«القاعدة» شبكة إرهابية في مرحلة التمدد

الظواهري يتبنى استراتيجية جديدة تبتعد عن البهرجة الإعلامية

«القاعدة» شبكة إرهابية في مرحلة التمدد
TT

«القاعدة» شبكة إرهابية في مرحلة التمدد

«القاعدة» شبكة إرهابية في مرحلة التمدد

تركزت الجهود الدولية في منطقة الشرق الأوسط منذ 2014 على خلق آليات فعالة، ونسج تحالف دولي واسع النطاق ضد تنظيم داعش الإرهابي. وفي الوقت الذي بزغ نجم تنظيم أبو بكر البغدادي، اختار أيمن الظواهري تبني استراتيجية جديدة تقوم على دعامات ثلاث؛ الأولى تركزت حول الاستمرار في بناء تنظيم شبكي وفيدرالي عالمي، بعيدا عن البهرجة الإعلامية، والتوحش الداعشي. والثانية، فرض الحضور القاعدي بسوريا، عبر المزاوجة بين الدور المحوري للقيادات التاريخية، وتشبيب الهيكل التنظيمي بأرض الشام.
في الوقت نفسه اعتمدت الاستراتيجية الجديدة التسويق الآيديولوجي حيث تعتبر سوريا هي أفغانستان الثانية، وهو ما يمنح للقاعدة شرعية تاريخية لقيادة ما تعتبره «جهاداً» ضد الكفار والنظام والصليبين.
أما الدعامة الثالثة، فتمثل نوعا من تطوير التصور اللامركزي للتنظيم، من حيث بناء التصورات الآيديولوجية، وممارسة الفعل الإرهابي عبر تنظيمات محلية لها ولاء مطلق لشبكة القاعدة العالمية.
ويبدو أن تقييم تطور أداء تنظيم القاعدة على المستوى العملياتي، ساهم في ظهور أطروحتين، متناقضتين حول مسار القاعدة منذ 2011 وصولا للثلث الأخير من سنة 2018. وتتبنى الأطروحة الأولى، تصورا لا يركز فقط على تراجع القاعدة؛ بل يعتبر أن المراكز البحثية المتخصصة، في الظاهرة الإرهابية أثبتت أن العمليات الإرهابية في تراجع مستمر منذ 2015. بينما ترى الأطروحة الثانية أن القاعدة لم تتراجع، وأنها عادت بعد فترة وجيزة من ترتيب بيتها التنظيمي؛ لتحقق توسعا وانتشارا للتنظيم، ضمن لها نشاطا في الشرق الأوسط، وأفريقيا، وآسيا، وأوروبا.
تستند أطروحة تراجع القاعدة إلى عدة تقارير رسمية وغير رسمية منها، التقرير الذي صدر بلندن نهاية سنة 2017 من طرف معهد الاقتصاد والسلام الأسترالي. والذي يؤكد على أن القاعدة أصبحت منظمة شبه غائبة عن ساحة الفعل الإرهابي العالمي، حيث تراجع عدد ضحاياها بنسبة 35 في المائة سنة 2016 و2017. كما أن التقرير المشار إليه أعلاه، يعتبر أن القاعدة تعيش نوعا من الصراعات الداخلية بين جيلين، الأول يقوده أيمن الظواهري، والثاني شبابي بقيادة حمزة بن لادن، وهذه الوضعية المأزومة تفسر خفوت الآلة الإعلامية للقاعدة، ومن ثم التراجع في تمدد الآيديولوجية القتالية للتنظيم. أكثر من ذلك، تقول أطروحة التراجع، أن الجغرافيا القتالية للقاعدة، شهدت نوعا من السكونية، والانكفاء الذاتي للتنظيم الإرهابي وشبكاته. فقد انخفضت وتيرة الهجمات الإرهابية في نيجيريا، وباكستان وسوريا والعراق، والصومال وسيناء بمصر؛ وهذا التراجع أدى بدوره إلى انخفاض في نسبة وفيات العمليات الإرهابية بلغ 13 في المائة ما بين 2016 و2017، كما تبلغ نسبة الانخفاض سنة 2016، 22 في المائة مقارنة مع 2014.
من جانب آخر، ترى أطروحة التراجع أن الصراع بين «جيش فتح الشام»، «جبهة النصرة» سابقا مع التنظيمات الموالية لأيمن الظواهري؛ يعتبر مؤشرا جديدا على الأزمة الخانقة التي يعيشها تنظيم القاعدة في ثاني أكبر معقل له بعد أفغانستان.
وتعتمد كذلك أطروحة تراجع القاعدة على مؤشر مهم، وهو فقدان «القاعدة» لقيادات مهمة. فقد تلقى تنظيم «القاعدة» في جزيرة العرب ضربة قوية، بمقتل زعيمه ناصر الوحيشي بطائرة بلا طيار في حضرموت شرقي اليمن، منتصف 2015، وعيَّن قاسم الريمي (أبو هريرة) خلفا له. كما قتل أحد كبار قادة القاعدة في أراضي بلاد المغرب موسى أبو داود في مارس (آذار) 2018.
وبسوريا سنة 2016، فقدت «القاعدة» قيادات بارزة منها، حيدر كركان، والمصريين أبو الأفغان، وأحمد سلامة مبروك؛ وانضم إلى صفوف القتلى من التنظيم سنة 2017، التونسي محمد حبيب بوسعدون. وبأفغانستان، تعرض التنظيم لنزيف حقيقي، تمثل في فقدانه لقيادات بارزة، أهمها: مقتل سيف الله أختر بولاية غزني بداية 2017؛ كما قتل قاري ياسين المسؤول الكبير في التنظيم، 19 مارس من نفس السنة، بينما قتل القيادي القاعدي «حضرت عباس»، في مايو (أيار) 2018.
أما في الصومال فقد فقد تنظيم الشباب التابع للقاعدة عدة قيادات مهمة منها: علي محمد حسين أو علي جبل، وقيادي يدعى طيري، الرجل الثاني في الحركة في منطقة جبال غالغلا شمال شرقي البلاد في يوليو (تموز) 2017؛ كما فقد تنظيم الشباب الإرهابي زعيما أخرى، هو القيادي المدعو معلم ديرو في يوليو 2018.
