تونس: بين «حوار الطرشان»... و«ورقة التوت» الأخيرة

مشهد سياسي جديد بعد خلافات حول قانون الإرث

تونس: بين «حوار الطرشان»... و«ورقة التوت» الأخيرة
TT

تونس: بين «حوار الطرشان»... و«ورقة التوت» الأخيرة

تونس: بين «حوار الطرشان»... و«ورقة التوت» الأخيرة

صرّح رضا بالحاج، الوزير السابق والقيادي البارز في حزب «نداء تونس» الذي أسسه رئيس الجمهورية التونسي الباجي قائد السبسي، ويعد أحد أكبر حزبين ممثلين في البرلمان، بجانب حزب «حركة النهضة» الإسلامي، بأن من بين نتائج هذا الصراع السياسي الجديد في تونس حول قانون الأحوال الشخصية المثير للجدل منذ 1956، إعادة تشكيل المشهد السياسي بين قوتين: واحدة تتمسّك بالصبغة المدنية للدولة - أي العلمانية - وبالقوانين الوضعية، والثانية تتمسك بالأحكام الفقهية وتطبيق الشريعة الإسلامية، رغم مصادقتها على دستور يناير (كانون الثاني) 2014 الذي كانت مرجعياته المواثيق الأممية والقوانين الدولية. وتابع أنه بحكم تعمق الخلافات داخل العلمانيين والليبراليين واليساريين من المتوقع بالنسبة لصناع القرار في عدد من مؤسسات الحكم والأحزاب القريبة منها، أن تؤدي هذه المواجهة الجديدة مع أنصار تطبيق الشريعة الإسلامية إلى تشكيل جبهة معارضة للتيار الإسلامي يمكن توظيفها في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية العام المقبل.
وفي السياق نفسه، اتهم الإعلامي والجامعي عبد السلام الزبيدي قيادات في حزب «نداء تونس» وداخل مؤسسات الحكم بمحاولة تغيير المشهد السياسي لصالح حزبهم، مع إحراج قيادات «حركة النهضة» بشكل غير مسبوق، وتخييرهم بين أمرين؛ أحلاهما مرّ: فإما تقديم مزيد من التنازلات لصالح التيار العلماني، وبذا يخسرون مزيداً من ناخبيهم، أو الاصطفاف مع المحافظين المعارضين للاجتهاد والتجديد وللحداثة والمشروع المجتمعي التحرّري وفصول الدستور التي تؤكد على الصبغة المدنية للدولة.
تفجّرت في تونس أخيراً عاصفة سياسية إعلامية جديدة بمناسبة الإعلان عن مشروع رئاسي سوف يعرض على البرلمان بهدف تقنين المساواة الكاملة بين الجنسين، بما في ذلك في الميراث.
وتزامنت هذه العاصفة مع الكشف عن مقترحات مثيرة للجدل، قدمتها إلى رئاسة الجمهورية «لجنة الحقوق الفردية والمساواة»، وهي لجنة من الحقوقيين والجامعيين الليبراليين واليساريين، وتشمل المقترحات إلغاء عقوبة الإعدام وعقوبات اللواط والزنا، ومنع كل المضايقات والعقوبات للمثليين. ولئن نجحت هذه العاصفة في تخفيف حدة الأزمة السياسية والاجتماعية، التي تمر بها تونس منذ سنوات، فإنها أقحمت البلاد في أجواء حملة انتخابية سابقة لأوانها تأهباً لانتخابات العام المقبل الرئاسية والبرلمانية.
وإذ يبرّر الرئيس التونسي وأنصاره مبادرتهم بتأويل لبنود الدستور التي تؤكد على المساواة وعلى مدنية الدولة والقانون، فإن خصومهم يطالبونهم باحترام مرجعيّاتهم الفقهية الإسلامية والفصل الأول من الدستور الذي نصّ على كون الدولة التونسية جمهورية مستقلة، الإسلام دينها، والعربية لغتها.
فهل تتطور علاقات حزب الرئيس، حزب «نداء تونس»، بشركائه الإسلاميين في الحكومة منذ 2014 بزعامة راشد الغنوشي نحو القطيعة والصدام، أم ينجح زعماء الحزبين الكبيرين «النداء» و«النهضة» مجدّداً مرة أخرى في احتواء الأزمة، وتجميد التناقضات الثانوية، وإنجاز توافق سياسي جديد حفاظاً على الوحدة الوطنية وعلى مسار الانتقال الديمقراطي، ولو كان الثمن التنازل عن «ورقة التوت» الأخيرة في حلبة الكيد والابتزاز السياسيين.

