«داعش» يستغل «الأطفال اللاجئين»

انتحاريون في أوروبا... جواسيس في المخيمات

أطفال «داعش» في سوريا والعراق نواة لمقاتلين في أوروبا («الشرق الأوسط»)
أطفال «داعش» في سوريا والعراق نواة لمقاتلين في أوروبا («الشرق الأوسط»)
TT

«داعش» يستغل «الأطفال اللاجئين»

أطفال «داعش» في سوريا والعراق نواة لمقاتلين في أوروبا («الشرق الأوسط»)
أطفال «داعش» في سوريا والعراق نواة لمقاتلين في أوروبا («الشرق الأوسط»)

أعاد تنظيم داعش الإرهابي اللعب بورقة تجنيد الأطفال أو ما يطلق عليهم «الأشبال»؛ لكن هذه المرة ليست في «أرض الخلافة المزعومة»؛ إنما في المخيمات، عبر الاعتماد على «الأطفال اللاجئين» تحت سن الرشد لتنفيذ مهام محددة، تمكنه من عمل تفجير هنا، أو عملية انتحارية هناك، يصورها ويعود بها لإفزاع العالم، بعد هزائم طالته في سوريا والعراق طوال الأشهر الماضية عصفت بحلم تمدده... مساعيه هذه المرة لتجنيد «الأطفال اللاجئين» للمساعدة في تنفيذ عمليات في أوروبا، ونقل المعلومات من داخل المخيمات.
وتضم مخيمات «اللاجئين» في الدول المجاورة لسوريا، الكثير من «اللاجئين الصغار» دون صحبة ذويهم، وهؤلاء باتوا هدفاً سهلاً لـ«داعش» لتجنيدهم وتسفيرهم إلى أوروبا.
خبراء من متابعي الحركات الأصولية أكدوا أن «داعش» يستغل الوجه البريء للأطفال للنفاذ إلى الأهداف بسهولة. قائلين لـ«الشرق الأوسط»: «إن عودة ظاهرة تجنيد الأطفال تشير إلى إفلاس يعاني منه التنظيم، وإنه لجأ إليها ليس فقط لتعويض نقص المقاتلين؛ بل لإظهار أن رسالته تجد تأييداً واسعاً بين الأطفال. لافتين إلى أن إقدام التنظيم على تجنيد الأطفال لتنفيذ مثل هذه المهام، نابع من كونهم أسهل في الإقناع من الكبار، الذين بدا لأغلبهم تضليل وكذب «فكرة الخلافة المزعومة».

خداع مادي
كلام الخبراء، اتفق مع دراسات كثيرة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أشارت إلى أن «داعش» استغل أزمة «اللاجئين» لتهريب خلايا إرهابية من سوريا إلى الدول الأوروبية، لتدريب من ينضم إليه من اللاجئين للقيام بعمليات إرهابية.
وأوضحت الدراسات أيضاً أن «داعش» عمل على استغلال مخيمات اللجوء التي تقيمها بعض الدول للاجئين على أراضيها في تجنيد عناصر تابعة له، سواء كانت من خلال المخيمات الإنسانية، أو طرق الهجرة إلى الدول الأوروبية أو الدول التي يكثر فيها اللاجئون، كما أنه يستغل سوء الأوضاع في بعض مخيمات اللجوء ويحاول إغواء الأهالي بضم أطفالهم إلى التنظيم مقابل حوافز مادية لخداعهم، وغالباً ما يستخدم الأطفال كجواسيس بين «اللاجئين».
ويستخدم «داعش» أساليب مختلفة في تجنيد الصغار، حيث يستغل إهمال الغرب لـ«اللاجئين» ليقدم نفسه كمدافع عنهم، ويزرع الكراهية نحو الغرب في عقول الأطفال.
ويشار إلى أن إغراءات التنظيم للصغار بدأت في سوريا والعراق، حيث منح الصغار السطوة والسلاح... أما في المخيمات فقدم لهم الطعام لاستمالتهم في البداية، ثم وفر لهم الدعم المالي لتأمين سفرهم لأوروبا عبر شبكات التهريب.

