دافع عن نفسك لكن احترم خصمك

كتاب فرنسي تعليمي عن «اللاعنف»

دافع عن نفسك لكن احترم خصمك
TT

دافع عن نفسك لكن احترم خصمك

دافع عن نفسك لكن احترم خصمك

أصدر المركز القومي للترجمة كتابا صغير الحجم (62 صفحة) بعنوان «اللاعنف» لصاحبه المؤرخ والنفساني جاك سمولان، مدير في المعهد الوطني للأبحاث العلمية، التابع لمعهد الدراسات السياسية في باريس، ومؤسس الموسوعة الإلكترونية للعنف المستشري، وقد نقلته إلى العربية إيناس صادق.
وكان الكتاب قد صدر بالفرنسية بعنوان هو: «اللاعنف مفسر لبناتي» عام 2000. وواضح من العنوان، أنه موجه للناشئة بقصد تربوي يسعى إلى تبسيط مبادئ اللاعنف وجعلها في المتناول، وهو ما يفسر لنا طغيان الأمثلة ولغة الحوار والتساؤل وكأننا في قاعة للدرس.
يطرح الكتاب مجموعة من الأسئلة الموجهة من قبيل: ماذا أفعل إذا اعتدى علي شخص معين؟ وماذا نفعل تجاه الابتزاز أو التهديد في المدرسة؟ كيف نجابه التحرش الجنسي؟ والعنف ضد الصغار؟ وكذلك ماذا نصنع إذا ما وجدنا أنفسنا أمام «وضع عنصري»؟
إن أطروحة المؤلف واضحة من البداية، وهي أنه علينا أن نسلك طريق عدم العنف وهو ليس أبدا السلبية كما قد يفهم البعض، بل هو أسلوب حياة وطريقة للتصرف يهدفان إلى تسوية الخلافات والنضال ضد الظلم ومحاولة لإقامة سلام دائم من خلال احترام الخصم.
بداية يفرق المؤلف بين العنف واللاعنف، فإذا كان الأول يجعلنا نرى فورا ما هو: ضربات تنطلق، قنابل تتفجر، دم يسيل... أي كل ما يمكن أن يؤدي إلى إلغاء الآخر، وفي نهاية الأمر إلى موته ليس فقط موته الجسدي، بل موت ذاته العميقة، أي العمل على تشييئها واستغلالها والدوس على كرامتها... إذا كان هذا هو العنف فإن اللاعنف لا يثير ضجة أبدا، فهو لا مرئي. وهنا يحاول المؤلف أن يصحح تلك الفكرة السائدة التي ترى في غير العنيف ضعفا وجبنا وقلة شجاعة، بحيث يغدو اللاعنيف شخصا خياليا وعاجزا عن القتال ويقبل بسهولة أن يداس على كرامته. المؤلف يؤكد على العكس تماما، فعدم العنف لا يعني السلبية بل هو نشاط وفاعلية تستخدم فيها الحياة للفوز في مقابل العنف الذي يختار الموت، فرسالة اللاعنف الأساسية هي: «دافع عن نفسك لكن احترم خصمك» وهي عملية شاقة وصعبة وتحتاج إلى دربة ومران شديدين، فبالاحترام تفرض نموذجا على الآخر.
يميز المؤلف أيضا ما بين القوة والعنف ويرى بأنه حتى الأطفال لديهم القدرة على التفرقة هذه، فحينما نرى رجلا ونقول إنه قوي، فهو مثلا مفتول العضلات، قادر على حمل الأثقال، ولكن ليس بالضرورة أن يكون عنيفا، أما العنف فهو قوة لكن مؤذية، جارحة أو قاتلة، كرجل سكير يضرب زوجته، والأمر نفسه يقال عن شخص بروح قتالية، فهو يستخدم كل طاقته وقوته للتقدم في حياته للمنافسة في الرياضة أو العمل، ولكن دون عنف، فهو لا يسعى إلى سحق الآخرين إلى درجة يمكن بحسب جاك سمولان أن نتحدث عن «القتالية غير العنيفة».
ويميز المؤلف أيضا بين العدوانية والعنف والتي تختلط عند البعض، فإن يغضب الإنسان أو يتفوه بألفاظ فظة... فهذا لا يعني أنه عنيف، بل هو تعبير عن سخط أو هو طريقة نقول من خلالها: إننا لم نعد نتحمل وقد طفح الكيل.
إن المؤلف وهو يحاور بناته ويجيب عن أسئلتهن لا ينسى أن يقدم أمثلة مشهورة وناجحة استطاعت بنهج اللاعنف، أن تحصل على مكاسب كبيرة جدا، وهنا نذكر نضال القس مارتن لوثر كنغ من أجل الحد من عنصرية البيض ضد السود بأميركا، إذ لم يكن من حقهم الاختلاط بالبيض في الحافلات ومفروض عليهم الجلوس في الأماكن الأخيرة وترك الأمامية، والأمر نفسه كان في ولوج بعض المطاعم أو المقاهي فهي كانت حكرا على البيض، إلى درجة أنك تجد لافتات مكتوب عليها: «ممنوع على السود والكلاب». هذه العنصرية القاسية تمت مواجهتها عام 1951 بهدوء وذلك بمقاطعة الحافلات ولو بالسير كيلومترات كثيرة، والاجتهاد في عدم الانتقام والصبر، وفعلا كانت 14 شهرا كافية لتعلن المحكمة بطلان قانون التمييز بين البيض والسود. ولم يكتف بهذا المثال فقط بل ذكر أمثلة أخرى كمسيرة الملح ضد الاستعمار الإنجليزي عام 1930 التي أعلنها الهندي المهاتما غاندي صاحب فلسفة اللاعنف بامتياز والتي تسمى «الساتياغراها» وأيضا مسيرة المغاربة بفرنسا عام 1983 وأمثلة أخرى كثيرة.
يبقى الجميل في الكتاب هو تقديمه لوصفات للتصرف في حال تعرض الشخص لعنف الآخرين وكمثال على ذلك الابتزاز من طرف الآخرين، فالمخرج يكمن في كسر قانون الابتزاز الذي ليس هو إلا «الصمت» فعلى الفور لا ينبغي الاستسلام للمبتز، بل العمل على البوح السريع لشخص نثق به، لكي لا نبقى رهينة له، وألا نضع أنفسنا في موقف الضحية أو كبش الفداء.
إن الكتاب عموما غني، رغم صغره وفيه إجراءات عملية تسعف في الحد من العنف والحصول على ما نبتغيه بسلم.



سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت
TT

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

سوزانا كلارك... توّجوها واحدةً من أعظم روائيي جيلها ثم اختفت

قبل عشرين عاماً، خاض محرر في دار «بلومزبري للنشر» مخاطرة كبيرة إزاء كتاب غير عادي للغاية. فهي رواية خيالية أولى لسوزانا كلارك، تدور أحداثها في إنجلترا بالقرن التاسع عشر، وتحكي قصة ساحرين متنازعين يحاولان إحياء فنون السحر الإنجليزي المفقود. كانت المخطوطة غير المكتملة مليئة بالهوامش المعقدة التي تشبه في بعض الحالات أطروحةً أكاديميةً حول تاريخ ونظرية السحر. وكانت مؤلفة الكتاب سوزانا كلارك محررة كتب طهي وتكتب الروايات الخيالية في وقت فراغها.

أطلقت «جوناتان سترينج والسيد نوريل»، على الفور، سوزانا كلارك واحدةً من أعظم كُتاب الروايات في جيلها. ووضعها النقاد في مصاف موازٍ لكل من سي. إس. لويس وجيه. أر. أر. تولكين، وقارن البعض ذكاءها الماكر وملاحظاتها الاجتماعية الحادة بتلك التي لدى تشارلز ديكنز وجين أوستن. التهم القراء الرواية التي بِيع منها أكثر من أربعة ملايين نسخة.