فرصة لإضعاف الإسلاميين
تصريحات عدد من البرلمانيين والسياسيين والقياديين في أحزاب ليبرالية ويسارية، مثل المحامي أحمد صديق، ترى أن موافقة الرئيس الباجي قائد السبسي على مبدأ المساواة الكاملة في الإرث بين الذكر والأنثى «فرصة لإضعاف أنصار التيارات الإسلامية السياسية» في تونس، بدءاً من حزب «حركة النهضة» الذي فاز بالمرتبة الأولى في الانتخابات البلدية في مايو (أيار) الماضي، وأصبح صاحب الكتلة الأولى في البرلمان نتيجة انقسام نواب الحزب الحاكم. وراهناً تمارس قيادات «الجبهة الشعبية» (أقوى قوى اليسار) بزعامة حمّة الهمّامي وزياد الأخضر والجيلاني الهمّامي ضغوطاً على رئاسة الجمهورية من أجل الموافقة على كل مقترحات تقرير «لجنة المساواة والحريات»، ورفض تقديم أي تنازلات لممثلي التيار الإسلامي.

مظاهرات ومظاهرات مضادة
من ناحية ثانية، لم تقتصر الصراعات الفكرية والسياسية العنيفة بسبب تناقض المواقف من تطبيق الشريعة الإسلامية، ومشروع قانون الإرث، على المنابر الإعلامية، بل تطوّرت إلى مسيرات ومظاهرات نظمت في شوارع العاصمة تونس وعدد من مدن البلاد بمشاركة آلاف النشطاء والسياسيين من الجانبين. واتسمت المظاهرة التي نظمت يوم السبت 11 أغسطس (آب) أمام مبنى البرلمان بمشاركة العشرات من أئمة المساجد وأساتذة التشريع والفقه الإسلامي في جامعة الزيتونة. وفي المقابل تميّزت المظاهرة التي نظّمت لمساندة مشروع قانون الإرث، بل وكل تقرير «لجنة الحريات الفردية والمساواة» بمشاركة ناشطات نسائيات وزعماء من الأحزاب اليسارية الراديكالية مثل حمّه الهمامي زعيم «الجبهة الشعبية» التي تضم اليوم 15 حزباً يسارياً وقومياً.
ولقد تجاوزت كلمات بعض الخطباء في المظاهرات «الخطوط الحمراء»، بما في ذلك من حيث النيل من كرامة رئيس الجمهورية قائد السبسي وزعيم «حركة النهضة» الغنوشي وأعضاء «لجنة الحريات الفردية والمساواة». وبلغت التهجّمات أقصاها ضد رئيسة «اللجنة» بشرى بالحاج حميدة، الحقوقية اليسارية والرئيسة السابقة لجمعية «النساء الديمقراطيات».
كذلك رُفعت خلال تحرّكات الجانبين، الإسلامي والليبرالي - اليساري، شعارات تكفير وتخوين متبادلة، إلى درجة أن الجامعي والحقوقي زهير بن يوسف اعتبر في تعليق له أن «تونس تعاني حالياً من استقطاب جديد بين علمانيين متطرفين، ومتديّنين متشدّدين ومحافظين». ورأى بن يوسف أن بعض زعماء التيارين العلماني والإسلامي «أصبحوا يريدون فرض أفكارهم بالقوة ويرفضون الحوار حولها».

رفع أعلام المثليين... لأول مرة
وفي السياق ذاته، بين ما زاد الأزمة تعقيداً وتسبب في خلط الأوراق أكثر، رفع أعلام المثليين جنسياً ويافطاتهم في مظاهرة مساندة لفرض المساواة الكاملة بين الجنسين يوم 13 أغسطس في قلب تونس العاصمة بمناسبة مظاهرات «عيد المرأة والأسرة». ولقد شاركت في المظاهرة نفسها ناشطات ونشطاء من جمعية «شمس»، وهي منظمة تونسية قانونية تدافع منذ سنتين عمّا تعتبره «حقوقاً» للمثليين جنسياً وغيرهم في تونس. وكانت من أبرز شعارات هؤلاء دعم توصيات تقرير «لجنة الحريات الفردية والمساواة»، ومن بينها تعديل القانون الجزائي التونسي بهدف إلغاء العقوبات التي تفرض على الموقوفين بسبب إقامة علاقات جنسية غير شرعية خارج مؤسسة الزواج بما فيها اللواط والسحاق والزنا.

