«المد الإيراني» يثير استنفاراً في موريتانيا

سفارة طهران تمول جمعيات «مشبوهة» وتوفر منحاً للدراسة في «الحوزات»

الشرطة الموريتانية تغلق مداخل السفارة الفرنسية في نواكشوط عقب هجوم إرهابي في 2009 (أ.ف.ب)
الشرطة الموريتانية تغلق مداخل السفارة الفرنسية في نواكشوط عقب هجوم إرهابي في 2009 (أ.ف.ب)
TT

«المد الإيراني» يثير استنفاراً في موريتانيا

الشرطة الموريتانية تغلق مداخل السفارة الفرنسية في نواكشوط عقب هجوم إرهابي في 2009 (أ.ف.ب)
الشرطة الموريتانية تغلق مداخل السفارة الفرنسية في نواكشوط عقب هجوم إرهابي في 2009 (أ.ف.ب)

عادت الأجواء إلى طبيعتها في حي «دار النعيم» بالعاصمة الموريتانية نواكشوط، منذ أن وضعت وزارة الشؤون الإسلامية يدها على المسجد الذي ظل لسنوات محل توجس من طرف السكان، وكانت خطب إمامه تثير الكثير من اللغط والتخاصم كل أسبوع، لقد كان القائمون على المسجد يعتبرونه أول وأكبر حسينية في موريتانيا، وتشرف السفارة الإيرانية في نواكشوط على تمويله عبر جمعية مشبوهة.
كانت تلك هي بداية استراتيجية حكومية في موريتانيا، الهدف منها الحد من المد الإيراني الذي أصبح يشكل خطراً حقيقياً على تماسك المجتمع الموريتاني، على حد تعبير مصدر رسمي قال لـ«الشرق الأوسط»، إن زمن التغاضي عن أنشطة الإيرانيين في موريتانيا «قد ولى إلى غير رجعة».
وأضاف المصدر ذاته، الذي فضل حجب هويته، أن موريتانيا «لن تقبل بأي نشاط من شأنه أن يهدد أمنها الداخلي، كما لن تقبل بأي خطط لتغيير مذهبها المالكي المتسامح والوسطي، ولن تسمح بالتأثير على طبيعة مجتمعها المسالم». وأوضح المصدر، أن «الحكومة والجهات الأمنية مطلعة على التفاصيل كافة بخصوص النشاط الإيراني في البلاد، وسوف يتم تجفيف منابع هذه الأنشطة».
وبدأت الاستراتيجية الموريتانية بمصادرة «مجمع الإمام علي ابن أبي طالب» في العاصمة نواكشوط؛ وذلك بسبب ارتباطه المشبوه بالسفارة الإيرانية، كما سبق وأن وجهت السلطات الموريتانية تحذيرات كثيرة إلى القائمين على المجمع الذي يضم مسجداً وبعض المنشآت الدينية، في ظل أنباء عن تحويله من طرف بعض الشخصيات المشبوهة إلى «حسينية»، هي أول حسينية في موريتانيا، مع رواج أنباء تتحدث عن تأسيس «حسينيات» أخرى في مناطق من العاصمة نواكشوط تعمل «بشكل سري»، وتسير من طرف أشخاص مرتبطين بالسفارة الإيرانية.
عزلت وزارة الشؤون الإسلامية، الوصية على المساجد والمنشآت الدينية في موريتانيا، إمام «مجمع علي بن أبي طالب»، ومنعته من مزاولة أي نشاط ديني في البلاد، كما وضعته تحت المراقبة الأمنية لفترة غير محددة، في المقابل قامت بتعيين إمام جديد للمجمع، كما فتشت بعثة من الوزارة المجمع وتجولت في مختلف أجنحته، وجمعت المقتنيات والوثائق كافة العائدة إلى «جمعية آل البيت» التي يتبع لها المجمع، وهي جمعية مرتبطة بالسفارة الإيرانية في نواكشوط، ولديها علاقات مشبوهة مع «حزب الله» اللبناني، يقودها شخص يدعى «بكار ولد بكار» سبق أن سافر مرات عدة إلى إيران والتقى مسؤولين وقيادات في طهران.