تقول ألكساندرا برينغل، المحررة السابقة في «دار بلومزبري»، التي كُلفت بطباعة أولى بلغت 250 ألف نسخة: «لم أقرأ شيئاً مثل رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) في حياتي. الطريقة التي خلقت بها عالماً منفصلاً عن عالمنا ولكنه متجذر فيه تماماً كانت مقنعة تماماً ومُرسومة بدقة وحساسية شديدتين».

أعادت الرواية تشكيل مشاهد طمست الحدود مع الخيال، مما جعلها في القائمة الطويلة لجائزة «بوكر» وفازت بـ«جائزة هوغو»، وهي جائزة رئيسية للخيال العلمي والفانتازيا. وبسبب نجاح الرواية، نظمت جولات لها عبر الولايات المتحدة وأوروبا، ومنحتها «دار بلومزبري» لاحقاً عقداً ضخماً لرواية ثانية.

ثم اختفت كلارك فجأة كما ظهرت. بعد فترة قصيرة من إصدار الرواية، كانت كلارك وزوجها يتناولان العشاء مع أصدقاء بالقرب من منزلهما في ديربيشاير بإنجلترا. وفي منتصف الأمسية، شعرت كلارك بالغثيان والترنح، ونهضت من الطاولة، وانهارت.

في السنوات التالية، كافحت كلارك لكي تكتب. كانت الأعراض التي تعاني منها؛ الصداع النصفي، والإرهاق، والحساسية للضوء، والضبابية، قد جعلت العمل لفترات طويلة مستحيلاً. كتبت شذرات متناثرة غير متماسكة أبداً؛ في بعض الأحيان لم تستطع إنهاء عبارة واحدة. وفي أدنى حالاتها، كانت طريحة الفراش وغارقة في الاكتئاب.

توقفت كلارك عن اعتبار نفسها كاتبة.

نقول: «تم تشخيص إصابتي لاحقاً بمتلازمة التعب المزمن. وصار عدم تصديقي أنني لا أستطيع الكتابة بعد الآن مشكلة حقيقية. لم أعتقد أن ذلك ممكن. لقد تصورت نفسي امرأة مريضة فحسب».

الآن، بعد عقدين من ظهورها الأول، تعود كلارك إلى العالم السحري لـ«سترينج ونوريل». عملها الأخير، رواية «الغابة في منتصف الشتاء»، يُركز على امرأة شابة غامضة يمكنها التحدث إلى الحيوانات والأشجار وتختفي في الغابة. تمتد الرواية إلى 60 صفحة مصورة فقط، وتبدو مقتصدة وبسيطة بشكل مخادع، وكأنها أقصوصة من أقاصيص للأطفال. لكنها أيضاً لمحة عن عالم خيالي غني لم تتوقف كلارك عن التفكير فيه منذ كتبت رواية «سترينج ونوريل».

القصة التي ترويها كلارك في رواية «الغابة في منتصف الشتاء» هي جزء من روايتها الجديدة قيد التأليف، التي تدور أحداثها في نيوكاسل المعاصرة، التي تقوم مقام عاصمة للملك الغراب، الساحر القوي والغامض الذي وصفته كلارك بأنه «جزء من عقلي الباطن». كانت مترددة في قول المزيد عن الرواية التي تعمل عليها، وحذرة من رفع التوقعات. وقالت: «لا أعرف ما إذا كنت سوف أتمكن من الوفاء بكل هذه الوعود الضمنية. أكبر شيء أكابده الآن هو مقدار الطاقة التي سأحصل عليها للكتابة اليوم».