«أجندات» استعمارية؟!
هذا، وعلى الرغم من أن خطاب رئيس الجمهورية - وكذلك تصريحات غالبية الرسميين التونسيين - لم تتعرض لهذه القضايا الخلافية، فقد ركز عليها معارضوها عليها، وشنوا حملات إعلامية واسعة في المواقع الاجتماعية والمساجد على الرئيس التونسي وأنصاره، واتهموهم بالانحراف والشذوذ وتبرير اللواط والزنا وبـ«تطبيق أجندات استعمارية غربية تريد فرض مفهوم جديد لحقوق الإنسان والنساء يسمح للشواذ جنسياً بإبرام عقود زواج في بلد عربي مسلم»، مثلما جاء على لسان عالم الاجتماع والكاتب المخضرم أبو يعرب المرزوقي.
وحقاً، ما يستحق الإشارة في هذا الإطار، أن تونس تشهد تصعيداً خطيراً للاتهامات بالخيانة الوطنية والولاء للاستعمار والسفارات الأجنبية. ووُجّهت هذه الاتهامات بالخصوص إلى رموز التيارات العلمانية وروّاد هذه المبادرة التي تدعو إلى قدر أكبر من الحريات والمساواة بين النساء والرجال من منظور مدني مرجعياته القانون الدولي، وبينهم، بجانب المحامية بشرى بالحاج حميدة، عبد المجيد الشرفي مدير عام «مؤسسة بيت الحكمة» في قرطاج والخبير في علم الأديان المقارن، والكاتب صلاح الدين الجورشي. ولقد وصف عدد من الأساتذة الجامعيين وخطباء المساجد، بينهم الوزير السابق نور الدين الخادمي والجامعي إلياس دردور، مقترحات «اللجنة» التي تبنتها المبادرة الرئاسية بـ«مبادرة الفتنة»، وحمّلوا أصحابها وكذلك رئاسة الجمهورية مسؤولية ردود الفعل التي قد تصدر بسببها.

حوار طرشان
في ضوء هذا الوضع، تجد تونس نفسها من جديد ضحية تيارين سياسيين اجتماعيين متضادين تورطا فيما يصح وصفه بـ«حوار طرشان». التيار الأول يعتبر نفسه حداثياً ومناصراً للحريات، والتيار الثاني يصف نفسه بتيار الدفاع عن الهوية الثقافية والحضارية للشعب والبلاد، ويتهم خصومه بمحاولة تمرير قوانين غريبة على دينها وثقافتها وهويتها وتقاليدها.
وبالتالي، تعيد هذه الأجواء إلى ذاكرة المراقبين انقطاع حبل التفاهم وأجواء التوتر والقطيعة عامي 2013 و2014، عندما دُفع التونسيون نحو الاصطفاف حول أحد قطبين متناقضين: الأول تزعمه الرئيس التونسي الحالي الباجي قائد السبسي ومعه ثلة من رجال الأعمال والنقابيين وزعماء قوى اليسار التونسي. واعتبر أولئك الذين اصطفوا في هذا الجانب أنفسهم حداثيين، وعارضوا حكومة «حركة النهضة» وحلفائها إلى أن نجحوا في إسقاطها. أما القطب الثاني فتزعمه أنصار تيار الهوية العربية الإسلامية بزعامة راشد الغنوشي زعيم «حركة النهضة» والرئيس السابق المنصف المرزوقي ورئيس البرلمان الانتقالي مصطفى بن جعفر. وعلى غرار ما حصل قبل انتخابات 2014 تعمّقت القطيعة بين النخب الثقافية والسياسية والنقابية. وكانت النتيجة «حوار طرشان» آخر بين النخب في وسائل الإعلام، وبين ملايين النشطاء المحافظين والليبراليين في «المواقع الاجتماعية».

