«القاعدة» شبكة إرهابية في مرحلة التمدد

الظواهري يتبنى استراتيجية جديدة تبتعد عن البهرجة الإعلامية

«القاعدة» شبكة إرهابية في مرحلة التمدد
TT

«القاعدة» شبكة إرهابية في مرحلة التمدد

«القاعدة» شبكة إرهابية في مرحلة التمدد

تركزت الجهود الدولية في منطقة الشرق الأوسط منذ 2014 على خلق آليات فعالة، ونسج تحالف دولي واسع النطاق ضد تنظيم داعش الإرهابي. وفي الوقت الذي بزغ نجم تنظيم أبو بكر البغدادي، اختار أيمن الظواهري تبني استراتيجية جديدة تقوم على دعامات ثلاث؛ الأولى تركزت حول الاستمرار في بناء تنظيم شبكي وفيدرالي عالمي، بعيدا عن البهرجة الإعلامية، والتوحش الداعشي. والثانية، فرض الحضور القاعدي بسوريا، عبر المزاوجة بين الدور المحوري للقيادات التاريخية، وتشبيب الهيكل التنظيمي بأرض الشام.
في الوقت نفسه اعتمدت الاستراتيجية الجديدة التسويق الآيديولوجي حيث تعتبر سوريا هي أفغانستان الثانية، وهو ما يمنح للقاعدة شرعية تاريخية لقيادة ما تعتبره «جهاداً» ضد الكفار والنظام والصليبين.
أما الدعامة الثالثة، فتمثل نوعا من تطوير التصور اللامركزي للتنظيم، من حيث بناء التصورات الآيديولوجية، وممارسة الفعل الإرهابي عبر تنظيمات محلية لها ولاء مطلق لشبكة القاعدة العالمية.
ويبدو أن تقييم تطور أداء تنظيم القاعدة على المستوى العملياتي، ساهم في ظهور أطروحتين، متناقضتين حول مسار القاعدة منذ 2011 وصولا للثلث الأخير من سنة 2018. وتتبنى الأطروحة الأولى، تصورا لا يركز فقط على تراجع القاعدة؛ بل يعتبر أن المراكز البحثية المتخصصة، في الظاهرة الإرهابية أثبتت أن العمليات الإرهابية في تراجع مستمر منذ 2015. بينما ترى الأطروحة الثانية أن القاعدة لم تتراجع، وأنها عادت بعد فترة وجيزة من ترتيب بيتها التنظيمي؛ لتحقق توسعا وانتشارا للتنظيم، ضمن لها نشاطا في الشرق الأوسط، وأفريقيا، وآسيا، وأوروبا.
تستند أطروحة تراجع القاعدة إلى عدة تقارير رسمية وغير رسمية منها، التقرير الذي صدر بلندن نهاية سنة 2017 من طرف معهد الاقتصاد والسلام الأسترالي. والذي يؤكد على أن القاعدة أصبحت منظمة شبه غائبة عن ساحة الفعل الإرهابي العالمي، حيث تراجع عدد ضحاياها بنسبة 35 في المائة سنة 2016 و2017. كما أن التقرير المشار إليه أعلاه، يعتبر أن القاعدة تعيش نوعا من الصراعات الداخلية بين جيلين، الأول يقوده أيمن الظواهري، والثاني شبابي بقيادة حمزة بن لادن، وهذه الوضعية المأزومة تفسر خفوت الآلة الإعلامية للقاعدة، ومن ثم التراجع في تمدد الآيديولوجية القتالية للتنظيم. أكثر من ذلك، تقول أطروحة التراجع، أن الجغرافيا القتالية للقاعدة، شهدت نوعا من السكونية، والانكفاء الذاتي للتنظيم الإرهابي وشبكاته. فقد انخفضت وتيرة الهجمات الإرهابية في نيجيريا، وباكستان وسوريا والعراق، والصومال وسيناء بمصر؛ وهذا التراجع أدى بدوره إلى انخفاض في نسبة وفيات العمليات الإرهابية بلغ 13 في المائة ما بين 2016 و2017، كما تبلغ نسبة الانخفاض سنة 2016، 22 في المائة مقارنة مع 2014.
من جانب آخر، ترى أطروحة التراجع أن الصراع بين «جيش فتح الشام»، «جبهة النصرة» سابقا مع التنظيمات الموالية لأيمن الظواهري؛ يعتبر مؤشرا جديدا على الأزمة الخانقة التي يعيشها تنظيم القاعدة في ثاني أكبر معقل له بعد أفغانستان.
وتعتمد كذلك أطروحة تراجع القاعدة على مؤشر مهم، وهو فقدان «القاعدة» لقيادات مهمة. فقد تلقى تنظيم «القاعدة» في جزيرة العرب ضربة قوية، بمقتل زعيمه ناصر الوحيشي بطائرة بلا طيار في حضرموت شرقي اليمن، منتصف 2015، وعيَّن قاسم الريمي (أبو هريرة) خلفا له. كما قتل أحد كبار قادة القاعدة في أراضي بلاد المغرب موسى أبو داود في مارس (آذار) 2018.
وبسوريا سنة 2016، فقدت «القاعدة» قيادات بارزة منها، حيدر كركان، والمصريين أبو الأفغان، وأحمد سلامة مبروك؛ وانضم إلى صفوف القتلى من التنظيم سنة 2017، التونسي محمد حبيب بوسعدون. وبأفغانستان، تعرض التنظيم لنزيف حقيقي، تمثل في فقدانه لقيادات بارزة، أهمها: مقتل سيف الله أختر بولاية غزني بداية 2017؛ كما قتل قاري ياسين المسؤول الكبير في التنظيم، 19 مارس من نفس السنة، بينما قتل القيادي القاعدي «حضرت عباس»، في مايو (أيار) 2018.
أما في الصومال فقد فقد تنظيم الشباب التابع للقاعدة عدة قيادات مهمة منها: علي محمد حسين أو علي جبل، وقيادي يدعى طيري، الرجل الثاني في الحركة في منطقة جبال غالغلا شمال شرقي البلاد في يوليو (تموز) 2017؛ كما فقد تنظيم الشباب الإرهابي زعيما أخرى، هو القيادي المدعو معلم ديرو في يوليو 2018.