تخوف الغرب
وما زال الغرب متخوفاً من أبناء المقاتلين الأوروبيين الذين كانوا في صفوف «داعش» بسوريا والعراق... فـ«اللاجئون» الذين يصلون إلى أوروبا هرباً من جحيم أنظمتهم أو من الأوضاع السيئة، يجدون أمامهم جحيم التنظيمات الإرهابية، التي تراهن عليهم، للانضمام إليها وتنفيذ مخططاتها.
وتحولت مخيمات «اللاجئين» في الآونة الأخيرة إلى «قنابل على وشك الانفجار»، بعدما نجحت الجماعات والتنظيمات الإرهابية في اختراقها واستقطاب الكثير من الموجودين بداخلها وإقناعهم بالانضمام إلى صفوفها؛ ولعل تنامي أعداد اللاجئين؛ خاصة الفارين من بؤر الصراع، جعلهم عرضة للوقوع تحت تأثير الأفكار المتطرفة التي يعتنقها «الإرهابيون»، وبالتالي إقناعهم بتنفيذ هجمات انتحارية.
وسبق أن حذر تقرير لمنظمة «كويليام» للأبحاث في بريطانيا العام الماضي، من أن «داعش» يسعى لتجنيد أطفال في صفوفه عن طريق تمويل وصولهم إلى أوروبا من دون مرافقين. مشيرة إلى اختفاء مئات من طالبي اللجوء تحت عمر 18 سنة بعد دخولهم لدول أوروبية مهاجرين... وتشير الإحصاءات الدولية إلى أن هناك ما يقرب من 20 مليون لاجئ، أكثر من نصفهم تحت سن الـ18، أي في سن الطفولة.

إفلاس داعشي
وقال الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتي مصر، مدير مرصد دار الإفتاء، إن عودة ظاهرة تجنيد الأطفال من قبل «داعش» تشير لإفلاس يعاني منه التنظيم، لافتاً إلى أن التنظيم لجأ إلى هذه «الحيل» ليس فقط لتعويض نقص المقاتلين؛ بل لإظهار أن رسالة التنظيم تجد تأييداً بين الأطفال على غير الحقيقة.
وأضاف: «إن التنظيم يسعى من خلال هذا المخطط إلى ربط أجيال جديدة به، والحفاظ على أفكاره المتطرفة باقية حتى وإن رحل كبار قادته، إذ يراهن على هؤلاء الأطفال أن يصبحوا مقاتلين مدربين على مستوى رفيع في المستقبل، لا سيما أن حداثة سنهم تعطي التنظيم فرصة قوية لتنشئتهم على أفكاره ومعتقداته الدينية والقتالية».
الدراسات المصرية أكدت أن «التنظيم الإرهابي عرض على (المهربين) مبالغ مالية ضخمة مقابل عمليات تجنيد الأطفال للعبور إلى أوروبا وتنفيذ عمليات انتحارية محتملة». وصنفت الدراسات «الأطفال اللاجئين» حسب خطورتهم لعدة فئات، الفئة الأولى هم، الأطفال دون 6 سنوات (الذين ولدوا في أرض الخلافة المزعومة)، وهؤلاء لا يشكلون أي خطر حقيقي على المجتمع؛ لكن يتعين احتواؤهم والتعاطي معهم بطرق خاصة، نظراً لما عانوه من مخاطر وتهديدات في سنوات عمرهم الأولى.

مشاهد مفزعة
أما الفئة الثانية وفق الدراسات فهم، الأطفال فوق 6 سنوات إلى 12 سنة، الذين ذهبوا إلى سوريا والعراق مع ذويهم وتشربوا الفكر الإرهابي الداعشي، فهؤلاء قد يكونون جيلاً جديداً من المجندين لصالح «داعش»، ويمكن تحييد هذه الفئة من خلال برامج تأهيلية نفسية واجتماعية وثقافية.
في حين أن الفئة الثالثة، وتضم الأطفال من 12 سنة إلى 18 سنة، هي الأخطر، التي ربما انخرطت في معارك «داعش» بسوريا والعراق، وأخضعت فعلاً لعملية «غسيل أدمغة»، وهؤلاء ينبغي أن توليهم الأجهزة الأمنية نوعاً من الرعاية التأهيلية المتخصصة، وأن تأخذ بعين الاعتبار ظروفهم النفسية والاجتماعية.
وسبق لـ«داعش» أن أفزع العالم بمشهد درامي في فبراير (شباط) عام 2016 بطله طفل (11 عاماً) في ريف حلب شمال سوريا، بعدما احتضن أباه وتسلق سيارة محملة بالمتفجرات بعد أن علمه والده كيف يقودها؟، ومضى بعيداً وفجر نفسه في مهمة انتحارية... فضلاً عن مشاهد إعدام الأطفال لأشخاص اتهمهم التنظيم بالجاسوسية، على حد زعمه.
ويشار إلى أن «داعش» كان يُجبر الأطفال على مشاهدة تسجيلات فيديو وهم يشاركون في قتل سجناء، وفي إحدى التسجيلات المصورة شارك 5 أطفال أعطى التنظيم 4 منهم مسدسات لقتل السجناء، فيما أعطى الخامس سكيناً لنحر سجين آخر. ويقول المراقبون إن «داعش» دأب على إرسال الأطفال في مهام صادمة للعالم الخارجي، ليؤكد سيطرته على المشهد «الجهادي».