تكتب كلارك على طريقة «الغراب» الذي يجمع الأشياء اللامعة. وتصل الصور والمشاهد من دون سابق إنذار. تدون كلارك الشذرات المتناثرة، ثم تجمعها سوياً في سردية، أو عدة سرديات. يقول كولين غرينلاند، كاتب الخيال العلمي والفانتازيا، وزوج كلارك: «إنها دائماً ما تكتب عشرات الكتب في رأسها».

غالباً ما يشعر القارئ عند قراءة رواياتها وكأنه يرى جزءاً صغيراً من عالم أكبر بكثير. حتى كلارك نفسها غير متأكدة أحياناً من القصص التي كتبتها والتي لا توجد فقط إلا في خيالها.

تقول بصوت تعلوه علامات الحيرة: «لا أتذكر ما وضعته في رواية (سترينج ونوريل) وما لم أضعه أحب القصص التي تبدو وكأنها خلفية لقصة أخرى، وكأن هناك قصة مختلفة وراء هذه القصة، ونحن نرى مجرد لمحات من تلك القصة. بطريقة ما تعتبر رواية (جوناتان سترينج والسيد نوريل) كخلفية لقصة أخرى، لكنني لا أستطيع أن أقول إنني أعرف بالضبط ما هي تلك القصة الأخرى».

في الحوار معها، كانت كلارك، التي تبلغ من العمر 64 عاماً ولديها شعر أبيض لامع قصير، تجلس في غرفة المعيشة في كوخها الحجري الدافئ، حيث عاشت هي والسيد غرينلاند منذ ما يقرب من 20 عاماً.

ويقع منزلهما على الامتداد الرئيسي لقرية صغيرة في منطقة بيك ديستريكت في دربيشاير، على بعد خطوات قليلة من كنيسة صغيرة مبنية بالحجر، وعلى مسافة قصيرة سيراً على الأقدام من حانة القرية التي يزورونها أحياناً. ويساعد هدوء الريف - حيث لا يكسر الصمت في يوم خريفي سوى زقزقة الطيور وثغاء الأغنام بين الحين والآخر - كلارك على توجيه أي طاقة تستطيع حشدها للكتابة.

في يوم رمادي رطب قليلاً في سبتمبر (أيلول)، كانت كلارك تشعر بأنها على ما يرام إلى حد ما، وكانت قد رفعت قدميها على أريكة جلدية بنية اللون؛ المكان الذي تكتب فيه أغلب أوقات الصباح. كانت تحمل في حضنها خنزيراً محشواً، مع ثعلب محشو يجاورها؛ ويلعب كل كائن من هذه المخلوقات دوراً في رواية «الغابة في منتصف الشتاء». تحب أن تمسك حيواناتها المحشوة أثناء العمل، لمساعدتها على التفكير، وكتعويذة «لدرء شيء ما لا أعرف ما هو. يفعل بعض الناس أشياء كالأطفال، ثم مع التقدم في العمر، يتخلون عن الأشياء الطفولية. أنا لست جيدة للغاية في ذلك».

نظرت إلى الخنزير وأضافت: «لا أرى حقاً جدوى في التقدم بالعمر».

ثم استطردت: «أكبر شيء يقلقني هو كم من الطاقة سأحتاج للكتابة اليوم؟».

وُلدت سوزانا كلارك في نوتنغهام عام 1959، وكانت طفولتها غير مستقرة، إذ كان والدها، وهو قس مسيحي، يغير الكنائس كل بضع سنوات، وانتقلت عائلتها ما بين شمال إنجلترا وأسكوتلندا. في منزلهم البروتستانتي، كان إظهار العواطف غير مرغوب فيه؛ ولذلك نشأت كلارك، الكبرى من بين ثلاثة أبناء، على الاعتقاد بأن التقوى تعني أنه «ليس من المفترض أن تفعل في حياتك ما يجعل منك إنساناً مميزاً»، كما تقول.

*خدمة: «نيويورك تايمز»