سمير أمين... مفكر «الأطراف المهمشة» في الجنوب

كان من أعلى الأصوات في نقد الإمبراطورية المعولمة

سمير أمين
سمير أمين
TT

سمير أمين... مفكر «الأطراف المهمشة» في الجنوب

سمير أمين
سمير أمين

أخيراً خسر سمير أمين (1931 - 2018)، هذا المصري المنحدر من قرية عزلاء في قلب دلتا النيل، العالم الاقتصادي والمفكر السياسي المصري - الفرنسي وأحد أهم منظري الماركسيّة، معركته الأخيرة مع السرطان يوم السبت الماضي - بعد أن قدّم في مجمل أعماله المنشورة ومحاضراته شبه منظومة نظريّة متكاملة لا تكتفي بتفسير العالم المعقد كما انتهينا إليه في عهد «خرف» الرأسماليّة - وفق تعبيره - بل وترسم طريقاً - كان يراها طويلة لكنها ممكنة - لتغييره نحو مستقبل أفضل للبشرية من خلال كسر ما كان يصفه كجدار فصل عنصري معولم بين «المركز» في الشمال و«الأطراف المهمشة» في الجنوب.
كان من أعلى الأصوات في نقد الإمبراطوريّة المعولمة، وأكثرها إثارة للجدل ليس مع الليبراليين - الذين مقتوه - فحسب، بل ومع الرّفاق الماركسيين الذين لم تشفع لهم ماركسيتهم من الوقوع في شباك المركزيّة الأوروبيّة - الغربية -. وهو رغم أنه كان من أهم أساتذة الاقتصاد السياسي على مستوى العالم أكاديمياً، فإن مسار حياته منذ تخرجه عام 1957 بدرجة الدكتوراه من جامعة «السوربون» المرموقة - فرنسا - كان مغرِقاً في التجارب العمليّة، قريباً من تجارب حركات التحرر الوطني والدّول التي ورثت الاستعمار الكولونيالي المباشر في القرن العشرين، بداية من تجربته مع مصر الناصريّة مكلَفاً بملف التخطيط لثلاث سنوات قبل افتراقه المرير عنها، ومن ثم مستشاراً لعدد من القادة الأفارقة في تنزانيا وأنغولا والسنغال، ولاحقاً كأحد المفكرين العالميين الأكثر قرباً من قيادة الحزب الشيوعي الصيني الحاكم إلى جانب رئاسته لمنتدى العالم الثالث.
صاغ أمين نقداً علمياً للمناهج الاقتصادية الليبرالية التي دمرت دول الجنوب، وسلمتها فريسة منهكة ليد مؤسسات المال والبنوك الدولية، لتعيث فيها خراباً وتكرس تبعيتها وخضوعها لمنظومة الرأسمالية المتأخرة، معتاشة على المنطق المختل لفكرة المساعدات الخيرية من أجل تنمية مستحيلة، كما فكك التكلّس الفكري الذي أصاب الماركسية الغربية، التي كانت تترنح في مواجهة سلبيات التجربة الستالينية وعقدة المركزية الأوروبية، وانتصار الإمبراطورية الأميركية الثقافي شبه الحاسم في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفسّر طبيعة التحالف الموضوعي بين حركات الإسلام السياسي - في آسيا وأفريقيا - ومركز النفوذ الإمبريالي الغربي.
كان أمين يرى أن المنظومة الرأسمالية المتمركزة في الغرب تفرض هيمنتها على العالم من خلال احتكارها للتكنولوجيا المتقدمة، وإدارة الموارد الطبيعية ورأس المال والإعلام وأسلحة الدّمار الشامل، وأن أي محاولة لتقدّم دول الجنوب - والبشريّة عامة - سيكون مكتوباً عليها الفشل المحتّم ما لم تُكسر هذه الاحتكارات الخمس، أو يستعاض عنها بأنظمة بديلة وموازية تقوم على أساس التعاون بين دول الجنوب - جنوب، وهو مع زملاء له من أمثال البروفسور الألماني أندريه جيرنر فرانك نظرّ لعالم منقسم بين مركز مهيمن وأطراف مهمشة، يكون دور الأخيرة فيها مقتصراً على إمداد العالم الأول (أميركا الشماليّة، أوروبا الغربية واليابان) بمستلزمات التنمية والنمو، دون أن يسمح لها هي ذاتها بتحقيق أي تنمية حقيقيّة.
عند أمين فإن تخلّف دول الجنوب المشهود ليس نتاج محدوديّة تشبيكها في منظومة الاقتصاد العالمي، بقدر ما هو حصيلة لازمة لارتباطها الشديد بتلك المنظومة كمجرّد جرم تابع. وهو يرى أن عمليّة نقل التصنيع الكثيف من «المركز» الغربي إلى «الأطراف» - أي دول العالم الثالث - لم تهدد أسس هيمنة المركز بقدر ما كرّستها، في الوقت الذي مكنت فيه لدول المركز من إضعاف طبقتها العاملة المنظّمة التي كانت خلال ثلثي القرن العشرين على الأقل مصدر تحدٍ للنخب الغربية الحاكمة.