كُتب الدواعش
وأكد نجم، أن التنظيم استغل في وقت سابق النزعة الدينية لدى الصبية ورغبتهم في الشهادة والفوز بالجنة، وحولهم لأشخاص سطحيين متسرعين متهورين لا يستطيعون التمييز بين الصواب والخطأ... وهذا ما ظهر جلياً في العمليات التفخيخية والتفجيرية التي قام بها الأطفال من قبل. لافتاً إلى أن إقدام التنظيم على تجنيد الأطفال لتنفيذ المهام نابع من كونهم أسهل في الإقناع من الكبار، الذين بدا لأغلبهم تضليل وكذب التنظيم.
من جانبه، قال الدكتور خالد الزعفراني، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن عودة استخدام «داعش» للأطفال في تنفيذ مخططاته وهجماته، سواء تلك التي تصنف بالانتحارية أو التي توظفهم داخل المخيمات، هو مؤشر خطير جداً، مضيفاً: «إن الطفل وجه برئ يُمكنه النفاذ إلى الأهداف بسهولة، ولا يحتاج إلى تدريب، مجرد تلقين فقط لتنفيذ أي عملية لا يعرف خطورتها».
ويؤكد المراقبون، أن «كُتب التعليم المدرسية الخاصة بـ(داعش) التي كانت تُدرس في سوريا والعراق، استخدمت أمثلة الحرب في المسائل الحسابية، وسلطت الضوء في كُتب التاريخ على الغزوات، أما كُتب اللغة الإنجليزية تضمنت كلمات مثل «جيش وقنبلة».

جيل الأشبال
واستعان «داعش» في مايو (أيار) الماضي، بالأطفال لتنفيذ عمليات ضربت إندونيسيا، وبالتحديد في منطقة سورابايا، حيث شارك الأطفال أسرهم في خوض هذه العمليات التي استهدفت ثلاث كنائس.
ويشار إلى أن جيل «أشبال الخلافة» الذي أعده «داعش» في سوريا والعراق، لم يعرف سوى الإجابة على سؤالين فقط، كيف تقتل عدوك؟، وكيف تقدم الولاء المطلق للقائد؟. وتشير تقارير دولية إلى أن تنظيم داعش في سوريا والعراق ضم معسكرات لـ«أشبال الخلافة» جرى فيها إعداد نفسي وعقائدي مدروس قام على مبدأ التكرار وزرع الفكرة في عقل الطفل، فعندما كان يرى كل طفل ما يجري في مسارح العمليات، كان يردد «أريد أن أصبح انتحارياً»... والهدف الاستراتيجي والبصري الأول في الدروس التي قدمت للأطفال عملت على «غسل الأدمغة».

غسل الأدمغة
وقال الزعفراني، إنه في سبيل تجنيد الصغار عمل التنظيم على «غسل الأدمغة» ونزع معالم الرحمة من قلوبهم في معسكرات مغلقة تلقوا فيها مبادئ التنظيم، وكان يلهب حماسهم بالأناشيد «الجهادية»، والتدريب على حمل السلاح واستخدامه باحتراف، ولبس الأحزمة الناسفة والقيام بالأعمال التفجيرية المنفردة.
وجدير بالذكر أن «داعش» كان يُجند الأطفال في سوريا والعراق بالقوة، وحتى الآن لم يعرف العدد الحقيقي للأطفال المجندين لديه... وفي الوقت الذي يسجل «داعش» تراجعاً في العراق وسوريا، تتخوف الدول الغربية من الأجيال الداعشية القادمة، التي تربت وغسلت أدمغتها بعقائد التنظيم لتأمين استمراريته مستقبلاً، الأمر الذي دعا الدول إلى تحديد العدد المسموح به في إطار لا يشكل خطورة على كيانها.
ويقول مراقبون إن «داعش» يستفيد من كون «اللاجئين» أشخاصاً غير معروفين لدى أجهزة الأمن، ليدس عناصره الصغيرة بينهم، دون أن يكون لأي منهم معلومات مسبقة أو سجل إرهابي، حول طبيعة نشاط هذه الخلايا متناهية الصغر المندسة بين «اللاجئين» في المخيمات.
في ذات الصدد، حذر الدكتور محمود عز الدين، أستاذ القانون الدولي، من أن هؤلاء الأطفال قد يكونون بعيدين عن مراقبة أجهزة الأمن والاستخبارات في الدول، وعدم وجود سجل جنائي لهم، قد يساعدهم في تنفيذ أي عملية إرهابية، لافتاً إلى أنه يتم استغلال الصغار أيضاً في أعمال التجسس من خلال عمليات الاستطلاع وجمع المعلومات بعدما تدربوا عليها من قبل.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.