تقارب مصري ـ روسي وتفكيك تحالفات إقليمية وإعادة تركيبها

خبراء في السياسة والعلاقات الدولية عدّوها مقدمات تغيير مستقبلي

وزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي يتحدث إلى نظيره الروسي سيرغي شويجو خلال زيارة الوفد الروسي إلى القاهرة نوفمبر الماضي (واشنطن بوست)
وزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي يتحدث إلى نظيره الروسي سيرغي شويجو خلال زيارة الوفد الروسي إلى القاهرة نوفمبر الماضي (واشنطن بوست)
TT

تقارب مصري ـ روسي وتفكيك تحالفات إقليمية وإعادة تركيبها

وزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي يتحدث إلى نظيره الروسي سيرغي شويجو خلال زيارة الوفد الروسي إلى القاهرة نوفمبر الماضي (واشنطن بوست)
وزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي يتحدث إلى نظيره الروسي سيرغي شويجو خلال زيارة الوفد الروسي إلى القاهرة نوفمبر الماضي (واشنطن بوست)

إعادة فك التحالفات الإقليمية وتركيبهان مصطلح طرحه خبراء في السياسة والعلاقات الدولية، خلال حديثهم لـ«الشرق الأوسط»، حول مدى واقعية اعتبار التقارب الروسي المصري الأخير مؤشرا على دور روسي جديد في منطقة الشرق الأوسط، يأتي على حساب الدور الأميركي، في إطار إعادة تركيب تحالفات جديدة، واعتبار ذلك إرهاصات أولية للتحول نحو نظام دولي جديد.
فهناك تكهنات عديدة حول تطور العلاقات المصرية الدولية، والسياسة الخارجية لمصر، أثيرت على خلفية هذا التقارب الذي ترك أصداء واسعة على الصعيدين المصري والدولي، نظرا لما تضمنه هذا التعاون من برامج عسكرية وتكنولوجية مشتركة بين الجانبين، قد تتسبب في إزعاج الولايات المتحدة الأميركية، وتثير قلقها على مصالحها الحيوية في الشرق الأوسط، وفق ما صرح به خبراء سياسيون لـ«الشرق الأوسط».
لقد تسارعت التصريحات والتحليلات الصحافية في الحديث في مصر عن عودة أجواء الستينات من القرن الماضي الدافئة مع وريث الاتحاد السوفياتي. وأثيرت تساؤلات حول حقيقة إحياء التواصل المصري الروسي، وما إذا كان ينطوي على تغير حقيقي في جوهر السياسة الخارجية المصرية، أم أن المسألة مجرد مناورة للضغط على الحليف الاستراتيجي لمصر منذ السبعينات، أي الولايات المتحدة الأميركية.
الدكتور طارق فهمي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، والخبير بمركز دراسات الشرق الأوسط، قال في تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، إن الحديث عن دور جديد للدب الروسي في منطقة الشرق الأوسط كإرهاصات لنظام دولي جديد، يمكن أن يندرج في إطار سياسة فك التحالفات في منطقة الشرق الأوسط وإعادة تركيبها، ودور مصر المحتمل في أن تكون صاحبة السبق في هذه العملية الإقليمية الدولية. وتأتي في هذا الإطار علاقة دول الخليج مع كل من مصر والأردن، التي أطلقنا عليها، كمحللين سياسيين، علاقة «4+2». وهي علاقة تحالف جديدة بدأتها مصر، تضم دولا غنية من جانب ودولا فقيرة من الجانب الآخر. وقد تضم، بعد حين، السلطة الفلسطينية بوضعها الراهن، والعراق، وليبيا، وتونس، بعد الاستقرار. ويعني هذا أن مصر عندما تفك تحالفات فإن ما تقيمه من تحالفات جديدة لا يشترط أن يقوم على الندية. ويجب أن نعلم أن مصر دولة مفتاح لكل من يريد أن يسوق خبراته في المنطقة، وهذا ما حدث عبر كل المراحل الزمنية بما فيها الفترة التي شهدت ابتعاد مصر عن العالم العربي في فترة السبعينات.
