العشائر السورية... أداة احتواء التيارات المتطرفة

النظام يستعين بهم لـ«تسويات» مع مقاتلي «داعش»

عناصر من ميليشيات المعارضة السورية يحملون أسلحة في عرض عسكري في درعا يونيو الماضي (أ.ف.ب)
عناصر من ميليشيات المعارضة السورية يحملون أسلحة في عرض عسكري في درعا يونيو الماضي (أ.ف.ب)
TT

العشائر السورية... أداة احتواء التيارات المتطرفة

عناصر من ميليشيات المعارضة السورية يحملون أسلحة في عرض عسكري في درعا يونيو الماضي (أ.ف.ب)
عناصر من ميليشيات المعارضة السورية يحملون أسلحة في عرض عسكري في درعا يونيو الماضي (أ.ف.ب)

في البادية الشرقية لسوريا، تتعهد فعاليات عشائرية أمام النظام السوري وروسيا بضمانة عودة مقاتلين يقاتلون في صفوف الجيش السوري الحر والتنظيمات المتطرفة إلى الحضن العائلي. يرضخ النظام أمام رغبة شيوخ العشائر، ويضع الأمر الأمني في عهدتهم، بحيث بات هؤلاء مسؤولين عن عزوف العنصر التائب عن القتال، وامتناعه عن المشاركة في أي عمل عسكري أو أمني في منطقته، مقابل «تسوية وضعه»، وإعفائه من العقوبة، و«عودته إلى حضن الوطن»، بحسب ما يقول معارضون.
هذا الدور الجديد يُعتَبَر أحدث صفقة بين النظام وروسيا من جهة، والعشائر السورية من جهة أخرى، لاحتواء العناصر المتطرفة التي يمثل مصيرها معضلة الأطراف المحلية والدولية لإنهاء الصراع الدامي في البلاد بموجب تسويات واتفاقات محلية. إلا أنه يسلط الضوء أيضاً على دور متنامٍ للعشائر السورية في مرحلة ما بعد الحرب، وفي آخر مراحلها، بحيث لم يكن للعشائر ذلك الدور المؤثر والفعال على المستوى الوطني، ولم يتعدَّ نفوذها الإطار المناطقي، خلافاً لعشائر العراق التي كانت تتمتع بنفوذ أوسع على المستوى السياسي، تزايد أيضاً في فترة الحرب ما بعد 2003، وصولاً إلى تشكيل الصحوات التي انهارت إثر ظهور تنظيم «داعش». في أي حال باتت العشائر السورية الآن، أداة مثلى لاحتواء التيارات المتطرفة، وتفكيكها، بالنظر إلى أنها «عدو حيوي للمتشددين» الذي ينافسون شيوخ العشائر على النفوذ، فضلاً عن أنها أداة فعالة في تكريس المصالحات.
انضمت العشائر العربية في البادية الشرقية لسوريا إلى جهود النظام لإنتاج «مصالحات» تنهي حالة العسكرة القائمة، وفق تسويات تعمل في سياق احتواء المقاتلين المعارضين، رغم أن دورها الآن يتسم بتعقيدات أكبر، بالنظر إلى أنها تعمل على احتواء المنتمين للتنظيمات المتطرفة. وقالت مصادر معارضة في دير الزور لـ«الشرق الأوسط» إن العشائر «تضمن بعض المقاتلين لدى النظام، وتقدمهم على أنهم مغرر بهم وانضموا إلى (داعش) تحت الضغط»، في مقابل انتزاع موافقة من النظام تتيح العفو عنهم، وذلك ضمن خطته لتوسعة مناطق سيطرته على سائر الجغرافيا السورية.
وقوات النظام باتت اليوم تسيطر على مساحة 112333 كلم مربع بنسبة 60.7 في المائة، وتمكنت من فرض سيطرتها على عدة محافظات بكاملها، وهي طرطوس ودمشق ودرعا والقنيطرة، كما تسيطر قوات النظام على محافظات حمص والسويداء وريف دمشق باستثناء جيوب يوجَد فيها تنظيم «داعش» في حمص والسويداء، ومناطق وجود قوات التحالف الدولي والفصائل المدعومة منها بمحافظتي حمص وريف دمشق، أيضاً تسيطر مع حلفائها على أجزاء واسعة من محافظة حماة باستثناء مناطق في ريفها الشمالي والشمالي الغربي وسهل الغاب، ومحافظة اللاذقية باستثناء أجزاء واسعة من ريفيه الشمالي والشمالي الشرقي. كذلك تسيطر قوات النظام وحلفاؤها، على عشرات القرى في ريف إدلب الجنوبي الشرقي، فيما تسيطر على مساحات من محافظة حلب من ضمنها معظم المدينة، وأجزاء من محافظة الرقة في غرب نهر الفرات، ومعظم الجزء الواقع في غرب الفرات من محافظة دير الزور باستثناء جيوب للتنظيم فيها إضافة لسيطرتها على قرى مقابلة لمدينة دير الزور من شرق الفرات، إضافة لوجودها في ثكنات عسكرية في محافظة الحسكة وفي مربعات أمنية وأحياء بمدينتي الحسكة والقامشلي.