ورغم كل هذه النكسات التي تعرضت لها شبكة القاعدة عالميا، فإن أطروحة التمدد، ترى أن التنظيم لم يمتص فقط الضربات التي وجهت له ولفروعه المختلفة؛ بل استطاع إعادة ترتيب بيته الداخلي، وتجاوز تنظيم داعش المتوحش. فقد استطاعت حركة الشباب الصومالية الموالية للقاعدة، العودة بقوة لمسرح الأحداث منذ بداية 2018؛ وأظهر التنظيم أنه فاعل رئيسي لا يمكن تجاوزه، وشن هذه السنة عشرات العمليات في العاصمة مقديشو، وصلت إلى استهداف، القصر الرأسي، وشخصيات من الحكومة، وقيادات الصف الأول في الجيش والاستخبارات.
تستند كذلك أطروحة التمدد والعودة القوية، لشبكة «القاعدة» على المسرح العالمي، إلى كون أعضاء التنظيم والمقاتلين وصل عددهم حاليا إلى عدة آلاف. وأنهم يخضعون بشكل مستمر لسياسة إعادة التوزيع الجغرافي وتبادل الخبرة الميدانية؛ وهو ما يزيد من قدرتهم على زعزعة الاستقرار في جغرافية واسعة تمتد من الشرق الأوسط، وأفريقيا، وأوروبا وروسيا، وجنوب آسيا، وجنوب شرقي آسيا. ووصلت القاعدة حاليا لنحو 24 فرعا مبايعا للظواهري. ومن ناحية عدد المقاتلين، فيمكن الحديث في سوريا على أكثر من 20 ألف مسلح موزعين عن تنظيمات مختلفة، لها ولاء تام للقاعدة؛ أو لها نفس القناعات الآيديولوجية، التي يتبناها تنظيم الظواهري. كما استطاع فرع التنظيم باليمن تجنيد نحو 4 آلاف مقاتل.
وتشير واحدة من أحدث الدراسات البحثية الأميركية، التي نشرها الباحثان بالمؤسسة، جيسن وارنر وإيلين شابن عن مركز مكافحة الإرهاب التابع للأكاديمية العسكرية الأميركية في ويست بوينت؛ أن تنظيم «الشباب»، شن منذ 18 سبتمبر (أيلول) 2006، إلى أكتوبر (تشرين الأول) 2017، على الأقل 155 عملية انتحارية نفذها 216 من أعضاء التنظيم، بمعدل 4 عمليات في الشهر. كما أن التنظيم شن في نفس الفترة، عشرات العمليات بالعبوات الناسفة، والاشتباك المباشر لعناصره مع القوات الصومالية والأفريقية.
وقد استمر هذا الخط التصاعدي للهجمات الإرهابية لتنظيم الشباب، ليشهد شهر يوليو 2018، هجومين على كل من وزارة الداخلية والقصر الرئاسي بمقديشو؛ وهو ما يعني أن التنظيم ما زال يتمتع بالقوة التي تؤهله، لزعزعة الاستقرار بالصومال وجواره. من جهة أخرى استطاعت بوكو حرام، التمدد وخلق علاقة متشابكة مع بعض التنظيمات النشطة في المحيط الجغرافي لبحيرة تشاد.
وهو ما ينذر بموجة جديدة من الإرهاب بأفريقيا، قد تقوده القاعدة؛ خاصة إذا ما تطور التواصل الحالي، إلى تعاون بين فروع التنظيم في غرب أفريقيا والساحل والصحراء، وتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي. ويبدو أن هذا التنظيم الإرهابي، في تطور مستمر، مستغلا بذلك الفراغ الأمني بالمنطقة؛ كما أن التنظيم أخذ يرفع بعض الشعارات الوطنية، ويخلق تحالفات قبلية موالية لآيديولوجية القاعدة. ومنذ بداية 2018 يسيطر بشكل شبه تام، على الطرق التجارية الصحراوية؛ كما يشرف على منح التراخيص لحفر الآبار لسكان المنشرين بالصحراء.
وتأتي الدعوة الأخيرة، من التنظيم لمقاتليه لاستهداف الشركات الأجنبية، لتفسر تقدم طرق وأهداف التنظيم؛ فقد سبق للتنظيم أن هاجم شركات أجنبية بالجزائر عاملة في مجال النفط وقتل العشرات من العمال. ويبدو أن فرع تنظيم الظواهري بالمغرب العربي الكبير، عاد للواجهة بعد ترتيب بيته الداخلي، وتوفر السلاح، واستقباله لعدد مهم من المقاتلين العائدين من سوريا والعراق. وقد اتخذ قرارا بفتح جبهة موسعة ضد المصالح الغربية بالمنطقة، مرورا بدول الساحل والصحراء. حيث يقول التنظيم في بيان له في 9 مايو 2018: «يأتي هذا البيان منابذة لكل الشركات والمؤسسات الغربية العاملة في المغرب الإسلامي (من ليبيا إلى موريتانيا) ومنطقة الساحل وإخطارا لها بأنها هدف مشروع للمجاهدين.
وتشير مجموعة من الأحداث والوقائع منذ مارس 2017، إلى عودة فعلية وقوية لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.
فعلى عكس التفكك الذي أصاب «تنظيم البغدادي» بالعراق وسوريا، والتنظيمات الموالية له بشمال أفريقيا؛ جمع الزعيم الطارقي إياد أغ غالي، الخميس 2 مارس 2017، في وحدة اندماجية، كلا من «جماعة أنصار الدين» و«جبهة تحرير ماسينا» و«إمارة منطقة الصحراء الكبرى» و«تنظيم المرابطين»، في تنظيم جديد باسم «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين». واختارت وثيقة الإعلان رؤية تنظيم القاعدة وقدمت البيعة لقيادة التنظيم أيمن الظواهري؛ وأكدت على الوفاء لأمير القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي أبو مصعب عبد الودود، وأمير حركة طالبان الملا هيبة الله.
عموما، يمكن القول إن أيمن الظواهري سن استراتيجية جديدة، تجمع بين المرونة واللامركزية، واعتماد مبدأ الشورى في قيادة التنظيم المركزي، والفروع المحلية؛ كما اعتمدت على الرموز التاريخية، والصلابة الآيديولوجية، في مواجهة «داعش»، مع ترك هذه الأخيرة تتعرض لقسوة المواجهة الدولية منذ 2014
- أستاذ زائر للعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط


مقالات ذات صلة

باكستان: جهود لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين

آسيا جندي باكستاني يقف حارساً على الحدود الباكستانية الأفغانية التي تم تسييجها مؤخراً (وسائل الإعلام الباكستانية)

باكستان: جهود لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين

الجيش الباكستاني يبذل جهوداً كبرى لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين.

عمر فاروق (إسلام آباد)
أفريقيا وحدة من جيش بوركينا فاسو خلال عملية عسكرية (صحافة محلية)

دول الساحل تكثف عملياتها ضد معاقل الإرهاب

كثفت جيوش دول الساحل الثلاث؛ النيجر وبوركينا فاسو ومالي، خلال اليومين الماضيين من عملياتها العسكرية ضد معاقل الجماعات الإرهابية.

الشيخ محمد (نواكشوط)
أفريقيا سيدة في إحدى قرى بوركينا فاسو تراقب آلية عسكرية تابعة للجيش (غيتي)

تنظيم «القاعدة» يقترب من عاصمة بوركينا فاسو

أعلنت «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، الموالية لتنظيم «القاعدة»، أنها سيطرت على موقع عسكري متقدم تابع لجيش بوركينا فاسو.

الشيخ محمد ( نواكشوط)
أفريقيا رئيس تشاد يتحدث مع السكان المحليين (رئاسة تشاد)

الرئيس التشادي: سنلاحق إرهابيي «بوكو حرام» أينما ذهبوا

قال الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي، في مقطع فيديو نشرته الرئاسة التشادية، إنه سيلاحق مقاتلي «بوكو حرام» «أينما ذهبوا، واحداً تلو الآخر، وحتى آخر معاقلهم».

الشيخ محمد (نواكشوط)
أفريقيا آثار هجوم إرهابي شنَّته «بوكو حرام» ضد الجيش التشادي (إعلام محلي)

«الإرهاب» يصعّد هجماته في دول الساحل الأفريقي

تصاعدت وتيرة الهجمات الإرهابية في منطقة الساحل الأفريقي، خصوصاً بعد أن أعلنت تشاد أن أربعين جندياً قُتلوا في هجوم إرهابي.

الشيخ محمد (نواكشوط)

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».