«القاعدة» شبكة إرهابية في مرحلة التمدد

الظواهري يتبنى استراتيجية جديدة تبتعد عن البهرجة الإعلامية

«القاعدة» شبكة إرهابية في مرحلة التمدد
TT

«القاعدة» شبكة إرهابية في مرحلة التمدد

«القاعدة» شبكة إرهابية في مرحلة التمدد

تركزت الجهود الدولية في منطقة الشرق الأوسط منذ 2014 على خلق آليات فعالة، ونسج تحالف دولي واسع النطاق ضد تنظيم داعش الإرهابي. وفي الوقت الذي بزغ نجم تنظيم أبو بكر البغدادي، اختار أيمن الظواهري تبني استراتيجية جديدة تقوم على دعامات ثلاث؛ الأولى تركزت حول الاستمرار في بناء تنظيم شبكي وفيدرالي عالمي، بعيدا عن البهرجة الإعلامية، والتوحش الداعشي. والثانية، فرض الحضور القاعدي بسوريا، عبر المزاوجة بين الدور المحوري للقيادات التاريخية، وتشبيب الهيكل التنظيمي بأرض الشام.
في الوقت نفسه اعتمدت الاستراتيجية الجديدة التسويق الآيديولوجي حيث تعتبر سوريا هي أفغانستان الثانية، وهو ما يمنح للقاعدة شرعية تاريخية لقيادة ما تعتبره «جهاداً» ضد الكفار والنظام والصليبين.
أما الدعامة الثالثة، فتمثل نوعا من تطوير التصور اللامركزي للتنظيم، من حيث بناء التصورات الآيديولوجية، وممارسة الفعل الإرهابي عبر تنظيمات محلية لها ولاء مطلق لشبكة القاعدة العالمية.
ويبدو أن تقييم تطور أداء تنظيم القاعدة على المستوى العملياتي، ساهم في ظهور أطروحتين، متناقضتين حول مسار القاعدة منذ 2011 وصولا للثلث الأخير من سنة 2018. وتتبنى الأطروحة الأولى، تصورا لا يركز فقط على تراجع القاعدة؛ بل يعتبر أن المراكز البحثية المتخصصة، في الظاهرة الإرهابية أثبتت أن العمليات الإرهابية في تراجع مستمر منذ 2015. بينما ترى الأطروحة الثانية أن القاعدة لم تتراجع، وأنها عادت بعد فترة وجيزة من ترتيب بيتها التنظيمي؛ لتحقق توسعا وانتشارا للتنظيم، ضمن لها نشاطا في الشرق الأوسط، وأفريقيا، وآسيا، وأوروبا.
تستند أطروحة تراجع القاعدة إلى عدة تقارير رسمية وغير رسمية منها، التقرير الذي صدر بلندن نهاية سنة 2017 من طرف معهد الاقتصاد والسلام الأسترالي. والذي يؤكد على أن القاعدة أصبحت منظمة شبه غائبة عن ساحة الفعل الإرهابي العالمي، حيث تراجع عدد ضحاياها بنسبة 35 في المائة سنة 2016 و2017. كما أن التقرير المشار إليه أعلاه، يعتبر أن القاعدة تعيش نوعا من الصراعات الداخلية بين جيلين، الأول يقوده أيمن الظواهري، والثاني شبابي بقيادة حمزة بن لادن، وهذه الوضعية المأزومة تفسر خفوت الآلة الإعلامية للقاعدة، ومن ثم التراجع في تمدد الآيديولوجية القتالية للتنظيم. أكثر من ذلك، تقول أطروحة التراجع، أن الجغرافيا القتالية للقاعدة، شهدت نوعا من السكونية، والانكفاء الذاتي للتنظيم الإرهابي وشبكاته. فقد انخفضت وتيرة الهجمات الإرهابية في نيجيريا، وباكستان وسوريا والعراق، والصومال وسيناء بمصر؛ وهذا التراجع أدى بدوره إلى انخفاض في نسبة وفيات العمليات الإرهابية بلغ 13 في المائة ما بين 2016 و2017، كما تبلغ نسبة الانخفاض سنة 2016، 22 في المائة مقارنة مع 2014.
من جانب آخر، ترى أطروحة التراجع أن الصراع بين «جيش فتح الشام»، «جبهة النصرة» سابقا مع التنظيمات الموالية لأيمن الظواهري؛ يعتبر مؤشرا جديدا على الأزمة الخانقة التي يعيشها تنظيم القاعدة في ثاني أكبر معقل له بعد أفغانستان.
وتعتمد كذلك أطروحة تراجع القاعدة على مؤشر مهم، وهو فقدان «القاعدة» لقيادات مهمة. فقد تلقى تنظيم «القاعدة» في جزيرة العرب ضربة قوية، بمقتل زعيمه ناصر الوحيشي بطائرة بلا طيار في حضرموت شرقي اليمن، منتصف 2015، وعيَّن قاسم الريمي (أبو هريرة) خلفا له. كما قتل أحد كبار قادة القاعدة في أراضي بلاد المغرب موسى أبو داود في مارس (آذار) 2018.
وبسوريا سنة 2016، فقدت «القاعدة» قيادات بارزة منها، حيدر كركان، والمصريين أبو الأفغان، وأحمد سلامة مبروك؛ وانضم إلى صفوف القتلى من التنظيم سنة 2017، التونسي محمد حبيب بوسعدون. وبأفغانستان، تعرض التنظيم لنزيف حقيقي، تمثل في فقدانه لقيادات بارزة، أهمها: مقتل سيف الله أختر بولاية غزني بداية 2017؛ كما قتل قاري ياسين المسؤول الكبير في التنظيم، 19 مارس من نفس السنة، بينما قتل القيادي القاعدي «حضرت عباس»، في مايو (أيار) 2018.
أما في الصومال فقد فقد تنظيم الشباب التابع للقاعدة عدة قيادات مهمة منها: علي محمد حسين أو علي جبل، وقيادي يدعى طيري، الرجل الثاني في الحركة في منطقة جبال غالغلا شمال شرقي البلاد في يوليو (تموز) 2017؛ كما فقد تنظيم الشباب الإرهابي زعيما أخرى، هو القيادي المدعو معلم ديرو في يوليو 2018.