رسالة الزعيم التاريخي... والمصلح
في الأثناء كان رد الرئيس التونسي قائد السبسي في خطاب «عيد المرأة والأسرة» يوم الاثنين 13 أغسطس حازماً. وتصرّف خلاله من موقع مَن يعتبر نفسه زعيماً تاريخياً ومصلحاً كبيراً، على غرار الرئيس الحبيب بورقيبة - مؤسس الدولة التونسية الحديثة ما بين 1955 و1987 - الذي كان قائد السبسي عمل تحت إمرته أكثر من عشرين سنة في مواقع عليا بالدولة، بينها توليه حقائب وزارات الداخلية والدفاع والخارجية.
الرئيس التونسي رفض الانتقادات الموجهة إليه وإلى «لجنة الحريات الفردية والمساواة» التي شكلها. ومن ثمّ، ذكّر معارضيه بكون الدولة التونسية الحديثة، بقيادة الحبيب بورقيبة، اختارت أن يكون قانون الأحوال الشخصية أوَّلَ قانونٍ تُبادرُ به، قبل إعلان الجمهورية في 25 يوليو (تموز) 1957 وإصدار دستور الجمهورية الأولى في غرة يونيو (حزيران) 1959، ويومذاك، قامت «تونس بورقيبة» بتلك الخطوة رغم اعتراضات ثلة من علماء جامع الزيتونة وعدد كبير من مشايخ الأزهر والفقهاء في العالم الإسلامي.

الفصل بين الشأنين الديني والسياسي
ورداً على الانتقادات القوية التي وجّهها رموز التيارات الدينية وعدد من خطباء المساجد إلى المبادرة الرئاسية، التي وصفوها بمخالفة العرف وتقاليد المجتمع التونسي ومرجعياته الشرعية، تمسك الرئيس قائد السبسي، في كلمة توجه بها إلى الشعب، بالفصل الثاني من الدستور التونسي، الذي نصَّ بوضوح على الصبغة المدنية للدولة والقوانين، إذ جـاء فيه النص: «تونس دولة مدنية، تقوم على المواطنة، وإرادة الشعب وعلوية القانون».
واعتبر قائد السبسي هذا الفصل الجديد أهم إصلاح وتجديد في دستور 2014 مُقارنة بدستور 1959. ذلك أنه يؤكد على الطابع المدني للدولة، بما يعنيه ذلك من أن النظام القانوني التونسي هو نظام مدني وضعي وليس دينياً.

المسكوت عنه... وخلافه
إزاء هذه التطورات المتلاحقة وخلفياتها الجدية، من الطبيعي أن يتساءل راصدو مؤشرات الحركة السياسية في تونس عن الكيفية المحتملة للخروج من هذا المأزق بالنسبة لكبار اللاعبين السياسيين في تونس، بما يضمن تنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في موعدها موفى العام المقبل؟
ثمة مَن يقول: إن غالبية القوى السياسية والبرلمانية أدركت جيداً أن من بين أهداف العاصفة السياسية والإعلامية الحالية إضعاف حزب «حركة النهضة» الذي تزايد دوره السياسي داخل تونس وفي محيطها الإقليمي.
ذلك أنه في أعقاب نجاح قيادة «حركة النهضة» في تعطيل محاولات قيادات في «نداء تونس» ونقابات العمال ورجال الأعمال الإطاحة بـ«حكومة الوحدة الوطنية» برئاسة يوسف الشاهد، قد يبدأ المنعرج بمفاوضات جديدة في قصر قرطاج الرئاسي تشمل قيادات النقابات والأحزاب الكبرى، وتؤدي إلى توافقات سياسية علنية وأخرى سرّية حول المشهد السياسي لمرحلة ما بعد العودة البرلمانية والمدرسية والجامعية. وتالياً، تبرز تساؤلات مبرّرة، مثل هل تتابع حكومة يوسف الشاهد مهامها؟ أم تشكل حكومة تكنوقراط جديدة - من غير السياسيين الحزبيين - تكون مهمتها الإشراف على التحضيرات للانتخابات في العام المقبل، وقد يكون الشاهد نفسه من بين أبرز المرشحين فيها؟
مؤشرات عديدة ترجح فرضية تدخل الزعماء للسياسيين لتدارك الأمر قبل فوات الأوان. وهنا نشير إلى أنه صدرت أخيراً عن البرلماني عماد الخميري، الناطق الرسمي باسم «حركة النهضة»، والوزير السابق لطفي زيتون المستشار السياسي لرئاسة «حركة النهضة»، ورئيس المكتب السياسي لـ«الحركة» نور الدين العرباوي، تصريحات عن إمكانية خوض جولة جديدة من الحوار بين رموز الدولة وقيادات النقابات والأحزاب. ووفق التصريحات قد يكون في رأس أهداف هذه الجولة الحوارية العمل على تجنب استدراج الشباب المتدين من جهة... وخصومهم من العلمانيين الليبراليين واليساريين من جهة ثانية، نحو مواجهات غير مأمونة العواقب، من شأنها، حتماً، تهديد إنجازات رموز التجديد الفكري والديني التونسي الحداثي وإضافات المصلحين الوطنيين خلال مرحلة الكفاح ضد الاستعمار المباشر وبناء الدولة الحديثة خلال السنوات الستين الماضية.

