نشاط {داعشي} في الشيشان

أرضية خصبة لتجنيد عناصر جديدةc

الشيشان حاضنه جيدة لـ{داعش} للحصول على عناصر جديدة ({الشرق الاوسط})
الشيشان حاضنه جيدة لـ{داعش} للحصول على عناصر جديدة ({الشرق الاوسط})
TT

نشاط {داعشي} في الشيشان

الشيشان حاضنه جيدة لـ{داعش} للحصول على عناصر جديدة ({الشرق الاوسط})
الشيشان حاضنه جيدة لـ{داعش} للحصول على عناصر جديدة ({الشرق الاوسط})

من بين الدراسات العديدة التي تتناول إشكالية حصول تنظيم «داعش» على عناصر بشرية جديدة، يمكننا الحديث عن دراسات تتعلق بروسيا تأتي في المقدمة، حيث إن معظم هؤلاء المجندين الجدد لـ«داعش» ينحدرون من جمهورية الشيشان، التي باتت بؤرة تعصب ديني خصبة لتجنيد مقاتلي «داعش».
تقول الأرقام الرسمية إن نحو 800 شيشاني بالغ يقاتلون في صفوف التنظيم الإرهابي، في حين أنه من المرجح أن يكون العدد الحقيقي أعلى من ذلك بكثير، فبعض الشباب الذين التحقوا بالتنظيم يُصنفون على أنهم مفقودون، لكن السلطات لا تعلم حتى إن العديد منهم ذهبوا للقتال. ولعل السؤال الرئيسي في هذه القراءة: لماذا يلتحق هذا العدد الكبير من الشيشان بتنظيم «داعش الإرهابي»؟
إحدى أفضل الدراسات التي اطلعنا عليها في بحثنا عن جواب للسؤال المتقدم، كانت للبروفسور مايكل فشينفسكي، المحاضر غير المتفرغ في علم الجريمة بجامعة سالفورد بالمملكة المتحدة، وصاحب الأبحاث المتميزة في الإرهاب والعنف السياسي والتطرف في الشيشان والسجون.
يؤرِّخ الرجل لبداية الإرهاب في الشيشان من عند العلاقة بين روسيا والشيشان التي تميزت دائماً بالعنف. وكان السبب الأساسي لذلك الصراع هو التوسع الروسي في منطقة القوقاز، الذي بدأ منذ القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر، ثم استمر في القرن العشرين أيضاً في عام 1991 عندما انهار الاتحاد السوفياتي، وتلا ذلك حصول خمسة عشر عضواً من أعضاء جمهوريات الاتحاد السوفياتي على استقلالهم، مثل روسيا، وأوكرانيا، وكازخستان. إلا أن الجمهوريات التي كانت تتمتع بالحكم الذاتي كان لها وضع قانوني مختلف داخل الاتحاد السوفياتي، أي أنها كانت تُعتبر جزءاً لا يتجزأ من روسيا ومنها الشيشان.
وطبقاً لخطة حكومة روسيا، فإن كل البلاد الحاصلة على الحكم الذاتي داخل الفيدرالية الروسية، تبقى كما هي داخل الفيدرالية، وتعتبر جزءاً من الدولة الروسية المستقلة أو الفيدرالية الروسية. وكانت الشيشان هي الجمهورية الوحيدة داخل الفيدرالية التي أعلنت استقلالها عن روسيا 1991.
وفى عام 1994 أرسلت حكومة الرئيس يلتسين قوات إلى الشيشان لإجبار الجمهورية على العودة مرة أخرى إلى الفيدرالية، وكانت هذه هي بداية الحرب الأولى بين روسيا والشيشان، التي استمرت من 1994 وحتى 1996. وقد حاربت الشيشان من أجل استقلالها تحت قيادة الرئيس ذوخاردوديف. وانتهت الحرب عام 1996 باتفاقية خزاجفورت للسلام، التي نصَّت على تأجيل البت في الوضع الرسمي للشيشان، لمدة خمس سنوات إضافية، أي حتى عام 2001، إلا أن الخطة لم تُنفَّذ.

