجعل من الصعب إقناع مرتكبي العمليات الإرهابية بلا أخلاقيتها، وهذا بعكس الحالات التي تلقى رفض المجتمع المحيط بها، مثل ما حدث مع والد الإرهابي السعودي فواز عبد الرحمن الحربي، حين تواصل الوالد مع السلطات الأمنية السعودية نتيجة ارتيابه في تصرفات ابنه، بعدما حمل أسلحة وغادر منزله من أجل تنفيذ عملية إرهابية بمحافظة البكيرية في السعودية. وكانت النتيجة القبض عليه والإشادة بذلك إعلامياً. مثل هذه الواقعة تؤكد ضرورة الاهتمام بكسب القلوب والعقول في أي مجتمع، والتأكيد على رفضه للإرهاب من أجل منع احتضان أهالي ذلك المجتمع أي منتم للتنظيمات الإرهابية.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.