محطات تونسية سابقة في القوانين المنحازة للمرأة
- اختارت تونس أن تمنح للبنت حق إرث والدها باستعمال تقنية «الرّد» و«إزالة قاعدة الحجب» منذ قانون صدر في 1959.
- مسيرة «الإصلاح الفكري والتجديد الديني» في تونس الحديثة بدأت منذ انطلاق الإصلاح السياسي في 10 سبتمبر (أيلول) 1857 بإعلان «عهد الأمان» الذي منح حقوقاً بالجملة لغير المسلمين، ثم دستور 26 أبريل (نيسان) 1861 الذي كان أول دستور عربي.
- دستور الاستقلال الصادر في غرة يونيو (حزيران) 1959 منح حقوقاً بالجملة للمرأة والأسرة.
- بالتوازي مع الإصلاح السياسي، كانت هناك محطات للإصلاح الاجتماعي أيضاً، من ذلك إلغاء العبودية في 26 يناير (كانون الثاني) 1846، وإصدار «مجلة الأحوال الشخصية» في 13 أغسطس (آب) 1956 التي يعتبرها كثيرون أهم إصلاحٍ اجتماعي حدث في القرن العشرين في تونس. إذ وضعت المرأة في صُلْبِ تغيير المجتمع التونسي بأن حررتها وحفظت كرامتها ومكّنتها من الحق في الاختيار الشخصي، ومن ذلك حرية اختيار القرين التي تدعَّمت بإلغاءِ ما عُرِف بمنشور 73 في 8 سبتمبر2017.
- تَدَعَّمَت المكاسب السياسية للمرأة التونسية بإقرار التناصف العمودي والأفقي في القانون الانتخابي التونسي منذ 2011.
- دستور الثورة التونسية الجديد المصادق عليه في 26 يناير 2014 كان واضحاً وصريحاً في تنصيصه على المساواة في الحقوق والواجبات بين التونسيات والتونسيين توطئةً وفصولاً. إذ نَصَّت «التوطئة» على العزم على إقامة نظام «تضمن فيه الدولة علوية القانون واحترام حقوق الإنسان (....) والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين والمواطنات». كذلك جاء في الفصل 21 منه: «المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواءٌ أمام القانون من غير تمييز». إذ إن الأصل هو المساواة على قاعدة المواطنة والانتماء للدولة من دون تمييز بمقتضى الجنس أو العرق أو اللون أو الدين.



فريدريش ميرتس... محافظ وواقعي يقود سفينة الديمقراطيين المسيحيين الألمان في حقبة صعبة

ميرتس
ميرتس
TT

فريدريش ميرتس... محافظ وواقعي يقود سفينة الديمقراطيين المسيحيين الألمان في حقبة صعبة