وعما يحدث الآن من تقارب بين روسيا ومصر في النواحي العسكرية والاستراتيجية، يقول الدكتور طارق فهمي إن ما تفعله مصر من تقارب مع الروس يأتي في إطار نظام المبادلات والمقايضات. يعني عندما تشتري سلاحا روسيا فليس لروسيا مشكلة ما دامت مصر ستدفع فورا، وطبعا فاتورة الأسلحة الأخيرة ذات الأربعة مليارات ستمولها السعودية والإمارات. لكن السؤال هو: ماذا ستعطي روسيا لمصر في المقابل؟ الجواب بعيدا عن التفاصيل المزعجة الخاصة بتطور الأسلحة ومقارنتها بالأميركية، أن أهم ما ستحصل عليه مصر من روسيا هو استفادتها من تقدم الروس في منظومة الدفاع الصاروخي «S300»، القادرة على تحييد كل المنظومة العسكرية. وهي التي كان بشار الأسد يسعى إلى امتلاكها، ولو كان امتلكها فعلا لانتهى الأمر. وتأتي بعد ذلك الاستفادة من تطوير معدات قديمة كالدبابات وخلافه، وهذا أمر عادي مارسته مصر مع دول أخرى مثل فرنسا والأرجنتين. لكن النقطة الأهم هي التعاون الروسي المصري النووي في برنامج مصر النووي الذي بدأ فعليا، على الرغم من تحفظ دول عربية عليه بسبب موضوع إيران. هذا بالإضافة إلى الشراكة المصرية الروسية في الأقمار الصناعية، وهو ما يتيح للبلدين المرور 90 دقيقة بالقمر الصناعي على إسرائيل والأراضي العربية، وهو ما يكشف الوجود الأميركي في المنطقة، كما سيسبب ذلك تشويشا على الأقمار الإسرائيلية أفق 4، و5، و6.
وينتهي الدكتور طارق فهمي من تحليله إلى أن التحول المصري باتجاه الشرق هو مدخل جيد لروسيا ومتعب لأميركا، خاصة في ما يتعلق بمفاوضات السلام، مشيرا إلى احتمالات مستقبلية بأن تقود مصر تحالفات روسية أخرى في دول الخليج، ومن ثم فك التحالف الأميركي وإعادة تركيبه بتحالفات إقليمية جديدة، وهذه بدورها تصب في مصلحة الدور الروسي في الشرق الأوسط، كبداية لإرهاصات نظام دولي جديد لا ثنائي ولا أحادي القطبية، بل متعدد القطبية يضم قطبا عسكريا كبيرا هو أميركا، ومعه أقطاب اقتصادية كبرى أيضا، بالإضافة لقوى إقليمية عظمى في نطاقها، ووجود هذه القوى الإقليمية من شأنه أن ينمي دور روسيا تلقائيا، كما أن الإدارة الأميركية بعد أوباما ستتجه نحو الانسحاب إلى العالم.
بينما يرى الدكتور إيهاب العزازي، الكاتب والباحث السياسي، في هذا التقارب مؤشرا إيجابيا للتخلص من التبعية لأميركا. وقال في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إن أفضل ما تحقق في ثورة 30 يونيو (حزيران) هو التخلص من رجس التبعية وسياسة الإملاءات الأميركية التي تعرضت لها مصر منذ أكثر من40 عاما، منذ قيام الرئيس السادات بطرد الخبراء الروس والوقوع في الفخ الأميركي، وأصبحت مصر مجرد تابع للسياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط. واليوم وبعد الدعم الأميركي الواضح لجماعة الإخوان المسلمين، ووقوفها في وجه الإرادة الشعبية المصرية، التي ثارت على الحكم الإخواني عبر سلسلة من التهديدات الأميركية بقطع المعونات ووقفها، ثم وقف التدريبات العسكرية المشتركة، وآخرها تعليق المساعدات العسكرية لمصر، كان لا بد للدولة المصرية أمام هذه الفرصة التاريخية النادرة من الإسراع في تعديل إدارة العلاقات المصرية الخارجية وهيكلتها وتغييرها، والتوجه نحو قوى أخرى غير أميركا. وهذا ما يحدث الآن عبر التقارب المصري الصيني الروسي، وتنويع مصادر التعاون مع القوى الخارجية من دون التحيز لطرف على حساب الآخر.