ثمة من يقول: مقاتلو «داعش» باتوا العبء الأكبر على النظام وروسيا في ظل فشل محاولات نقلهم إلى خارج سوريا، وبعدما بات التنظيم محصوراً في جيوب عسكرية محاصرة في البادية السورية في محافظات السويداء جنوباً، وحمص في وسط سوريا، ودير الزور في شرقها، إلى جانب الجيب الحدودي مع هضبة الجولان السوري المحتل والأردن في حوض اليرموك حيث يخوض النظام معركة عسكرية بموازاة مفاوضات لإخراج المقاتلين من تلك الرقعة. ويسعى النظام و«حلفاؤه» لإيجاد مخارج لهؤلاء المقاتلين بعد تعذر القضاء عليهم، وهي استراتيجية تقوم على احتواء السوريين منهم، وترك الأجانب في المنطقة الصحراوية، حتى الآن، بعد إغلاق الحدود مع العراق. وهو ما أتاح دوراً جديداً للعشائر السورية، لم تضطلع به في السابق، وباتت جزءاً من عملية الاحتواء تشبه الفعاليات الاجتماعية في مواقع أخرى أنتجت تسويات مع النظام.
لقد تراجعت مساحة تنظيم «داعش» وتقلصت بشكل كبير، لصالح طرفين رئيسيين هما قوات النظام و(حلفائه) الروس والمسلحين الموالين لهما، و«ميليشيا قواتسوريا الديمقراطية»، إذ إن عملية التقدم هذه لميليشيا سوريا الديمقراطية أفقدت تنظيم «داعش»، أكبر جيب متبقٍ له في كامل الأراضي السورية، بحيث لم يتبقَّ للتنظيم سوى الجيب الواقع عند الضفة الشرقية لنهر الفرات، الذي يضم بضع بلدات وقرى من بلدة هجين غرباً إلى بلدة الباغوز شرقاً، وجيوب متناثرة ضمن بادية دير الزور في غرب نهر الفرات، وجيبين واسعين منفصلين للتنظيم في شرق السخنة وشمالها، وجيوب للتنظيم في بادية السويداء الشمالية الشرقية على الحدود مع بادية ريف دمشق، لتتقلص مساحة سيطرة التنظيم إلى 3705 كلم مربع من مساحة الجغرافية السورية، بنسبة 2 في المائة، في حين تأتي هذه الخسارة للتنظيم بعد أيام من خسارة فصيل «خالد بن الوليد» المبايع لـ«داعش»، وجوده الميداني في كامل محافظة درعا، لينكمش التنظيم ويخسر المزيد من مناطق سيطرته والمزيد من عناصره، الذين يتناقص عددهم بشكل متتابع نتيجة عمليات القصف الجوي والمدفعي والصاروخي والعمليات العسكرية.
- تنامي الدور العشائريّ
كما سبق الإشارة إليه، لم يكن دور العشائر السورية بارزاً قبل الحرب السورية. بالكاد كان الدور رمزياً، لا يتعدى حصول العشائر على امتيازات مناطقية، ويسمح لهم بحمل السلاح للدفاع عن أنفسهم في مجتمع رعوي وزراعي بامتياز، ويمثلهم النظام في مجلس الشعب، في مقابل الحصول على ولائهم. وأي دور يتخطى ذلك، لم يتعدَّ سياق مناطق وجودهم، بحيث حرموا من أي دور سياسي مؤثر، لم يتمكنوا من فرض أي أجندة أو قرار، وهو الدور الذي اختلف خلال العام الأخير.
والواقع أن تنامي هذا الدور، بعد الأزمة السورية، جاء إثر محاولات دولية للاستثمار في المتحد القبلي النابذ للتشدد الديني، واستخدامه مجدداً ضد التشدد، واحتواء المتشددين من أبناء العشيرة. يقوم هذا الدور أساساً من «صراع السلطة بين شيوخ العشائر من جهة، التي تتمثل في المشيخة التقليدية، وبين مراكز النفوذ الناشئة من آيديولوجيات دينية تستطيع أيضاً أن تستقطب ناشئين، وهو ما أنتج توتراً يستطيع النظام استثماره لمحاربة السلطة الناشئة، وتعزيز المشيخة التقليدية»، كما يقول باحث سوري في ملفات العشائر السورية، رفض الكشف عن اسمه لضرورات أمنية. وأضاف الباحث: «في الحالة العراقية، كان الصراع بين المشيخة التقليدية والسلطة الناشئة أكبر، بالنظر إلى أن المنافسة قامت من قلب العشيرة، وهو ما جعلها أكثر تعقيداً ودفع بالعشائر العراقية للذهاب نحو الصحوات، خلافاً لما هو الأمر عليه في الساحة السورية، حيث الصراع أقل حدة، لأن المنافسين، بأغلبهم، ليسوا من العشائر نفسها، بل أجانب، وهو ما يجعل رابطة الدم أقوى، وتستطيع أن تواجه السلطة الناشئة بسهولة أكبر».
