«الصيف الجميل»... رواية تكشف فساد الشريحة الفنية

جزء من ثلاثية تتناول المجتمع الإيطالي في ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي

«الصيف الجميل»... رواية تكشف فساد الشريحة الفنية
TT

«الصيف الجميل»... رواية تكشف فساد الشريحة الفنية

«الصيف الجميل»... رواية تكشف فساد الشريحة الفنية

صدرت عن «منشورات المتوسط» بميلانو رواية «الصيف الجميل» 1940 للروائي الإيطالي تشيزرِه باﭬيزِه، ترجمة كَاصد محمد، وهي الرواية الأولى من ثلاثية تحمل الاسم ذاته، إضافة إلى روايتي «الشيطان على التلال» 1948 و«بين نساء وحيدات» 1949. وقد فازت هذه الثلاثية بجائزة «ستريغا» أعرق وأرقى الجوائز الأدبية الإيطالية.
لم يعش باﭬيزِه (1908 - 1950) حياة طويلة بسبب الإحباطات النفسية، والخسائر العاطفية الممضة حيث تركته حبيبته الأولى التي اُعتقِل بسببها، ورفض أن يشي بها إلى السلطة الفاشية آنذاك، وحينما خرج من السجن عام 1936 وجدها قد اقترنت بشخص آخر. أما المرأة الثانية فهي الممثلة الأميركية كونستانس داولينغ التي التقاها عام 1947 لكنها سرعان ما هجرته وقفلت راجعة إلى بلادها تاركة إياه يتخبط في عزلة قاتلة أفضت به إلى الانتحار بجرعة كبيرة من الحبوب المنوِّمة.
تحتاج روايات باﭬيزِه إلى قراءة تأملية، فاحصة لأنها تزاوج بين المنحى الرمزي الذي لا يخلو من بعض الصعوبة أحياناً، والأسلوب النقدي الصارم الذي يفكِّك الواقع ويعيد صياغته من جديد على وفق رؤيته الفنية المطعّمة بحسٍ شعري عالٍ يمكن أن يتلمسه القارئ في غالبية قصصه ورواياته التي تركت تأثيرها الواضح على عمالقة الأدب الإيطالي حيث قال عنه إيتالو كالفينو إنّ «باﭬيزِه هو الكاتب الإيطالي الأهمّ، والأكثر عُمقاً، والأشدّ تعقيداً في زماننا، وليس من صعاب تواجهنا إلاّ وحذونا حذوه». أما إمبرتو إيكو فقد قال عنه: «كان باﭬيزِه أحد الكُتّاب الأساسيين الذين قرأتهم في مرحلة الشباب، وقد أثرّ بي بلا شك ليس من ناحية الأسلوب، ولكن من ناحية المخيلة الأدبية».
لا شك في أنّ كتابات باﭬيزِه عميقة ومعقدة لأنها مرصّعة بشذرات فكرية أو فلسفية، إن شئتم، ولكي نتجاوز هذا الإشكال علينا أن ندقق في كل التفاصيل الصغيرة التي تتعلق بالأنساق السردية لكل شخصية على انفراد. فرغم وجود شخصيات ثانوية كثيرة في رواية «الصيف الجميل» إلاّ أنّ التركيز منصبٌّ على جينيا وغويدو وأميليا ورودريغوس، فجينيا عاملة في مشغل خياطة، وغويدو، عسكري برتبه رقيب، ورسام في الوقت ذاته، ويتحدر من أصول قروية. أما أميليا فهي «موديل» لعدد من رسّامي مدينة تورينو. يحاول باﭬيزِه أن يلفت انتباه القرّاء إلى الطبقة الفنية المترفة أو الميسورة الحال في الأقل، لكنها فاسدة، ومنحرفة كما هو الحال مع الفنانِين الذين صادفناهم على مدار النص الروائي، فهم ينغمسون في رسم الفتيات والنساء العاريات مقابل مبالغ مادية ضئيلة، وأوهام فارغة. تتمحور ثيمة الرواية، بل الثلاثية برمتها، على الانتقال من مرحلة المراهقة والصبا إلى مرحلة النضج والبلوغ، وقد ركز الكاتب على شخصية جينيا ذات الستة عشر ربيعاً لكنها ما تزال طائشة، حمقاء في نظر أصدقائها المقرّبين، ومع ذلك فهي تعمل، وتكسب قوت يومها من كدّ اليمين، وعَرَق الجبين، وأكثر من ذلك فهي تعيل شقيقها سفيرينو، وتعدّ له الطعام كلما وجدت متسعاً من الوقت، لكن حياتها سوف تنقلب رأساً على عقب حينما تستدرجها صديقتها أميليا إلى عالمها الخاص في استوديوهات الفنانين الذين يرسمون الأجساد العارية ويبيعون لوحاتهم للأثرياء والموسرين من الطبقة البرجوازية. ورغم أنّ جينيا موقنة تماماً بأن غويدو لا يمكن أن يتزوجها ألبتة إلاّ أنها تخوض غمار تجربتها العاطفية الأولى معه، وتجد نفسها في مرسمه. ثم يتخلى عنها وكأنها مجرد ذكرى عابرة وَمَضت في أفق خياله ثم تلاشت إلى الأبد. إنّ ما يقدِّمه باﭬيزِه ليس أفول هذه العلاقة العاطفية التي كانت قائمة من طرف واحد، وإنما تصوير الإحساس بالخيبة، والشعور بالهزيمة التي يتعرض لها الكثير من الشباب في مرحلة المراهقة، وما ينجم عنها من تداعيات موجعة تظل لصيقة بالذاكرة الإنسانية ما دامت الأنفاس تصعد في الصدور.