والآن مصر أمام فرصة تاريخية.. فبعض القوى السياسية الكبرى في العالم مثل روسيا تريد تعزيز تعاونها مع مصر. وهذا ما حدث أخيرا في سلسلة من الزيارات المتبادلة سواء شعبية أو رسمية، في إطار فتح قنوات وعلاقات دولية جديدة. وكان لروسيا دور مشرف وداعم حيوي لثورة 30 يونيو، من خلال الدعم العسكري لمصر. وحدثت زيارات رسمية لمسؤولين عسكريين وأمنيين من البلدين. وتم توقيع اتفاقيات عدة، وكذلك كانت هناك وفود من رجال الأعمال الروس ترغب في دعم الاستثمار المصري. وموسكو تبحث بدورها عن شركاء استراتيجيين جدد في منطقة الشرق الأوسط، بعد ضمور علاقاتها مع أصدقائها التقليديين في ليبيا والعراق وسوريا.
غير أن الحسابات المتعلقة بالتقارب المصري الروسي بأن يكون هو البديل للوجود الأميركي في المنطقة، هي متسرعة لأسباب عدة منها أن العالم أصبح قرية صغيرة، وأن مفهوم التبعية لقوة كبرى أصبح مجرد خيال سياسي. فعالم السياسة في ظل تكنولوجيا المعلومات يعتمد على سياسات متوافقة مع أغلب القوى وليس الاعتماد على طرف وتهميش الآخرين. وهذا ما حدث من أميركا عندما شعرت بالتقارب المصري الروسي، إذ سارعت واشنطن لتدارك الموقف واسترضاء القاهرة، بعد تجميد شطر من المساعدات العسكرية حتى لا تتفاقم الفجوة بين القاهرة وواشنطن، بما يمهد السبيل لتقارب استراتيجي بين مصر وروسيا، أو من خلال زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري الأخيرة لمصر، وتأكيده على عمق العلاقات وأهمية مصر للولايات المتحدة، وإبدائه استعداد بلاده لاستئناف المساعدات كافة غير منقوصة، بعد استكمال خارطة المستقبل التي أعلنها الجيش، عقب العزل الشعبي للرئيس السابق محمد مرسي.
وأضاف العزازي لـ«الشرق الأوسط» أن الدعم الروسي لخارطة الطريق المصرية هو فصل من فصول الحرب الباردة بين الروس والأميركيين في طريق السيطرة على العالم، وليس من أجل المصريين كما يتوهم البعض. وهذا ما يجعل الموقف الروسي غامضا في ظل المواقف الروسية الأخرى من الثورات العربية، في ضوء دعم الكريملين الفج للجرائم غير الإنسانية التي يقترفها النظام الأسدي في حق شعبه، وسعي موسكو لطمس القضية السورية وتمييعها، والإبقاء على الأسد توخيا لتحقيق مغانم استراتيجية عبر عقد صفقات مع واشنطن وطهران تحت مظلة اتفاق الكيماوي السوري ومؤتمر جنيف. وفي النهاية، على مصر أن تحتفظ بعلاقات أوثق ومصالح أعمق مع مختلف القوى الدولية والإقليمية الصاعدة والمؤثرة في عالم اليوم، ولا يشترط أن يأتي التقارب مع هذا الطرف أو ذاك على حساب العلاقة مع طرف آخر.
الدكتور عمرو أبو الفضل، عضو المجلس التنفيذي لمركز «الجمهورية» للدراسات السياسية والأمنية، والمتخصص في العلاقات الدولية، قال لـ«الشرق الأوسط»، إن هناك محددات للعلاقات الخارجية للدولة المصرية. وقد ظلت توجهاتها لسنوات طويلة، بدأت مع الرئيس السادات مرورا بفترة مبارك، مرتبطة بتحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة الأميركية على مستويات عدة أمنية وعسكرية واقتصادية وسياسية. وحتى بعد قيام ثورة 25 يناير (كانون الثاني)، استمرت هذه العلاقات بالقوة نفسها خلال حكم مرسي من دون تغيير يذكر. وفي أعقاب 30 يونيو وعزل الرئيس مرسي، لم تسارع الإدارة الأميركية إلى تقديم اعتراف صريح بشرعية السلطة الحالية، والاستمرار في دعمها، وطالبت بسرعة بإجراء الانتخابات وتسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة. ولم تبادر الإدارة الأميركية إلى اتخاذ مواقف ضد مصر إلا بعد جلسة الاستماع التي عقدها الكونغرس، وأوصى خلالها بضرورة تعليق بعض المساعدات العسكرية.