ميرتس
ميرتس

انتظر فريدريش ميرتس 23 سنة قبل تحقيق طموحه بأن يصبح المستشار الألماني؛ إذ كان زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي المحافظ الذي قاد حزبه إلى الفوز بالانتخابات العامة الأحد الماضي، قد خسر معركة داخلية للسيطرة على الحزب أمام أنجيلا ميركل في عام 2002، بعدما تمكنت من تحييده والاستيلاء على زعامة الحزب. وانسحب ميرتس كلياً من السياسة عام 2009 ليعود بعد نهاية «حقبة ميركل» التي طالت حتى عام 2021. إلا أنه حتى عودته تلك لم تكن سهلة؛ ذلك أنه حاول الفوز بالزعامة 3 مرات، ولم ينجح إلا في المحاولة الثالثة بعد فشل الزعيمين السابقين اللذين فضلهما الحزب، آنغريته كرامب كرامباور وآرمين لاشيت، اللذين كانا مقرّبين من ميركل وينتميان لجناحها في الحزب. ولكن في عام 2022، نجح ميرتس أخيراً في كسب أصوات المندوبين للوصول في النهاية إلى مقر المستشارية وهو في سن السبعين. قصة ميرتس داخل حزبه تعكس شخصيته التي تثير انقسامات كبيرة، ليس فقط داخل حزبه، بل أيضاً على المستوى الوطني. فتحالفه مع حزب «البديل من أجل ألمانيا» لتمرير اقتراح داخل البرلمان عارضته كل الأحزاب الأخرى - ولم ينجح إلا جزئياً بسبب دعم الحزب اليميني المتطرف - أثار انقسامات كبيرة في ألمانيا، وكاد يكلفه طموحه الذي انتظر عقدين لتحقيقه. أما الآن وقد فاز حزبه بالانتخابات، ووقعت عليه مهمة تشكيل الحكومة الألمانية المقبلة، فسيتوجّب على الرجل الذي أمضى فترة «تقاعده» السياسي في عالم الأعمال، أن يقود ألمانيا التي تواجه تحديات كثيرة خلال الأشهر والسنوات الآتية.

يوصف فريدريش ميرتس، المستشار الألماني المكلّف، أحياناً بأنه «شعبوي» ويغازل قاعدة اليمين المتطرف. وهو صاحب عبارات اشتهرت وأثارت انتقادات كبيرة، بل رُميت أحياناً بـ«العنصرية»، كوصفه مرة طلاب مدارس من أصول عربية وتركية بأنهم «باشاوات صغار»، أو زعمه أن اللاجئين يأتون إلى ألمانيا لـ«إجراء عمليات تجميل لأسنانهم في حين أن الألمان عاجزون عن حجز مواعيد لدى أطباء الأسنان» (ادعاء نفته نقابة أطباء الأسنان التي قالت إن التأمين لا يغطي إلا العمليات الضرورية وليس التجميلية)، أو وصفه اللاجئين الأوكران الذين أتوا إلى ألمانيا في بداية الحرب مع روسيا بأنهم «لاجئون سيّاح»، قاصداً أنهم يأتون للاستفادة من التسهيلات المالية التي تقدمها لهم السلطات الألمانية.

فكر محافظ صريح

ميرتس هو أيضاً صاحب عبارة: «الثقافة الألمانية الطاغية» التي روّج لها منذ قبل «تقاعده الإجباري» المؤقت من البرلمان الذي دفعه إليه عصر ميركل. وبذلك كان يتعمّد انتقاد التعددية الثقافية التي لا يعتبرها «ألمانية»، مكرّراً «ضرورة» أن يتقبّل المهاجرون في ألمانيا «الثقافة الطاغية».

وفي صيف 2023، بعد انتخابه أخيراً زعيماً للديمقراطيين المسيحيين، وقف ميرتس أمام مجموعة من سكان غيلاموس، وهي بلدة صغيرة في ولاية بافاريا، قائلاً: «كرويتسبيرغ ليست ألمانيا. غيلاموس هي ألمانيا»، أمام هتافات الحاضرين وتصفيقهم. وللعلم، كرويتسبيرغ منطقة في برلين معروفة بتنوعها الثقافي، وتُعدّ معقل الجالية التركية في العاصمة الألمانية.

وأخيراً، في مطلع العام، قبل أسابيع من الانتخابات، كسر ميرتس قاعدة ذهبية تعتمدها الأحزاب الألمانية منذ هزيمة النازيين خوفاً من صعود اليمين المتطرف مرة جديدة ومنعاً لتكرار التاريخ... وهذه القاعدة غير المكتوبة تنص على رفض التعاون مع أحزاب يمينية متطرفة، في ما يُعرف ألمانيّاً بـ«جدار الحماية».

تشديد قوانين الهجرة

وفي الأسابيع التي سبقت الانتخابات، إثر تكرار الهجمات التي نفّذها لاجئون أفغان أو سوريون، خرج ميرتس غاضباً ليعلن طرحه اقتراحاً أمام البرلمان لتشديد قوانين الهجرة. ومع أن الاقتراح لم يكن مُلزماً للحكومة، قرّر ميرتس المضي بطرحه رغم اعتراض الأحزاب التقليدية عليه لمخالفته عدداً من القوانين الأوروبية، بحسب منظمات حكومية، مثل إغلاق الحدود مع «دول الشنغن»، ووقف استقبال اللاجئين غير الشرعيين. وأيضاً أصرّ ميرتس على طرح الاقتراح في «البوندستاغ» مع أن الحزب الكبير الوحيد الذي دعمه كان «البديل من أجل ألمانيا».