ورغم كل هذه النكسات التي تعرضت لها شبكة القاعدة عالميا، فإن أطروحة التمدد، ترى أن التنظيم لم يمتص فقط الضربات التي وجهت له ولفروعه المختلفة؛ بل استطاع إعادة ترتيب بيته الداخلي، وتجاوز تنظيم داعش المتوحش. فقد استطاعت حركة الشباب الصومالية الموالية للقاعدة، العودة بقوة لمسرح الأحداث منذ بداية 2018؛ وأظهر التنظيم أنه فاعل رئيسي لا يمكن تجاوزه، وشن هذه السنة عشرات العمليات في العاصمة مقديشو، وصلت إلى استهداف، القصر الرأسي، وشخصيات من الحكومة، وقيادات الصف الأول في الجيش والاستخبارات.
تستند كذلك أطروحة التمدد والعودة القوية، لشبكة «القاعدة» على المسرح العالمي، إلى كون أعضاء التنظيم والمقاتلين وصل عددهم حاليا إلى عدة آلاف. وأنهم يخضعون بشكل مستمر لسياسة إعادة التوزيع الجغرافي وتبادل الخبرة الميدانية؛ وهو ما يزيد من قدرتهم على زعزعة الاستقرار في جغرافية واسعة تمتد من الشرق الأوسط، وأفريقيا، وأوروبا وروسيا، وجنوب آسيا، وجنوب شرقي آسيا. ووصلت القاعدة حاليا لنحو 24 فرعا مبايعا للظواهري. ومن ناحية عدد المقاتلين، فيمكن الحديث في سوريا على أكثر من 20 ألف مسلح موزعين عن تنظيمات مختلفة، لها ولاء تام للقاعدة؛ أو لها نفس القناعات الآيديولوجية، التي يتبناها تنظيم الظواهري. كما استطاع فرع التنظيم باليمن تجنيد نحو 4 آلاف مقاتل.
وتشير واحدة من أحدث الدراسات البحثية الأميركية، التي نشرها الباحثان بالمؤسسة، جيسن وارنر وإيلين شابن عن مركز مكافحة الإرهاب التابع للأكاديمية العسكرية الأميركية في ويست بوينت؛ أن تنظيم «الشباب»، شن منذ 18 سبتمبر (أيلول) 2006، إلى أكتوبر (تشرين الأول) 2017، على الأقل 155 عملية انتحارية نفذها 216 من أعضاء التنظيم، بمعدل 4 عمليات في الشهر. كما أن التنظيم شن في نفس الفترة، عشرات العمليات بالعبوات الناسفة، والاشتباك المباشر لعناصره مع القوات الصومالية والأفريقية.
وقد استمر هذا الخط التصاعدي للهجمات الإرهابية لتنظيم الشباب، ليشهد شهر يوليو 2018، هجومين على كل من وزارة الداخلية والقصر الرئاسي بمقديشو؛ وهو ما يعني أن التنظيم ما زال يتمتع بالقوة التي تؤهله، لزعزعة الاستقرار بالصومال وجواره. من جهة أخرى استطاعت بوكو حرام، التمدد وخلق علاقة متشابكة مع بعض التنظيمات النشطة في المحيط الجغرافي لبحيرة تشاد.
وهو ما ينذر بموجة جديدة من الإرهاب بأفريقيا، قد تقوده القاعدة؛ خاصة إذا ما تطور التواصل الحالي، إلى تعاون بين فروع التنظيم في غرب أفريقيا والساحل والصحراء، وتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي. ويبدو أن هذا التنظيم الإرهابي، في تطور مستمر، مستغلا بذلك الفراغ الأمني بالمنطقة؛ كما أن التنظيم أخذ يرفع بعض الشعارات الوطنية، ويخلق تحالفات قبلية موالية لآيديولوجية القاعدة. ومنذ بداية 2018 يسيطر بشكل شبه تام، على الطرق التجارية الصحراوية؛ كما يشرف على منح التراخيص لحفر الآبار لسكان المنشرين بالصحراء.
وتأتي الدعوة الأخيرة، من التنظيم لمقاتليه لاستهداف الشركات الأجنبية، لتفسر تقدم طرق وأهداف التنظيم؛ فقد سبق للتنظيم أن هاجم شركات أجنبية بالجزائر عاملة في مجال النفط وقتل العشرات من العمال. ويبدو أن فرع تنظيم الظواهري بالمغرب العربي الكبير، عاد للواجهة بعد ترتيب بيته الداخلي، وتوفر السلاح، واستقباله لعدد مهم من المقاتلين العائدين من سوريا والعراق. وقد اتخذ قرارا بفتح جبهة موسعة ضد المصالح الغربية بالمنطقة، مرورا بدول الساحل والصحراء. حيث يقول التنظيم في بيان له في 9 مايو 2018: «يأتي هذا البيان منابذة لكل الشركات والمؤسسات الغربية العاملة في المغرب الإسلامي (من ليبيا إلى موريتانيا) ومنطقة الساحل وإخطارا لها بأنها هدف مشروع للمجاهدين.
وتشير مجموعة من الأحداث والوقائع منذ مارس 2017، إلى عودة فعلية وقوية لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.
فعلى عكس التفكك الذي أصاب «تنظيم البغدادي» بالعراق وسوريا، والتنظيمات الموالية له بشمال أفريقيا؛ جمع الزعيم الطارقي إياد أغ غالي، الخميس 2 مارس 2017، في وحدة اندماجية، كلا من «جماعة أنصار الدين» و«جبهة تحرير ماسينا» و«إمارة منطقة الصحراء الكبرى» و«تنظيم المرابطين»، في تنظيم جديد باسم «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين». واختارت وثيقة الإعلان رؤية تنظيم القاعدة وقدمت البيعة لقيادة التنظيم أيمن الظواهري؛ وأكدت على الوفاء لأمير القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي أبو مصعب عبد الودود، وأمير حركة طالبان الملا هيبة الله.
عموما، يمكن القول إن أيمن الظواهري سن استراتيجية جديدة، تجمع بين المرونة واللامركزية، واعتماد مبدأ الشورى في قيادة التنظيم المركزي، والفروع المحلية؛ كما اعتمدت على الرموز التاريخية، والصلابة الآيديولوجية، في مواجهة «داعش»، مع ترك هذه الأخيرة تتعرض لقسوة المواجهة الدولية منذ 2014
- أستاذ زائر للعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط


مقالات ذات صلة

باكستان: جهود لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين

آسيا جندي باكستاني يقف حارساً على الحدود الباكستانية الأفغانية التي تم تسييجها مؤخراً (وسائل الإعلام الباكستانية)

باكستان: جهود لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين

الجيش الباكستاني يبذل جهوداً كبرى لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين.

عمر فاروق (إسلام آباد)
أفريقيا وحدة من جيش بوركينا فاسو خلال عملية عسكرية (صحافة محلية)

دول الساحل تكثف عملياتها ضد معاقل الإرهاب

كثفت جيوش دول الساحل الثلاث؛ النيجر وبوركينا فاسو ومالي، خلال اليومين الماضيين من عملياتها العسكرية ضد معاقل الجماعات الإرهابية.

الشيخ محمد (نواكشوط)
أفريقيا سيدة في إحدى قرى بوركينا فاسو تراقب آلية عسكرية تابعة للجيش (غيتي)

تنظيم «القاعدة» يقترب من عاصمة بوركينا فاسو

أعلنت «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، الموالية لتنظيم «القاعدة»، أنها سيطرت على موقع عسكري متقدم تابع لجيش بوركينا فاسو.

الشيخ محمد ( نواكشوط)
أفريقيا رئيس تشاد يتحدث مع السكان المحليين (رئاسة تشاد)

الرئيس التشادي: سنلاحق إرهابيي «بوكو حرام» أينما ذهبوا

قال الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي، في مقطع فيديو نشرته الرئاسة التشادية، إنه سيلاحق مقاتلي «بوكو حرام» «أينما ذهبوا، واحداً تلو الآخر، وحتى آخر معاقلهم».

الشيخ محمد (نواكشوط)
أفريقيا آثار هجوم إرهابي شنَّته «بوكو حرام» ضد الجيش التشادي (إعلام محلي)

«الإرهاب» يصعّد هجماته في دول الساحل الأفريقي

تصاعدت وتيرة الهجمات الإرهابية في منطقة الساحل الأفريقي، خصوصاً بعد أن أعلنت تشاد أن أربعين جندياً قُتلوا في هجوم إرهابي.

الشيخ محمد (نواكشوط)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