نشاط {داعشي} في الشيشان

أرضية خصبة لتجنيد عناصر جديدةc

الشيشان حاضنه جيدة لـ{داعش} للحصول على عناصر جديدة ({الشرق الاوسط})
الشيشان حاضنه جيدة لـ{داعش} للحصول على عناصر جديدة ({الشرق الاوسط})
TT

نشاط {داعشي} في الشيشان

الشيشان حاضنه جيدة لـ{داعش} للحصول على عناصر جديدة ({الشرق الاوسط})
الشيشان حاضنه جيدة لـ{داعش} للحصول على عناصر جديدة ({الشرق الاوسط})

من بين الدراسات العديدة التي تتناول إشكالية حصول تنظيم «داعش» على عناصر بشرية جديدة، يمكننا الحديث عن دراسات تتعلق بروسيا تأتي في المقدمة، حيث إن معظم هؤلاء المجندين الجدد لـ«داعش» ينحدرون من جمهورية الشيشان، التي باتت بؤرة تعصب ديني خصبة لتجنيد مقاتلي «داعش».
تقول الأرقام الرسمية إن نحو 800 شيشاني بالغ يقاتلون في صفوف التنظيم الإرهابي، في حين أنه من المرجح أن يكون العدد الحقيقي أعلى من ذلك بكثير، فبعض الشباب الذين التحقوا بالتنظيم يُصنفون على أنهم مفقودون، لكن السلطات لا تعلم حتى إن العديد منهم ذهبوا للقتال. ولعل السؤال الرئيسي في هذه القراءة: لماذا يلتحق هذا العدد الكبير من الشيشان بتنظيم «داعش الإرهابي»؟
إحدى أفضل الدراسات التي اطلعنا عليها في بحثنا عن جواب للسؤال المتقدم، كانت للبروفسور مايكل فشينفسكي، المحاضر غير المتفرغ في علم الجريمة بجامعة سالفورد بالمملكة المتحدة، وصاحب الأبحاث المتميزة في الإرهاب والعنف السياسي والتطرف في الشيشان والسجون.
يؤرِّخ الرجل لبداية الإرهاب في الشيشان من عند العلاقة بين روسيا والشيشان التي تميزت دائماً بالعنف. وكان السبب الأساسي لذلك الصراع هو التوسع الروسي في منطقة القوقاز، الذي بدأ منذ القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر، ثم استمر في القرن العشرين أيضاً في عام 1991 عندما انهار الاتحاد السوفياتي، وتلا ذلك حصول خمسة عشر عضواً من أعضاء جمهوريات الاتحاد السوفياتي على استقلالهم، مثل روسيا، وأوكرانيا، وكازخستان. إلا أن الجمهوريات التي كانت تتمتع بالحكم الذاتي كان لها وضع قانوني مختلف داخل الاتحاد السوفياتي، أي أنها كانت تُعتبر جزءاً لا يتجزأ من روسيا ومنها الشيشان.
وطبقاً لخطة حكومة روسيا، فإن كل البلاد الحاصلة على الحكم الذاتي داخل الفيدرالية الروسية، تبقى كما هي داخل الفيدرالية، وتعتبر جزءاً من الدولة الروسية المستقلة أو الفيدرالية الروسية. وكانت الشيشان هي الجمهورية الوحيدة داخل الفيدرالية التي أعلنت استقلالها عن روسيا 1991.
وفى عام 1994 أرسلت حكومة الرئيس يلتسين قوات إلى الشيشان لإجبار الجمهورية على العودة مرة أخرى إلى الفيدرالية، وكانت هذه هي بداية الحرب الأولى بين روسيا والشيشان، التي استمرت من 1994 وحتى 1996. وقد حاربت الشيشان من أجل استقلالها تحت قيادة الرئيس ذوخاردوديف. وانتهت الحرب عام 1996 باتفاقية خزاجفورت للسلام، التي نصَّت على تأجيل البت في الوضع الرسمي للشيشان، لمدة خمس سنوات إضافية، أي حتى عام 2001، إلا أن الخطة لم تُنفَّذ.