ورغم كل هذه النكسات التي تعرضت لها شبكة القاعدة عالميا، فإن أطروحة التمدد، ترى أن التنظيم لم يمتص فقط الضربات التي وجهت له ولفروعه المختلفة؛ بل استطاع إعادة ترتيب بيته الداخلي، وتجاوز تنظيم داعش المتوحش. فقد استطاعت حركة الشباب الصومالية الموالية للقاعدة، العودة بقوة لمسرح الأحداث منذ بداية 2018؛ وأظهر التنظيم أنه فاعل رئيسي لا يمكن تجاوزه، وشن هذه السنة عشرات العمليات في العاصمة مقديشو، وصلت إلى استهداف، القصر الرأسي، وشخصيات من الحكومة، وقيادات الصف الأول في الجيش والاستخبارات.
تستند كذلك أطروحة التمدد والعودة القوية، لشبكة «القاعدة» على المسرح العالمي، إلى كون أعضاء التنظيم والمقاتلين وصل عددهم حاليا إلى عدة آلاف. وأنهم يخضعون بشكل مستمر لسياسة إعادة التوزيع الجغرافي وتبادل الخبرة الميدانية؛ وهو ما يزيد من قدرتهم على زعزعة الاستقرار في جغرافية واسعة تمتد من الشرق الأوسط، وأفريقيا، وأوروبا وروسيا، وجنوب آسيا، وجنوب شرقي آسيا. ووصلت القاعدة حاليا لنحو 24 فرعا مبايعا للظواهري. ومن ناحية عدد المقاتلين، فيمكن الحديث في سوريا على أكثر من 20 ألف مسلح موزعين عن تنظيمات مختلفة، لها ولاء تام للقاعدة؛ أو لها نفس القناعات الآيديولوجية، التي يتبناها تنظيم الظواهري. كما استطاع فرع التنظيم باليمن تجنيد نحو 4 آلاف مقاتل.
وتشير واحدة من أحدث الدراسات البحثية الأميركية، التي نشرها الباحثان بالمؤسسة، جيسن وارنر وإيلين شابن عن مركز مكافحة الإرهاب التابع للأكاديمية العسكرية الأميركية في ويست بوينت؛ أن تنظيم «الشباب»، شن منذ 18 سبتمبر (أيلول) 2006، إلى أكتوبر (تشرين الأول) 2017، على الأقل 155 عملية انتحارية نفذها 216 من أعضاء التنظيم، بمعدل 4 عمليات في الشهر. كما أن التنظيم شن في نفس الفترة، عشرات العمليات بالعبوات الناسفة، والاشتباك المباشر لعناصره مع القوات الصومالية والأفريقية.
وقد استمر هذا الخط التصاعدي للهجمات الإرهابية لتنظيم الشباب، ليشهد شهر يوليو 2018، هجومين على كل من وزارة الداخلية والقصر الرئاسي بمقديشو؛ وهو ما يعني أن التنظيم ما زال يتمتع بالقوة التي تؤهله، لزعزعة الاستقرار بالصومال وجواره. من جهة أخرى استطاعت بوكو حرام، التمدد وخلق علاقة متشابكة مع بعض التنظيمات النشطة في المحيط الجغرافي لبحيرة تشاد.
وهو ما ينذر بموجة جديدة من الإرهاب بأفريقيا، قد تقوده القاعدة؛ خاصة إذا ما تطور التواصل الحالي، إلى تعاون بين فروع التنظيم في غرب أفريقيا والساحل والصحراء، وتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي. ويبدو أن هذا التنظيم الإرهابي، في تطور مستمر، مستغلا بذلك الفراغ الأمني بالمنطقة؛ كما أن التنظيم أخذ يرفع بعض الشعارات الوطنية، ويخلق تحالفات قبلية موالية لآيديولوجية القاعدة. ومنذ بداية 2018 يسيطر بشكل شبه تام، على الطرق التجارية الصحراوية؛ كما يشرف على منح التراخيص لحفر الآبار لسكان المنشرين بالصحراء.
وتأتي الدعوة الأخيرة، من التنظيم لمقاتليه لاستهداف الشركات الأجنبية، لتفسر تقدم طرق وأهداف التنظيم؛ فقد سبق للتنظيم أن هاجم شركات أجنبية بالجزائر عاملة في مجال النفط وقتل العشرات من العمال. ويبدو أن فرع تنظيم الظواهري بالمغرب العربي الكبير، عاد للواجهة بعد ترتيب بيته الداخلي، وتوفر السلاح، واستقباله لعدد مهم من المقاتلين العائدين من سوريا والعراق. وقد اتخذ قرارا بفتح جبهة موسعة ضد المصالح الغربية بالمنطقة، مرورا بدول الساحل والصحراء. حيث يقول التنظيم في بيان له في 9 مايو 2018: «يأتي هذا البيان منابذة لكل الشركات والمؤسسات الغربية العاملة في المغرب الإسلامي (من ليبيا إلى موريتانيا) ومنطقة الساحل وإخطارا لها بأنها هدف مشروع للمجاهدين.
وتشير مجموعة من الأحداث والوقائع منذ مارس 2017، إلى عودة فعلية وقوية لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.
فعلى عكس التفكك الذي أصاب «تنظيم البغدادي» بالعراق وسوريا، والتنظيمات الموالية له بشمال أفريقيا؛ جمع الزعيم الطارقي إياد أغ غالي، الخميس 2 مارس 2017، في وحدة اندماجية، كلا من «جماعة أنصار الدين» و«جبهة تحرير ماسينا» و«إمارة منطقة الصحراء الكبرى» و«تنظيم المرابطين»، في تنظيم جديد باسم «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين». واختارت وثيقة الإعلان رؤية تنظيم القاعدة وقدمت البيعة لقيادة التنظيم أيمن الظواهري؛ وأكدت على الوفاء لأمير القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي أبو مصعب عبد الودود، وأمير حركة طالبان الملا هيبة الله.
عموما، يمكن القول إن أيمن الظواهري سن استراتيجية جديدة، تجمع بين المرونة واللامركزية، واعتماد مبدأ الشورى في قيادة التنظيم المركزي، والفروع المحلية؛ كما اعتمدت على الرموز التاريخية، والصلابة الآيديولوجية، في مواجهة «داعش»، مع ترك هذه الأخيرة تتعرض لقسوة المواجهة الدولية منذ 2014
- أستاذ زائر للعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط


مقالات ذات صلة

باكستان: جهود لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين

آسيا جندي باكستاني يقف حارساً على الحدود الباكستانية الأفغانية التي تم تسييجها مؤخراً (وسائل الإعلام الباكستانية)

باكستان: جهود لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين

الجيش الباكستاني يبذل جهوداً كبرى لتطهير المناطق الاستراتيجية على الحدود الأفغانية من المسلحين.

عمر فاروق (إسلام آباد)
أفريقيا وحدة من جيش بوركينا فاسو خلال عملية عسكرية (صحافة محلية)

دول الساحل تكثف عملياتها ضد معاقل الإرهاب

كثفت جيوش دول الساحل الثلاث؛ النيجر وبوركينا فاسو ومالي، خلال اليومين الماضيين من عملياتها العسكرية ضد معاقل الجماعات الإرهابية.

الشيخ محمد (نواكشوط)
أفريقيا سيدة في إحدى قرى بوركينا فاسو تراقب آلية عسكرية تابعة للجيش (غيتي)

تنظيم «القاعدة» يقترب من عاصمة بوركينا فاسو

أعلنت «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، الموالية لتنظيم «القاعدة»، أنها سيطرت على موقع عسكري متقدم تابع لجيش بوركينا فاسو.

الشيخ محمد ( نواكشوط)
أفريقيا رئيس تشاد يتحدث مع السكان المحليين (رئاسة تشاد)

الرئيس التشادي: سنلاحق إرهابيي «بوكو حرام» أينما ذهبوا

قال الرئيس التشادي محمد إدريس ديبي، في مقطع فيديو نشرته الرئاسة التشادية، إنه سيلاحق مقاتلي «بوكو حرام» «أينما ذهبوا، واحداً تلو الآخر، وحتى آخر معاقلهم».

الشيخ محمد (نواكشوط)
أفريقيا آثار هجوم إرهابي شنَّته «بوكو حرام» ضد الجيش التشادي (إعلام محلي)

«الإرهاب» يصعّد هجماته في دول الساحل الأفريقي

تصاعدت وتيرة الهجمات الإرهابية في منطقة الساحل الأفريقي، خصوصاً بعد أن أعلنت تشاد أن أربعين جندياً قُتلوا في هجوم إرهابي.

الشيخ محمد (نواكشوط)

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».