وحقاً، مرّ جزء من الاقتراح بفضل أصوات الحزب المتطرّف؛ ما أثار موجة من المظاهرات خرج فيها مئات الآلاف يصفون ميرتس بـ«الخائن». ومع إثارة ميرتس انقسامات داخل حزبه، توالت الدعوات من الأحزاب الأخرى له للانسحاب من السباق لمنصب المستشارية؛ لأنه «ما عاد مناسباً لقيادة ألمانيا». لكن الزعيم المحافظ سارع لاحتواء الأزمة والتعهد بأنه لن يتحالف مع «البديل» في حال فوز حزبه بالانتخابات. ورغم احتلال الحزب المتطرّف المرتبة الثانية في الانتخابات بـ20 في المائة من الأصوات ومضاعفته عدد مقاعده البرلمانية، رفض ميرتس الدخول في مباحثات لتشكيل الحكومة معه. واختار بدلاً منه الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) الذي حلّ ثالثاً بـ15 في المائة من الأصوات.

أهمية الملفات الدولية

وبسرعة بدا واضحاً، بعد فوز الديمقراطيين المسيحيين، أن زعيمهم الجديد يعي أهمية الملفات الدولية التي تنتظره؛ فهو قبل أن يبدأ المشاورات الرسمية لتشكيل حكومته، سافر إلى باريس في زيارة غير رسمية للقاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وتناول العشاء معه لمناقشة ملفات لم يكشف عنها أي من الطرفين. وجاء اللقاء بُعيد عودة ماكرون من واشنطن حيث التقى الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وبدا الاختلاف بينهما واضحاً حول التعاطي مع أوكرانيا.

ومع أن ميرتس من كبار مؤيدي «العلاقات عبر الأطلسية» والمروّجين لها، فإنه بدا متشكِّكاً في الأيام الماضية من إنقاذ العلاقة المتغيّرة. وهو انضم بعد مغادرته البرلمان عام 2009 إلى «أتلانتيك بروكيه» (أو الجسر الأطلسي)، وهي جماعة ضغط تروّج للعلاقات عبر الأطلسية.

نظرة إلى سيرته

ميرتس الآتي من عالم القانون؛ إذ درس المحاماة في جامعة بون، انخرط في عالم الأعمال خلال السنوات التي ابتعد فيها عن السياسة. وعمل في شركة «بلاك روك» الأميركية، وجنى ثروة من جلوسه كذلك في مجالس إدارة عدة شركات ومصارف، بل اعتقد كثيرون أن خلفية ميرتس هذه قد تقرّبه من ترمب الآتي من خلفية مشابهة؛ فهو رجل أعمال ثري يملك حتى طائرته الخاصة التي يقودها بنفسه أحياناً؛ كونه طياراً هاوياً تدرب على الطيران خلال السنوات الماضية، ثم إن أفكاره المحافظة حول الهجرة والإجهاض مثلاً، وأفكاره الليبرالية حول السوق، قريبة جداً من أفكار الجمهوريين؛ ما عزز توقعات اقترابه فكرياً من الرئيس الأميركي.

ويُذكر أنه رغم انتقاد كثيرين مهاجمة مؤيدي ترمب مقر الكونغرس بعد فوز الرئيس السابق جو بايدن، ظل ميرتس مؤمناً حتى بعد عودة ترمب إلى البيت الأبيض بأنه يمكن ترميم العلاقات المتدهورة مع واشنطن. ولكن خطابه إزاء واشنطن بدأ يتغيّر بعد كلمة نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس في ميونيخ، وبدا وكأنه يُعدّ لعلاقة صعبة أساسها التركيز على تشكيل وبناء تحالفات أوروبية قوية. وبالفعل، انتقد ميرتس فانس لدعوة الأخير للأحزاب الألمانية إلى التعاون مع حزب «البديل»، مشدداً على أن هذا شأن داخلي.