الطريق إلى الإرهاب الراديكالي
خلال تلك السنوات بدا وكأن الشيشان ماضية بقوة الدفع الذاتي في طريق الإرهاب الأصولي، فقد اندلعت الحرب الثانية بين روسيا والشيشان مجدداً في سبتمبر (أيلول) من عام 1999، وقد بدأ الأمر بسلسة من الانفجارات لعدة أبنية سكنية، كما وقعت الانفجارات بمدن بوجناكي بداغستان وفولجودونسك وموسكو بروسيا. وقد أتهم الإرهابيون الشيشان بارتكاب هذه الاضطرابات التي أودت بحياة 300 شخص وأصابت 700 آخرين. وفى الشهر ذاته، قامت قوة من الشيشان والداغستانيين، ومسلحين أجانب، باحتلال داغستان، وقد قاد هذا الاحتلال، شاجل بازايف وعبد الله السويلم وخطاب، بهدف تأسيس دولة راديكالية بالشيشان وداغستان.
وكانت هذه الاضطرابات الإرهابية إلى جانب احتلال داغستان، وراء بدء الحرب الروسية الشيشانية الثانية في سبتمبر 1999.
حين حل عام 2000 كانت الحكومة الروسية تعلن انتصارها العسكري ولكن في نهاية الحرب تحول القتال العسكري إلى عملية لمكافحة الإرهاب، ولا تزال مستمرة حتى اليوم.
ولعلَّ الناظر إلى سجلات حقوق الإنسان في الشيشان خلال العقدين الماضيين يدرك أن ظهور الإرهاب وتناميه، وقدرة «داعش» على اكتساب عناصر شيشانية جديدة، إنما يتأتى في بعض أجزائه من جراء ممارسات غير إنسانية مورست ضد المواطنين الشيشانيين على يد القوات الروسية الفيدرالية.
ومنها قصف القرى دون تمييز، إلى جانب القبض العشوائي على الرجال، وممارسة التعذيب أو قتل المحتجزين، كما كانت فرق الموت تقوم بقتل المواطنين، وسرقة أو تدمير أملاكهم، ناهيك باقتحام ديارهم، واستباحة الاعتداء على النساء والرجال، ولا تزال التعديات والانتهاكات تُمارَس ضد المواطنين الشيشان وإن كانت هذه المرة تُمارَس برعاية الحكومة الشيشانية الجديدة ومساندتها بحسب تقارير منظمة «هيومن رايتس ووتش».

العنف قابلة الإرهاب
حين يتحدث كارل ماركس عن العنف بوصفه قابلة التاريخ، فإنه لم يلتفت إلى أن العنف كذلك هو حاضنة الإرهاب والعنف المضاد، الأمر الذي جرت به المقادير في الشيشان حتى الساعة.
تركت الحروب في منطقة الشيشان أثرها على الحجر والبشر، فقد تدمرت البنية التحتية للجمهورية، وتشهد الصور التي التقطت للعاصمة غروزني بعد آثار التدمير التي عاشتها أثناء الحربين الأولى والثانية على ذلك.
وطبقاً لعدة تقديرات، فإن الخسائر في الأرواح التي تعرض لها الشعب بالشيشان أثناء الحروب، تتراوح بين 65 و77 ألف فرد، وذلك من واقع تعداد يقترب من مليون قبل الحروب، مما أثَّر على كثير من الأسر والعائلات، وبالتالي على الأطفال والشباب، كما ترتب على ذلك أيضاً تفاقم حالة البطالة. وفى أعقاب حروب الشيشان تعرضت البلاد لخلل كبير في العملية التعليمية والمخزون من الأدوية. وانتابت شعب الشيشان حالة من الصدمة النفسية ونشأ جيل من الأطفال لم يعرف سوى العنف منذ أن فتح عينيه على العالم.
وكمناطق الحروب الأخرى، فإن ما تعرضت له منطقة الشيشان نتيجة للحروب الدائرة وحالة العنف، وما ترتب عليه من تدهور لظروف الحياة الاجتماعية والاقتصادية، كان له تأثيره الملموس على العائلات والأفراد، خصوصاً صغار السن منهم، حيث يعاني الجميع من انعدام الأمن والحاجة إلى الحماية الجسدية... هل لا بد لانعدام الأمن من ظهور الإرهاب؟