وحول مدى جدية الخطر الذي تمثله أنشطة الإيرانيين في موريتانيا، قال الأستاذ الجامعي والدكتور عبد السلام ولد حرمه، في حديث مع «الشرق الأوسط» شارحاً «نحن نجزم ونؤكد بما لدينا من قرائن وأدلة، وما لدينا من حقائق في التاريخ وتجاربه، أن إيران لديها مشروع يشكل خطراً حقيقياً على موريتانيا، وعلى شبه المنطقة في غرب أفريقيا». وأضاف ولد حرمه، الذي يرأس حزباً سياسياً معارضاً، أن «المشروع الإيراني في موريتانيا يجسد أطماعها التي تتمثل في شهوة السيطرة والتحكم، ووضع اليد على بنية المجتمعات الإسلامية، مستغلة في ذلك طبيعة المذهب الزيدي الذي تعتبر نفسها ممثلة له في العالم الإسلامي، لكن إيران لا تمثل أي مذهب ديني، وإنما تدعو إلى مذهب خاص يخدم سياساتها وأطماعها التوسعية».
ويؤكد ولد حرمه، أن المشروع الإيراني يستهدف موريتانيا لسببين رئيسيين يتعلقان بموقعها الاستراتيجي وثرواتها، واستطرد «لقد سبق وأن حذرت، ومعي عدد من الباحثين الموريتانيين، من أن المشروع الإيراني في موريتانيا أصبح خطيراً، ويشكل تهديداً حقيقياً لأمن البلاد»، وأشار إلى أن البحوث التي أجروها تؤكد أن «المشروع الإيراني يقوم على سببين أساسيين: أولهما أن موريتانيا تملك موقعاً استراتيجياً مهماً بين غرب القارة الأفريقية وشمالها، أما السبب الآخر فهو أن موريتانيا لديها مخزون كبير من الثروات ينتظر أن يبدأ استغلاله من طرف القوى العالمية في السنوات القليلة المقبلة، وإيران لديها أطماع في هذه الثروات».
لقد ارتبطت إيران في أذهان الكثير من الموريتانيين «بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وكونها قوة ممانعة وصمود». وهي صورة صنعتها وروجت لها قناة «الجزيرة» خلال السنوات الماضية، عندما كانت تظهر زعيم «حزب الله» اللبناني بطلاً يقف في وجه العدوان الإسرائيلي على فلسطين، كما ساعد تيار الإخوان المسلمين في موريتانيا في تضخيم هذه الصورة والترويج لها بقوة. وتعليقاً على هذه الصورة، يقول الدكتور ولد حرمه «إيران في الخريطة الجيوسياسية العالمية تستخدم رهان أنها تمثل جزءاً من العالم الإسلامي، وأن هذا الجزء هو المضطهد، كما ترفع شعار مقاومة إسرائيل، في حين أن كل ما تقوم به هو لصالح إسرائيل، وتتقاسم معها النفوذ والاحتلال والسيطرة في الكثير من المناطق».
وحول تغلغل الأذرع الإيرانية في المجتمع الموريتاني، قال ولد حرمه، إن «إيران تستخدم أساليب كثيرة لزيادة نفوذها داخل المجتمع الموريتاني، الأسلوب الأول هو استغلال مظلومية خطيرة تتعلق بحب آل البيت والتشيع لهم، وهذا المطلب يجد تربة سهلة الارتواء لدى المجتمع الموريتاني الذي جُبل بفطرته وطبعه وتكوينه على حب آل البيت»، لكن ولد حرمه يضيف، أن «هذه المظلومية أضافت عليها إيران شعاراً آخر، هو أنها دولة مقاومة، أي أنها تقاوم إسرائيل وتريد تحرير فلسطين وتقف في وجه الغطرسة الأميركية، وهذه الكذبة والفرية انطلت للأسف الشديد على كثير من خيري هذه الأمة».
ويوضح ولد حرمه، أنه «حتى بعد أن ظهرت إيران على حقيقتها وكشّرت عن أنيابها، ومارست القتل والتدمير والخراب والدمار والاحتلال في أجزاء واسعة من الوطن العربي، بل وتحالفت مع الغرب في أجزاء منه، وتحالفت مع إسرائيل لتدمير أجزاء أخرى، وتحالفت مع القوى الظلامية التي تمتهن القتل والتكفير، بقي أناس في موريتانيا يعتبرون أنها قوة مقاومة؛ وللأسف هذان الشعاران: محبة آل البيت والمقاومة، يجدان صدى قوياً في أذهان العامة من الموريتانيين».