بين روسيا وأوكرانيا

وكذلك، لم يتردّد ميرتس في انتقاد ترمب شخصياً بعد وصف الأخير للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بـ«الديكتاتور»؛ إذ اعتبر كلام ترمب «عكساً كلاسيكياً لرواية الجاني والضحية»، مضيفاً أن بوتين يصوّر الأمر بهذه الطريقة منذ سنوات، وأنه يشعر بـ«الصدمة» من استخدام ترمب الرواية نفسها اليوم.

ميرتس يُحسب من أشدّ المؤيدين لأوكرانيا، وكان يحثّ الحكومة الألمانية طوال السنوات الماضية على إظهار دعم أقوى لكييف، ودأب على انتقاد سلفه المستشار الاشتراكي أولاف شولتس لـ«تردده المتكرّر» في تزويد أوكرانيا بالمعدّات العسكرية التي كانت تطالب بها... وأكثر من هذا، ترك الباب مفتوحاً أمام أوكرانيا للانضمام إلى «حلف شمال الأطلسي» (ناتو).

وأيضاً، يؤيد ميرتس زيادة الإنفاق العسكري لفوق 2 في المائة من الناتج الإجمالي، وهو ما تنفقه ألمانيا حالياً في تحوّل منذ الحرب في أوكرانيا. وفي إشارة إلى أن هذا الأمر أولوية بالنسبة له، عقد ميرتس لقاء مع شولتس بعد يوم على الانتخابات لمناقشة زيادة الإنفاق العسكري قبل تشكيل الحكومة الجديدة، وفق وسائل إعلام ألمانية. ومعلوم أن تشكيل الحكومة قد يستغرق شهرين على الأقل.

كذلك قد يكون ميرتس ناقش مع ماكرون أيضاً مسألة الضمانات العسكرية التي يمكن لأوروبا أن تقدّمها، وبخاصة أنه يؤيد طرح الرئيس الفرنسي حول إنشاء جيش أوروبي قوي، وهو ما يطالب به الرئيس الأوكراني أيضاً.

وعليه، فهنا يعتبر ميرتس «أوروبياً» بامتياز، مع أنه لا يؤيد السياسات الأوروبية المتعلقة بالهجرة، مفضلاً تشديدها، حتى إنه يروّج لخطوات تعتبر غير قانونية داخل الاتحاد الأوروبي، مثل إغلاق الحدود، ووقف استقبال طالبي اللجوء.

تحدّيات مستقبلية صعبة

من ناحية أخرى، فرغم تعهّد ميرتس بتشديد القوانين المتعلقة بالهجرة، فإنه ربما يواجه عراقيل قانونية تمنعه من ذلك، وقد يرفض «شركاؤه» الاشتراكيون التوقيع على بيان حكومي يتعهد باتخاذ إجراءات مشددة، كإغلاق الحدود وغيره. لكن المستشار المكلّف يعي أيضاً أنه سيكون عليه التعامل بجدّية مع مسألة الهجرة - التي كانت في طليعة اهتمامات الناخبين – من أجل الحد من شعبية حزب «البديل من أجل ألمانيا» التي تضاعفت على المستوى الوطني خلال 4 سنوات، بشكل أساسي، بسبب الهجرة.

وفي مقابلة قبل أيام، حذّر ميرتس من أن زيادة شعبية الحزب المتطرف هي «الإنذار الأخير» لنا. وللتذكير، كان الرجل نفسه من أشد منتقدي ميركل حين قررت السماح لمئات آلاف السوريين بالدخول إلى ألمانيا عام 2015، وحمّلها في السنوات التي تلت مسؤولية صعود حزب «البديل».

في أي حال، الحزب المحافظ الذي قادته ميركل طوال 20 سنة، يبدو الآن مختلفاً كلياً تحت قيادة فريدريش ميرتس، مع أن القائد الجديد نفسه لم يتغيّر أو يغيّر الكثير من أفكاره منذ «تقاعده» قبل أكثر من 16 سنة؛ فهو لا يخالف ميركل في مسألة الهجرة فحسب، بل تراه يؤيد أيضاً إبقاء العمل بالمفاعلات النووية التي كانت ميركل قد قرّرت إغلاقها بعد حادثة فوكوشيما للتسرّب الإشعاعي عام 2011. وهو كان أيضاً من منتقدي توسيع مشروع «نورد ستريم» لإيصال الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا، وكان يدعو إلى إيقاف المشروع حتى قبل غزو روسيا لأوكرانيا.