توتّرت العلاقات بين الولايات المتحدة وجنوب افريقيا بعد تعليق الرئيس دونالد ترمب على عملية "استيلاء على أراض ومزارع ونزع ملكياتها في جنوب أفريقيا وقتل المزارعين على نطاق واسع". وردّت بريتوريا على هذا الموقف بالتعبير عن شعورها بخيبة أمل لأن واشنطن لم تسلك الطرق الدبلوماسية السليمة للاستفسار عن الأمر، واكتفت بتكليف وزير الخارجية مايكل بومبيو التحقيق في الأمر.
ما هو جوهر المشكلة؟
بعد ربع قرن تقريبا من أول انتخابات ديمقراطية، يشكل السود في جنوب أفريقيا 80 في المائة من السكان البالغ عددهم أكثر من 57 مليون نسمة، لكنهم يملكون 4 في المائة فقط من أراضي البلاد، كما تقول الحكومة.
وقد جعل الرئيس سيريل رامافوزا الذي تسلم منصبه في فبراير (شباط) 2018، إصلاح نظام ملكية الأراضي في رأس سلم أولوياته، باعتباره أمراً جوهرياً لإنهاض الاقتصاد وتنشيط الزراعة التي يعتاش منها الملايين خصوصاً. وتقتضي هذه العملية تعديل الدستور الذي لم يحصل بعد. ومع ذلك، دب الذعر في صفوف مالكي الأراضي الزراعية الشاسعة من البيض الذين يخشون أن تنخفض أسعار أملاكهم ومن أن يصبحوا عرضة لعمليات مصادرة قد لا تخلو من العنف.
وثمة كلام عمره سنوات عن أن مزراعين من البيض تعرضوا بالفعل لأعمال عنف عرقية تسارعت أخيراً في موازاة خطة تغيير نظام الملكية. إلا أن فريقاً آخر يؤكد أن أعمال العنف هذه ليست سوى جزء مما تشهده البلاد في ارتفاع نسبة الجريمة في شكل عام. وتجدر الإشارة إلى أن الاعتداءات على مزارع في العامين 2016 و2017 تخللتها 74 جريمة قتل، مقابل ما مجموعه نحو 19 ألف جريمة قتل في جنوب افريقيا في الفترة نفسها.
وجاء تعليق ترمب عبر "تويتر" اتهامياً لرامافوزا الذي أعلن في بداية أغسطس (آب) نية حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم العمل على تعديل الدستور للسماح باستملاك الأراضي من دون دفع تعويضات.
وترى الحكومة إن التغييرات الموعودة هي وسيلة لتعزيز القطاع الزراعي والاقتصاد عموماً، فيما يقول المعارضون إنها تشكل تهديدًا للأمن الغذائي والاقتصاد، ويذكرون بما حصل في زيمبابوي المجاورة حيث أدت سياسة الرئيس السابق روبرت موغابي في مجال مصادرة الأراضي، خصوصا من البيض، إلى انهيار اقتصادي كبير وأزمة غذائية حادة، ناهيك بأعمال العنف التي لم توفر المواطنين السود الذين كانوا يعملون ويقيمون مع عائلاتهم في مزارع يملكها بيض.
إرث تاريخي
في جنوب افريقيا، حكم المستعمر الأبيض بقبضة من حديد، ولم تنته سياسة الأبارتهايد أو الفصل العنصري إلا مع خروج نلسون مانديلا من السجن عام 1990 وتعاونه مع الرئيس الأبيض إف دبليو دي كليرك لنقل البلاد إلى الديمقراطية المتعددة الأعراق. ومعلوم أن مانديلا منع اثر انتهاء الأبارتهايد جنوب افريقيا من الانزلاق إلى أي أعمال انتقامية أو حرب أهلية، وأنشأ "لجنة الحقيقة والمصالحة" للعمل على إرساء الاستقرار.
غير أن السنوات التي مرّت على النظام الجديد لم تلغ الفوارق الاقتصادية بين البيض والسود. وتفصيلاً يتوزّع المواطنون عرقياً كالآتي: 80 في المائة سود، 9 في المائة بيض، 9 في المائة ملوّنون، 2 في المائة هنود أو آسيويون عموماً. وجنوب افريقيا من أكثر البلدان التي تعاني عدم تكافؤ في الدخل، فقرابة 60 في المائة من السكان يكسبون أقل من 7 آلاف دولار أميركي في السنة، ويمثّل السود منذ العام 2007 نحو 90 في المائة من الفقراء.
وعندما أعلن الرئيس سيريل رامافوزا نية إصلاح نظام ملكية الأراضي، قال إن التغييرات "ستعزز الإنصاف، وتدفع التنمية الاقتصادية، وتزيد الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي". وأضاف أن هذه هي الطريقة الوحيدة لالتئام "الجرح الملتهب" وأن "السود يريدون استعادة أراضيهم".
وجاء في أحد تقارير البنك الدولي أن "الخلل التاريخي في توزيع الأراضي والأصول الإنتاجية في جنوب أفريقيا هو مصدر لعدم المساواة والهشاشة الاجتماعية". وغنيّ عن القول إن اقتصاد جنوب أفريقيا يحتاج للنهوض إلى تضييق الفجوة في الدخل وإلى تحسين المهارات والكفاءات، وخلق فرص العمل في إطار من المساواة.
ويريد رامافوزا عبر حزب المؤتمر الوطني الافريقي أن يضمّن الدستور نصاً واضحاً يسمح للدولة باستملاك الأراضي من دون دفع تعويضات بدافع المصلحة الوطنية والاقتصادية والمنفعة العامة. ويلفت خصوصاً إلى أن ملكية الأراضي الزراعية تتوزع حسب العرق كالآتي: 72 في المائة ملك لمواطنين بيض، 15 في المائة لملوّنين، 5 في المائة لآسيويين، 4 في المائة لسود. وهذا الواقع ناتج في الأساس عن قانون سُنّ عام 1913 يسمح لغير البيض بامتلاك 10 في المائة فقط من الأراضي.
وتعمل لجنة برلمانية خاصة حالياً على بلورة النص بأحكامه وبنوده بغية التوصل إلى صيغة نهائية قبل إقراره في البرلمان وإدراجه في الدستور.
وتؤكد مصادر حزب المؤتمر الوطني أن ما سيحصل ليس سلباً للملكية ولن يؤدي إلى أعمال عنف، خصوصاً أن جنوب أفريقيا تعلّمت من تجارب بلدان أخرى في هذا المجال. وتضيف أن المطلوب هو تعزيز حق جميع المواطنين في الملكية بدل حصره في فئة معيّنة. وتوضح أن بديل التعويض لدى حصول الاستملاك سيكون تدريب المزارعين، ومدّهم بالبذور والشتول والمعدّات، وتوفير الريّ، وتسهيل وصول المنتجات الزراعية إلى الأسواق...
مهما يكن من أمر، تشكل هذه "الورشة" امتحاناً كبيراً للسلطة التي عليها أن توازن بين الإنصاف المطلوب، وصَون إرث المصالحة الذي تركه نلسون مانديلا، من دون أن تقع في فخّ التمييز الذي قد ينقل جنوب افريقيا من عنصرية مذمومة إلى أخرى.