الطريق إلى الإرهاب الراديكالي
خلال تلك السنوات بدا وكأن الشيشان ماضية بقوة الدفع الذاتي في طريق الإرهاب الأصولي، فقد اندلعت الحرب الثانية بين روسيا والشيشان مجدداً في سبتمبر (أيلول) من عام 1999، وقد بدأ الأمر بسلسة من الانفجارات لعدة أبنية سكنية، كما وقعت الانفجارات بمدن بوجناكي بداغستان وفولجودونسك وموسكو بروسيا. وقد أتهم الإرهابيون الشيشان بارتكاب هذه الاضطرابات التي أودت بحياة 300 شخص وأصابت 700 آخرين. وفى الشهر ذاته، قامت قوة من الشيشان والداغستانيين، ومسلحين أجانب، باحتلال داغستان، وقد قاد هذا الاحتلال، شاجل بازايف وعبد الله السويلم وخطاب، بهدف تأسيس دولة راديكالية بالشيشان وداغستان.
وكانت هذه الاضطرابات الإرهابية إلى جانب احتلال داغستان، وراء بدء الحرب الروسية الشيشانية الثانية في سبتمبر 1999.
حين حل عام 2000 كانت الحكومة الروسية تعلن انتصارها العسكري ولكن في نهاية الحرب تحول القتال العسكري إلى عملية لمكافحة الإرهاب، ولا تزال مستمرة حتى اليوم.
ولعلَّ الناظر إلى سجلات حقوق الإنسان في الشيشان خلال العقدين الماضيين يدرك أن ظهور الإرهاب وتناميه، وقدرة «داعش» على اكتساب عناصر شيشانية جديدة، إنما يتأتى في بعض أجزائه من جراء ممارسات غير إنسانية مورست ضد المواطنين الشيشانيين على يد القوات الروسية الفيدرالية.
ومنها قصف القرى دون تمييز، إلى جانب القبض العشوائي على الرجال، وممارسة التعذيب أو قتل المحتجزين، كما كانت فرق الموت تقوم بقتل المواطنين، وسرقة أو تدمير أملاكهم، ناهيك باقتحام ديارهم، واستباحة الاعتداء على النساء والرجال، ولا تزال التعديات والانتهاكات تُمارَس ضد المواطنين الشيشان وإن كانت هذه المرة تُمارَس برعاية الحكومة الشيشانية الجديدة ومساندتها بحسب تقارير منظمة «هيومن رايتس ووتش».

العنف قابلة الإرهاب
حين يتحدث كارل ماركس عن العنف بوصفه قابلة التاريخ، فإنه لم يلتفت إلى أن العنف كذلك هو حاضنة الإرهاب والعنف المضاد، الأمر الذي جرت به المقادير في الشيشان حتى الساعة.
تركت الحروب في منطقة الشيشان أثرها على الحجر والبشر، فقد تدمرت البنية التحتية للجمهورية، وتشهد الصور التي التقطت للعاصمة غروزني بعد آثار التدمير التي عاشتها أثناء الحربين الأولى والثانية على ذلك.
وطبقاً لعدة تقديرات، فإن الخسائر في الأرواح التي تعرض لها الشعب بالشيشان أثناء الحروب، تتراوح بين 65 و77 ألف فرد، وذلك من واقع تعداد يقترب من مليون قبل الحروب، مما أثَّر على كثير من الأسر والعائلات، وبالتالي على الأطفال والشباب، كما ترتب على ذلك أيضاً تفاقم حالة البطالة. وفى أعقاب حروب الشيشان تعرضت البلاد لخلل كبير في العملية التعليمية والمخزون من الأدوية. وانتابت شعب الشيشان حالة من الصدمة النفسية ونشأ جيل من الأطفال لم يعرف سوى العنف منذ أن فتح عينيه على العالم.
وكمناطق الحروب الأخرى، فإن ما تعرضت له منطقة الشيشان نتيجة للحروب الدائرة وحالة العنف، وما ترتب عليه من تدهور لظروف الحياة الاجتماعية والاقتصادية، كان له تأثيره الملموس على العائلات والأفراد، خصوصاً صغار السن منهم، حيث يعاني الجميع من انعدام الأمن والحاجة إلى الحماية الجسدية... هل لا بد لانعدام الأمن من ظهور الإرهاب؟