اليوم، يدعو ولد حرمه السلطات الموريتانية إلى عدم الاكتفاء بإجراءات آنية للوقوف في وجه الخطر الإيراني، ويؤكد أن الاستراتيجية الموريتانية يجب أن تكون متعددة الأبعاد، ويقول في هذا السياق «لا بد من أن يكون وقوفنا في وجه الخطر الإيراني وقوفاً جاداً وحقيقياً، وهو في حقيقته وقوف متعدد الأبعاد، منه ما هو ثقافي وفكري وتعليمي وتربوي؛ وذلك من أجل تحصين الأنفس وتعزيز الدفاعات الروحية والنفسية والمعنوية». وهو يرى أنه من الضروري أن «نزرع في شبابنا أن إيران لا تمثل محبة ولا نصرة آل البيت، كما أنها لا تمثل قيادة مقاومة ولا قيادة صمود». هي تمثل مذهباً محرفاً هو المذهب الشيعي الذي تم تحريفه ابتداء من القرن الخامس عشر الميلادي في عهد الدولة الصفوية، وتستغله هي الآن لزيادة نفوذها وسيطرتها وتحكمها ومطامعها غير المشروعة في محيطها وجوارها العربي».
ويستغرب ولد حرمه من استخفاف عدد من الموريتانيين بخطورة المد الإيراني، فيقول «كيف يقللون من أهميته وهو الآن يشتغل في شبابنا وفي بعض مساجدنا، حتى أنه يشتغل داخل بعض جامعاتنا وبعض ما نسميه منابرنا السياسية، لقد أصبح خطراً وشيكاً، ونحن في أمسّ الحاجة إلى الانتباه له والتعامل معه بجدية؛ لأن بلدنا يُعدّ بوابة الساحل الأفريقي».
في ظل المخاوف التي تراود الطبقة السياسية والمثقفين في موريتانيا من تزايد الخطر الإيراني المحدق بالبلاد، تتجه الأنظار لما تشهده منطقة الساحل الأفريقي من نشاط للجماعات الإرهابية المرتبطة بتنظيم القاعدة وتنظيم داعش، وهي منطقة لا تبعد سوى مئات الكيلومترات عن المدن الموريتانية.
في هذا الإطار، يعتقد الكثير من المراقبين أن الخبراء الإيرانيين عندما استهدفوا دولاً مثل موريتانيا والمغرب والجزائر، كانوا يسعون من وراء ذلك إلى دخول منطقة الساحل الأفريقي، التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى بيئة خصبة لنشاط جماعات الإرهاب والتهريب، وهي بيئة جاذبة للأنشطة الإيرانية، وبخاصة في ظل ثرواتها الكبيرة من اليورانيوم، والنفط، والغاز، والذهب.
ووفق ولد حرمه، فإن «القوة الناعمة لموريتانيا، وبلدان المغرب العربي، يقع مجال تأثيرها القوي في منطقة الساحل الأفريقي، ومن الطبيعي أن يصل من أثر في موريتانيا إلى هذا الساحل ويتمدد عبره، كما أنه من الطبيعي أن تكون موريتانيا هي الحصن الأول أو جدار الدفاع لمن يريد اقتحام هذا المجال».
غير أنه يعتقد، أنه «ما دام الساحل الأفريقي يعيش في فوضى عارمة، حيث لا توجد قوة تسيطر عليه وتتحكم فيه، فإنه لا شك يعد مجالاً مشاعاً لمن يبحث عن النفوذ والقوة، وهنا تتحالف إيران رغم تناقضها العقدي مع الحركات الإرهابية، كل منهما يجد سنده في الآخر، إيران تمول هذه الحركات لتشكل لها يداً وذراعاً تحركهما في المنطقة، بينما تجد هذه الحركات لدى إيران ما تحتاج إليه من مساندة ودعم وتمويل ورعاية ودعم وإسناد». لكن مخططات إيران لامتلاك موطئ قدم في منطقة الساحل الأفريقي، لم يقتصر على البوابة المغاربية، وإنما نجد آثاراً لهذه الخطط في منطقة بحيرة تشاد، وتحديداً في شمال شرقي نيجيريا، حيث يعد أتباع المذهب الشيعي بالملايين، وتحاول بعض الجمعيات المرتبطة بطهران إحداث «ثورة إسلامية» وإقامة نظام ملالي في المنطقة. وشكلت هذه الجمعيات التي ترعاها إيران وتمولها سفاراتها في شبه المنطقة، حاضنة الكثير من الشخصيات التي برزت فيما بعد ضمن قيادة جماعة «بوكو حرام»، التنظيم الأكثر دموية في تاريخ القارة السمراء، والذي ارتبط في نشاطه الإرهابي بعلاقات وطيدة مع تنظيم القاعدة ثم «داعش».