يناقض المنهج الفكري لأمين كثيراً من الاتجاهات التي تأخذ حيزاً متزايداً في المشهد الثقافي الغربي كالهوس بقضايا البيئة مثلاً التي كانت تحديداً تقلقه بوصفها جدلاً للتوافق حول أفضل الوسائل لاستعادة سيطرة دول المركز على الموارد الطبيعة، لا لتحدي منطق السيطرة ذاك.
قد لا يكتفي منتج أمين الفكري بالوصف أو النقد التحليلي مهما تفوق فيه، بل ينتقل دائماً إلى رسم البدائل العمليّة الممكنة أمام دول الأطراف المهمشة، لا سيما بعد أن فقدت تلك الدول هامش المناورة في تفاوضها مع المركز بغياب المنظومة الاشتراكيّة بعد تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991. ويطرح هنا مساراً محدداً يُطلق عليه «فك الارتباط» أو الانفكاك الواعي من التشبيك المتعسّف التابعي النزعة مع منظومة الاقتصاد العالمي نحو اقتصاد مستقل يقوم على أشكال متفاوتة من تدخل القطاع العام لبناء اقتصاد منتج يكفل رفع سويّة الحياة بين السواد الأغلب من السكان المحليين أكثر من التصدير، والتحكم بحركة رأس المال من وإلى دول المركز في مواجهة المؤسسات الماليّة العالميّة التي هي مكانيزم العمل لخدمة المركز، وبناء أسواق ماليّة وتجاريّة مشتركة مع دول الجنوب الأخرى دون الحاجة للمرور عبر الغرب. وللحقيقة فإن رؤية أمين لكسر هيمنة المركز لم تكن يوماً لتكون من خلال ثورات عنفيّة حاسمة تنقل المجتمع إلى يوتوبيا اشتراكيّة في اليوم التالي، بقدر ما كانت نوعاً من طريق طويلة ورحلة بناء قد تكون مؤلمة نحو الغد الأكثر ضوءاً، وهي عنده الأمل الوحيد لاستجلاب هذا الغد المأمول.
لم يقع أمين وهو يتعاطى مع الغرب في شراك مركزيّة منعكسة من الأطراف هذه المرّة. فهو كان يرى أن استقلال دول الجنوب وتحالفها معاً في مواجهة المركز سيهيئ المناخ لإنقاذ المجموعة البشريّة كلّها من أنياب النظام الرأسمالي إذا تمكنت القوى العاملة في الشمال الغني من كسر احتكار برجوازيات الغرب الحديثة لمصلحة علاقات متوازنة مع دول الجنوب تغني الطرفين، وتسمح بنشل مليارات البشر من أوضاعهم الرثّة وحياتهم العديمة المعنى.
رحلته الفكريّة الطويلة الأشبه بأوديسة معاصرة كانت أساساً في الفضاء الثقافي الفرنسي بداية من تحصيله الدراسي في القاهرة، وانتهاء بتعليمه الجامعي العالي في العلوم السياسيّة والإحصاء والاقتصاد السياسي الذي تلقاه بالجامعات الفرنسيّة. وهو أثناء دراسته كان عضواً في الحزب الشيوعي الفرنسي قبل أن يتركه ممتعضاً من غلبة الدوغما السوفياتية المتصلبة. وحتى عندما ترك مصر عام 1970 بعد سنواته الثلاث مع الناصريين، فإنه ذهب إلى فرنسا وأنفق شطر عمره في دول أفريقيّة متحدثة بالفرنسيّة، لا سيما السنغال، حيث عاش ما يقرب من أربعة عقود. وهو كتب جلّ أعماله المنشورة العديدة بالفرنسيّة أساساً - ترجمت على نطاق واسع إلى الإنجليزية والإسبانيّة والعربيّة وعدة لغات حيّة أخرى -. مع ذلك، فإن أمين الإنسان والمفكر لم يسقط في تناقضات الهويّة وصراعات الفكر والهوية التي يقع فيها معظم مثقفي العالم الثالث الذين درسوا في الغرب، بل امتلك على الدّوام ذائقة نقديّة واستقلالاً فكريّاً سمحتا له بقراءة متحررة من المواقف المسبقّة والنظريّات المنزوعة من سياقات التاريخ والثقافة والجغرافيا التي تتداول بكثافة على يمين الفكر الغربي كما على يساره، ولذا يحق له بالفعل أن يكون، كما وصف نفسه تماماً، «ماركسيّاً خلاّقاً» يبدأ من ماركس لكنه لا ينتهي عنده أو عند لينين أو ماو تسي تونغ، بل هو يأخذ من أدواتهم النقديّة زاداً يبني منه تصوراً محدّثاً للعالم كما هو في عصر الرأسماليّة المتأخرة ليس لفهمه فحسب، بل والأهم من ذلك لتغييره.