تتمثل الشخصية الثانية بـ«غويدو» الذي عرفناه رقيباً في الجيش، ورسّاماً قادماً من ريف تورينو، ولعل باﭬيزِه أراد أن يدرس العلاقة بين الريف والمدينة لكنه أخرج هذه الشخصية من إطارها الريفي البسيط، وأدخلها في الإطار المعقد حينما جعله رسّاماً يرسم الطبيعة، والحياة الجامدة، واللوحات التشخيصية العارية لكن مشكلته الأساسية أنه يفضل رسم الطبيعة على الأشكال البشرية، بل إنه يجد سعادته المطلقة كلما ارتقى تلاً، أو وَلَج في غابة مكتظة الأشجار.
وبما أن الرواية تعالج فن الرسم في جانب كبير منها فلا بد لكاتب من طراز باﭬيزِه أن يلتقط ثيمة فنية تستقر في ذاكرة القرّاء. فحينما تطلب جينيا من غويدو أن يرسم لها بورتريها في بداية تعرّفها إليه يقول: «أنا لا أعرفكِ جيداً حتى الآن؛ لأرسم لك بورتريها. يجب علينا الانتظار». وفي فلسفة البورتريه لا يمكن للفنان أن يُمسِك بتجليات ملامح الوجه البشري ما لم يعرفه جيداً، فثمة «شيفرة» سرّيّة توصل الفنان إلى المعالم الغامضة للشخص الجالس في مرسمه.
كانت فكرة العذرية التي تدافع عن نفسها سائدة آنذاك، ويبدو أن باﭬيزِه كان سابقاً لعصره لذلك منح أبطاله فرصة للذهاب في المغامرات العاطفية إلى أقصاها فلا غرابة أن تلهث شخصياته وراء المتع العابرة في مجتمع خاض ويلات حربين مدمرتين هزّتا العالم برمته.
الشخصية الثالثة التي تستحق الوقوف عندها هي أميليا، الأكبر سناً، والأكثر خبرة من جينيا، وقد حاول باﭬيزِه أن يناقش ثيمة الموت من خلالها. ونتيجة لعلاقاتها المتعددة مع الرسامين أُصيبت بمرض الزهري، وهو مرض خطير في أربعينات القرن العشرين لكنها كانت محظوظة جداً حينما أخبرها الطبيب أنها سوف تتماثل للشفاء في الربيع القادم. ورغم تذبذب العلاقة الإشكالية بين أميليا وجينيا إلاّ أن الأخيرة طلبت منها أن تقودها حيثما تشاء، فهي التي أخذت بيدها منذ سنّ المراهقة وولجت فيها إلى مرحلة النضج العاطفي التي يتلمس فيها المرء طريقه إلى الملذات الجسدية والروحية في آنٍ معا.
أصدر باﭬيزِه عدداً من الروايات، والكتب الشعرية، والمذكرات من بينها «البيت على الهضْبة»، «السجن»، «القمر والمشاعل»، «الرفيق»، «الشاطئ»، «سيأتي الموت، عيناهُ عيناكِ»، «الأرض والموت»، «مهنة الحياة» إضافة إلى كتب أخرى في الترجمة، والنقد الأدبي، والحوارات الصحافية. وبسبب «خيانة» حبيبتيه المُشار إليهما سلفاً فقد ركزّ باﭬيزِه على ثيمات قاسية مثل «الإحساس بالوحدة» واعتبار «المرأة مجرد ثمرة جسدية» أو رمز لـ«اللامبالاة وعدم الإخلاص».
لا بد من الإشارة إلى أنّ باﭬيزِه قد ساهم مع كُتاب آخرين في إدخال الواقعية الإنجليزية - الأميركية في الأدب الإيطالي بعد قراءة العشرات من الروايات البريطانية والأميركية. وفي الوقت الذي كانت فيه الواقعية الجديدة مهيمنة على المشهد الأدبي والفني في إيطاليا غامر باﭬيزِه بالعودة إلى الأساطير، واستنطاق الميثولوجيا الإيطالية القديمة فاستحق «حوار مع ليوكو» لقب أشجع كتاب يصدر في أواسط الأربعينات من القرن الماضي.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».