هذا، ويمثل المواطنون السوريون من خلفية قبلية نسبة تزيد عن 30 في المائة من عدد السكان، ويعيشون في مناطق تزيد مساحتها عن 43 في المائة من مساحة سوريا البالغة 185.180 كلم، إذا احتسبت فقط مساحة المحافظات ذات الغالبية العشائرية المطلقة وهي دير الزور والحسكة والرقة ودرعا.
وتتمتع العشائر في دير الزور بنفوذ واسع، وتسيطر على مفاصلها. كان النظام السوري، منذ السبعينات، قد أدرك أهمية دور العشائر، التي تشكل 35 في المائة من السوريين، ويتركز ثقلها في المناطق الشرقية والشمالية. فسارع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد إلى مهادنتها، بالنظر إلى أنها عشائر مقاتلة، وقادرة على حشد المؤيدين للنظام أو الانفكاك عنه، بسبب التركيبة الاجتماعية لها، وهو ما دفع الأسد الأب إلى جعل شيوخ العشائر مقربين منه، وأوصل بعضهم إلى الندوة البرلمانية في مجلس الشعب.
وُجِّهت اتهامات للعشائر السورية في شرق البلاد منذ عام 2012، باحتضانها للجماعات المتشددة لأسباب يراها بعض أبناء تلك العشائر مختلفة، بينما يقول من انتفض ضد «داعش» من أبناء العشائر، إنه لقي تجاهلاً من قبل المعارضة السورية والمجتمع الدولي، وترك وحيداً ليقارع التنظيم. ولعل القرب الجغرافي مع العراق، والانتماء إلى بيئة قبلية واحدة عززت الروابط العشائرية، كان سبباً أساسياً في وجود التنظيم في سوريا، وفي اندحاره أخيراً.
لكن في الفترة الأخيرة، باتت العشائر أداة فعالة لاحتواء التنظيمات المتطرفة، إذ يتحدث معارضون في منطقة دير الزور عن أن الروس «يعملون على هذا الجانب لخلق عدو حيوي للمتشددين، يقارعهم بالوكالة، ويحتوي آخرين، ويقدم ضمانات»، علماً بأن العشائر قادرة على تقديم تلك الضمانات بالنظر إلى قوتها وحيثيتها، إذ يبلغ تعداد عشيرة البكارة وحدها مثلاً، 1.6 مليون شخص، وهو رقم كافٍ لخلق نفوذ في المنطقة.
ويلعب الروس هذا الدور الآن، بعدما لعبه الأميركيون من قبل، ولقد وجدوا في الغطاء القبلي قوة قادرة على مقارعة المتطرفين، وعملوا على تعزيز دور العشائر سواء في العراق أو سوريا، لاحتواء نفوذ التنظيمات المتطرفة الناشئة. ومثل روسيا والولايات المتحدة، تستثمر إيران أيضاً في العشائر، علماً بأن العشائر، حتى ما قبل 25 عاماً، لم تشهد صعوداً في التدين، خلافاً لما عليه الأمر في هذا الوقت.
والى جانب الروس والأميركيين، يستفيد أكراد سوريا أيضاً من الغطاء العشائري ونفوذه، وعملوا على استمالة العشائر في الإدارة الذاتية التي ضمت عشائر عربية، واستقطبوا الزعامات القبلية العربية في منطقتهم، ومنحوهم أدواراً رمزية في المواقع القيادية، رغم أن كثيرين ينظرون إلى الدور الموكل إليهم بوصفه غير مؤثر سياسياً، لكنه أعطى «قوات سوريا الديمقراطية» غطاء عشائرياً عربياً واستمالوا إثره مقاتلين عرباً لمحاربة «داعش».
وقال مصدر عشائري في دير الزور لـ«الشرق الأوسط» إن النظام يعمل على احتواء التنظيمات المتشددة ضمن البيئة الاجتماعية، لافتاً إلى أن العشائر جزء من خطة الاحتواء، مضيفاً: «أي شخص من مقاتلي (داعش) السوريين يتقدم من النظام لتسوية أوضاعه، وبضمانات عشائرية، فإن النظام يرحب بذلك»، مشيراً إلى أن العناصر المتشددة «لا تثق بالنظام، لكنها توافق على التسوية إذا كانت بضمانات روسية».
وقال المصدر إن روسيا وجدت في العشائر «المكون الاجتماعي الأفضل لهذه المهمة»، لافتاً إلى أن العشائر «تستطيع بناء شبكة علاقات عامة تحتوي إثرها المتشددين، وهي القادرة على تلك المهمة بما يتخطى أي مكون اجتماعي سوري آخر بالنظر إلى امتداداتها وارتباطاتها وعددها وقوتها وترابط هيكلية الحكم العشائري المرتبط جميعه بشيخ العشيرة»، موضحاً أن انتماءات العشائر وانفتاحها على المكونات السياسية والمجموعات التي تمتلك حيثية «قائمة بالنظر إلى توزع الولاءات والانتماءات وسهولة تواصلها مع الأطراف الأخرى، وارتباطها جميعها بالهيكلية العشائرية، ما يجعلها الجهة الأقدر على تنفيذ تسهيلات لعودة المتطرفين».



تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».