ويعتقد ولد حرمه أن خطر الدور الإيراني المشبوه في أفريقيا «انتبهت إليه دول المغرب العربي وتعاملت معه بصرامة، مثل المملكة المغربية التي قطعت علاقاتها بطهران وأغلقت مراكزها الثقافية، كما تعاملت معه أيضاً الجزائر بصرامة قبل عامين، وهذا ما يؤكد أنه خطر ماثل ومحدق».
منذ سنوات غيّرت إيران استراتيجيتها في موريتانيا، فبدل استهداف المساجد والزعامات الدينية، توجهت السفارة الإيرانية في نواكشوط نحو قطاع التعليم، وأصبحت توزع منحاً دراسية مجانية على الطلاب الموريتانيين، وذلك عبر وسطاء يبحثون في أوساط الشباب عن المهتمين بإجراء دراسات عليا في مجال الشريعة الإسلامية والبحوث الإسلامية، واستفاد من هذه المنح عشرات الطلاب الموريتانيين، والبعض يتحدث عن المئات. ولكن السلطات الموريتانية في إطار استراتيجيتها الجديدة منعت هذه المنح الدراسية، وأصدرت قراراً رسمياً بتوقيفها بشكل رسمي؛ لأنها تشكل خطراً على وحدة المجتمع وتماسكه، ووجهت السلطات الموريتانية رسالة إلى السفير الإيراني بنواكشوط أبلغته فيها بمنع هذه المنح الدراسية، وطلبت منه التوقف عن جميع أنشطته في مجال التعليم؛ لأنها تشكل تهديداً لأمن البلاد.
وقال مصدر من وزارة التعليم الموريتانية لـ«الشرق الأوسط»، إن الكثير من الشباب الحائزين شهادة البكالوريا كانوا يتدافعون للحصول على المنح الدراسية الإيرانية؛ بسبب الإغراءات التي تقدم لأقرانهم، لكنهم عندما يصلون إلى إيران يجدون أمامهم مناهج دراسية مختلفة تماماً عن تلك التي سافروا من أجل دراستها.
في هذا السياق، يقول عبد السلام ولد حرمه «لدينا وثائق ومعلومات دقيقة تشير إلى أن هنالك عشرات، إن لم نقل المئات من الطلاب الذين يذهبون إلى ما يسمى بالحوزة العلمية في قم وطهران لتلقي الدراسات، وهذا تصدير للمذهب الغريب على هذا البلاد، والغرض الأساسي هو خدمة نفوذ دولة معينة وأطماعها». ويضيف «أرى أننا يجب أن نكون حازمين وصارمين في مواجهة هذا الخطر؛ إذ إنه لا فرق بين الخطر الذي تشكله القاعدة وذلك الذي تشكله إيران وسياساتها التوسعية؛ فكل من هذه الأخطار مدمر ويزعزع الأمن ويقوم بتفتيت المجتمع».
ويخلص ولد حرمه إلى القول، إن «الكثير من المثقفين والسياسيين ورجال الدين أطلقوا تحذيرات من خطورة المشروع الإيراني في موريتانيا، فهذا المشروع لم يعد وهماً لقد أصبح حقيقة ماثلة للعيان، ومن غير المقبول أن نسمح لسفارة دولة ما أن ترعى نشر ثقافة ومذهب نتيجته النهائية هي الاقتتال والتشرذم والتفتيت، ولا يجوز أيضاً أن نتساهل مع جهة تكتتب شبابنا، وتلعب بحقلنا الديني والثقافي وأمننا الروحي وتوظفه ضمن سياقات معروفة».



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.