«أبي سرجة»... فيلم وثائقي يُبرز رحلة العائلة المقدسة في مصر

إحدى الأيقونات في فيلم «كنيسة أبي سرجة» (يوتيوب)
إحدى الأيقونات في فيلم «كنيسة أبي سرجة» (يوتيوب)
TT

«أبي سرجة»... فيلم وثائقي يُبرز رحلة العائلة المقدسة في مصر

إحدى الأيقونات في فيلم «كنيسة أبي سرجة» (يوتيوب)
إحدى الأيقونات في فيلم «كنيسة أبي سرجة» (يوتيوب)

فوق المغارة التي لجأت إليها العائلة المقدسة خلال رحلتها في مصر، وتحديداً بالمنطقة المعروفة حالياً بمصر القديمة «مجمع الأديان»، بُنيت كنيسة القديسين سرجيوس وباخوس المعروفة بكنيسة «أبي سرجة» التي يبرزها فيلم وثائقي يحمل اسمها أنتجته مكتبة الإسكندرية.

الفيلم الذي يحمل عنوان «كنيسة أبي سرجة» يرصد إحدى المحطات المهمة التي استقرت فيها العائلة المقدسة في حصن بابليون، بعد لجوئها إلى مصر هروباً من بطش الحاكم الروماني في فلسطين.

ويأتي الفيلم ضمن سلسلة أفلام وثائقية بعنوان «عارف»، وتصل مدته إلى نحو 3 دقائق، ليقدم شرحاً مفصلاً لكل جوانب الكنيسة المعمارية وما تتضمّنه من فنون قبطية مميزة وأيقونات تدل على تاريخها الطويل وقيمتها التاريخية والروحية.

ويوضح مدير مركز توثيق التراث الطبيعي والحضاري في مكتبة الإسكندرية، المشرف على مشروع الأفلام الوثائقية، الدكتور أيمن سليمان، أن «كنيسة القديسين سرجيوس وباخوس، المعروفة بـ(أبي سرجة)، من أقدم الكنائس في مصر، وتشتهر بارتباطها العميق بتاريخ المسيحية في المنطقة».

الفيلم تضمن شرحاً مفصلاً للكنيسة بما تتضمنه من روائع الفن القبطي (لقطة من الفيلم على يوتيوب)

مضيفاً، لـ«الشرق الأوسط»: «سُمّيت الكنيسة على اسم الشهيدين سرجيوس وباخوس، وهما ضابطان رومانيان اعتنقا المسيحية في القرن الثالث واستشهدا دفاعاً عن إيمانهما، وبُنيت الكنيسة في القرن السابع الميلادي في عهد الخليفة الأموي عبد العزيز بن مروان، فوق المغارة التي مكثت فيها العائلة المقدسة تباركاً بالموقع؛ حيث كانت المغارة ملاذاً للسيدة العذراء مريم والسيد المسيح عليهما السلام ويوسف النجار، خلال رحلتهما إلى مصر».

وأكد سليمان أن الكنيسة «تتميز بعمارتها الفريدة وبنائها بالطوب الأحمر المحروق، على الطراز البازيليكي، وهو عبارة عن صالة عرضية تفتح على قاعة الكنيسة المقسمة بصفين من الأعمدة إلى 3 ممرات: الممر الأوسط وهو صحن الكنيسة، وممران جانبيان يُطلق عليهما الأجنحة، وفي النهاية هيكل الكنيسة ويحجبه عن قاعتها الحجاب الخشبي أو حامل الأيقونات أسفل هيكل الكنيسة، التي يقع في شرقها المكان الذي تبارك بالعائلة المقدسة، وبئر المياه التي استخدمتها السيدة العذراء طوال إقامتها، كما تحتضن الكنيسة كثيراً من الكنوز الأثرية، بالإضافة إلى مجموعة قيمة من الأيقونات والمخطوطات والمنسوجات».

لوحة أيقونية للقديسين (لقطة من الفيلم على يوتيوب)

وأعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية عن خطة لإحياء مسار العائلة المقدسة، خصوصاً بعد إدراج الرحلة على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «يونيسكو» في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2022. ويتضمّن المسار 25 نقطة على مسافة 3500 كيلومتر أقرّتها الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وتمرّ في 40 مدينة مصرية من سيناء إلى جنوب مصر.

ويأتي الفيلم التسجيلي «كنيسة أبي سرجة» بعد أفلام عدّة قدّمها مشروع «عارف» الذي يطمح لتقديم 100 فيلم وثائقي تتنوع بين التراث الحضاري والطبيعي من بينها «الكنيسة المعلقة»، و«الملك الذهبي توت عنخ آمون»، و«مصر القديمة»، و«المحميات الطبيعية»، و«المطبخ القديم»، و«حديقة الأورمان».