الإرهاب واقع يطرح نفسه
كان من الطبيعي أن تولد الحروب ضد الشيشان اضطرابات نفسية واجتماعية، واقتصادية وأمنية، وليس أفضل من هذه وتلك أجواء ملائمة لنشوء وارتقاء حركات تطرف عنيف، لا يلبث أن يتحول إلى إرهاب، بدا محلياً وها هو ينحو مع الدواعش إلى تهديد أممي.
في الفترة ما بين 1991 و1994 ارتكبت ثمانية أنشطة إرهابية على يد إرهابيين من الشيشان. هذه الأنشطة استخدمت التكتيكات والوسائل الإرهابية، خصوصاً اختطاف الرهائن والمطالبة بالفدية، بالإضافة إلى اختطاف الطائرات والحافلات وعلى متنها مسافرون. وقد أسفرت تلك الأنشطة عن وفاة أربعة أفراد وإصابة تسعة عشر آخرين. بالإضافة إلى ملايين من الدولارات التي دفعت للمختطفين كفدية.
ومن هذه الأنشطة الإرهابية اختطاف طائرة مدنية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1991، وقد نفذت العملية احتجاجاً على الوجود الروسي بالشيشان، وهناك كثير من حوادث الاختطاف الأخرى، كان الغرض الأساسي منها المطالبة بالفدية. وهناك أكثر من 60 نشاطاً إرهابياً داخل وخارج الشيشان قد تم ارتكابه على يد الإرهابيين الشيشان، بين عامي 1995، 1999 بالإضافة إلى ما يربو على 80 حادثاً إرهابياً تم ارتكابه بين عامي 2000 و2004.
وكانت أخطر العمليات الإرهابية التي قامت بها عناصر شيشانية، حادث حصار مسرح «دوبوفكا» في موسكو في أكتوبر (تشرين الأول) 2002، وعملية اختطاف الرهائن بمدرسة في بسلان، شمال أوسيتار في سبتمبر 2004. وقد حظيا بتغطية واسعة من وسائل الإعلام الدولية. وقد بدأت العمليات الانتحارية في عام 2000 وما زالت مستمرة منذ ذلك الحين، وطبقاً لبعض الإحصائيات فإن 28 حادثاً انتحارياً قد وقعوا بالفعل بين عامي 2000 و2005.
ما الذي جرى على وجه الدقة وجعل الشيشان على هذا النحو مؤولاً للإرهاب المحلي، الذي يصدر كذلك إلى الخارج؟
المؤكد أنه بعد تحول القتال العسكري الروسي بالشيشان إلى عمليات حربية ضد الإرهاب، بدأت الحركة الانفصالية في التحول هي الأخرى، حيث بدأت القوات الفيدرالية والمحلية التابعة للحكومة في مطاردتها ودفعها إلى منطقة الجبال، ومنذ ذلك الحين والحركة تعمل في سرية. وحالياً يتكون الإرهاب بالشيشان من شبكة تسمى بالجماعات، وهى مجموعات تعمل في سرية، وتتكون عادة من إسلامويين مسلحين ولها اتصالات بجماعات خارج الشيشان في داغستان، وأنجوشيتيا، وكراشايفو - شركسيا، وغيرها من جمهوريات شمال القوقاز.

طريق الإرهاب المعبَّد
لم يكن تنظيم الدولة يحلم بأفضل من مثل هذه أوضاع، هيأت العقول والنفوس لفكرة الخلافة الدولة، وهذا ما تشير إليه إيلينا سوبولينا الباحثة في قضايا الإرهاب من معهد موسكو للدراسات الاستراتيجية، التي تقدم أسبابا مقنعة تجعل «داعش» سعيداً بما يجري في الشيشان في الحال، وما جرى من زمن غير بعيد، وعندها أنه في مقدمة تلك الأسباب التي تجعل شباب الشيشان لقمة سائغة للدواعش، ارتفاع نسبة البطالة، وعدم الرضا على الحالة الاجتماعية، وعدم التمكين من تحقيق أحلامهم، هذه جميعها قادت كثيراً من أبناء المنطقة إلى الارتماء في أحضان «الجهاديين» المغشوشين من الدواعش.
أما بافل فيغنهاور المعلق العسكري المستقل في موسكو، فيذهب إلى أن جهوداً منسقة من أجهزة الاستخبارات الروسية قبيل دورة الألعاب الأولمبية في سوتشي عام 2014، قد تكون لها علاقة بالموضوع. فالإجراءات الأمنية الصارمة وقتها دفعت أعداداً هائلة من المتطرفين للخروج من البلاد، وهؤلاء امتصهم تنظيم «داعش» مثل مكنسة كهربائية، لكن مع فقدان التنظيم الآن لكل مناطق نفوذه تقريباً، فإن المكنسة الكهربائية باتت تعمل في الاتجاه المعاكس وتهدد بلفظ الإرهابيين.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