الإرهاب واقع يطرح نفسه
كان من الطبيعي أن تولد الحروب ضد الشيشان اضطرابات نفسية واجتماعية، واقتصادية وأمنية، وليس أفضل من هذه وتلك أجواء ملائمة لنشوء وارتقاء حركات تطرف عنيف، لا يلبث أن يتحول إلى إرهاب، بدا محلياً وها هو ينحو مع الدواعش إلى تهديد أممي.
في الفترة ما بين 1991 و1994 ارتكبت ثمانية أنشطة إرهابية على يد إرهابيين من الشيشان. هذه الأنشطة استخدمت التكتيكات والوسائل الإرهابية، خصوصاً اختطاف الرهائن والمطالبة بالفدية، بالإضافة إلى اختطاف الطائرات والحافلات وعلى متنها مسافرون. وقد أسفرت تلك الأنشطة عن وفاة أربعة أفراد وإصابة تسعة عشر آخرين. بالإضافة إلى ملايين من الدولارات التي دفعت للمختطفين كفدية.
ومن هذه الأنشطة الإرهابية اختطاف طائرة مدنية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1991، وقد نفذت العملية احتجاجاً على الوجود الروسي بالشيشان، وهناك كثير من حوادث الاختطاف الأخرى، كان الغرض الأساسي منها المطالبة بالفدية. وهناك أكثر من 60 نشاطاً إرهابياً داخل وخارج الشيشان قد تم ارتكابه على يد الإرهابيين الشيشان، بين عامي 1995، 1999 بالإضافة إلى ما يربو على 80 حادثاً إرهابياً تم ارتكابه بين عامي 2000 و2004.
وكانت أخطر العمليات الإرهابية التي قامت بها عناصر شيشانية، حادث حصار مسرح «دوبوفكا» في موسكو في أكتوبر (تشرين الأول) 2002، وعملية اختطاف الرهائن بمدرسة في بسلان، شمال أوسيتار في سبتمبر 2004. وقد حظيا بتغطية واسعة من وسائل الإعلام الدولية. وقد بدأت العمليات الانتحارية في عام 2000 وما زالت مستمرة منذ ذلك الحين، وطبقاً لبعض الإحصائيات فإن 28 حادثاً انتحارياً قد وقعوا بالفعل بين عامي 2000 و2005.
ما الذي جرى على وجه الدقة وجعل الشيشان على هذا النحو مؤولاً للإرهاب المحلي، الذي يصدر كذلك إلى الخارج؟
المؤكد أنه بعد تحول القتال العسكري الروسي بالشيشان إلى عمليات حربية ضد الإرهاب، بدأت الحركة الانفصالية في التحول هي الأخرى، حيث بدأت القوات الفيدرالية والمحلية التابعة للحكومة في مطاردتها ودفعها إلى منطقة الجبال، ومنذ ذلك الحين والحركة تعمل في سرية. وحالياً يتكون الإرهاب بالشيشان من شبكة تسمى بالجماعات، وهى مجموعات تعمل في سرية، وتتكون عادة من إسلامويين مسلحين ولها اتصالات بجماعات خارج الشيشان في داغستان، وأنجوشيتيا، وكراشايفو - شركسيا، وغيرها من جمهوريات شمال القوقاز.

طريق الإرهاب المعبَّد
لم يكن تنظيم الدولة يحلم بأفضل من مثل هذه أوضاع، هيأت العقول والنفوس لفكرة الخلافة الدولة، وهذا ما تشير إليه إيلينا سوبولينا الباحثة في قضايا الإرهاب من معهد موسكو للدراسات الاستراتيجية، التي تقدم أسبابا مقنعة تجعل «داعش» سعيداً بما يجري في الشيشان في الحال، وما جرى من زمن غير بعيد، وعندها أنه في مقدمة تلك الأسباب التي تجعل شباب الشيشان لقمة سائغة للدواعش، ارتفاع نسبة البطالة، وعدم الرضا على الحالة الاجتماعية، وعدم التمكين من تحقيق أحلامهم، هذه جميعها قادت كثيراً من أبناء المنطقة إلى الارتماء في أحضان «الجهاديين» المغشوشين من الدواعش.
أما بافل فيغنهاور المعلق العسكري المستقل في موسكو، فيذهب إلى أن جهوداً منسقة من أجهزة الاستخبارات الروسية قبيل دورة الألعاب الأولمبية في سوتشي عام 2014، قد تكون لها علاقة بالموضوع. فالإجراءات الأمنية الصارمة وقتها دفعت أعداداً هائلة من المتطرفين للخروج من البلاد، وهؤلاء امتصهم تنظيم «داعش» مثل مكنسة كهربائية، لكن مع فقدان التنظيم الآن لكل مناطق نفوذه تقريباً، فإن المكنسة الكهربائية باتت تعمل في الاتجاه المعاكس وتهدد بلفظ الإرهابيين.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.