على الرغم من ذلك فإن العلاقات تسير على وتيرتها الطبيعية. ودخول الروس، ووجود مؤشرات على تقارب مصري روسي، لا يعني بحال الاتجاه إلى قطيعة مع الولايات المتحدة الأميركية وفك التحالف الاستراتيجي بين البلدين. فواقعيا هذا لن يحدث لأن أميركا ما زالت اللاعب الرئيس في المنطقة، ولديها تأثير كبير على كل ملفاتها بحكم تمددها في كل الدول العربية. وربما شجع الدولة المصرية على هذا التقارب عوامل كثيرة أهمها تراجع القدرات الأميركية بصفة عامة، ورغبة القاهرة في استعادة القدرة على المناورة وامتلاك حرية التحرك، والاستفادة من تعدد الخيارات الداعمة للقرارات الاستراتيجية. فقد أدركت الدبلوماسية المصرية الموقف الذي اتخذته روسيا مما حدث في 30 يونيو في مصر، حيث اعتبرته موسكو شأنا داخليا، ودعت إلى احترام الإرادة الشعبية، مما اعتبر اعترافا ضمنيا بخارطة الطريق واستحقاقاتها.
وتعد الزيارة التي قام بها وزير الخارجية المصري نبيل فهمي في سبتمبر (أيلول) الماضي إلى موسكو البداية الفعلية للتوجه المصري الجديد، وقد أعقبها توجه وفد شعبي مصري لزيارة موسكو. كما أعقب ذلك استقبال الطراد الروسي «فارياج» في ميناء الإسكندرية في زيارة غير رسمية، هي الأولى من نوعها منذ عقود، وزيارة وزيري الخارجية والدفاع الروسيين للقاهرة لبحث مجالات التعاون الدفاعي والأمني بين البلدين. وعلى الرغم من هذا التوجه الجديد فإنه لا يعني أن روسيا سوف تحل محل أميركا في المنطقة، كما أنه ليس في صالح القاهرة التخلص من التحالف الاستراتيجي مع أميركا واستبدال تحالف به مع روسيا التي هي ليست الاتحاد السوفياتي. صحيح أن روسيا هي أحد الاقتصادات الصاعدة، وتسيطر على 30 في المائة من حجم تجارة السلاح على مستوى العالم، ولكن لم تعد السياسة الدولية تدار بفكرة شرق في مواجهة غرب، وإنما هناك منافسة شرسة لخلق نظام دولي جديد متعدد الأقطاب، إذ تدفع روسيا ودول الـ«بريكس» باعتبارها القوة الاقتصادية والسياسية الصاعدة في اتجاه كسر احتكار الولايات المتحدة، باعتبارها القطب الأوحد للهيمنة والسيطرة العالمية، لاقتسام الكعكة السياسية والاقتصادية.
ويمكن هنا إدراك أن روسيا تواجه منذ قيام الثورات العربية أزمة استراتيجية، برزت بسقوط حلفائها في المنطقة خاصة القذافي في ليبيا، وتهديد مناطق نفوذها التقليدية في الشرق الأوسط بصعود الإسلام السياسي للحكم في دول شمال أفريقيا، واشتعال أزمة سوريا، مما دفعها لمساندة نظام الرئيس السوري بشار الأسد بقوة ودعمه سياسيا وعسكريا، والحيلولة دون سقوطه، والتحرك للاستفادة من حالة الامتعاض الشديدة التي تسود الدول الخليجية بسبب انحسار الخيار الأميركي بتوجيه ضربة عسكرية إلى نظام الأسد، والتراجع عن إزاحته عن الحكم، واقتناص فرصة تزايد الهواجس الخليجية بسبب تقدم المسار التفاوضي بين أميركا وإيران، والاتجاه للوصول إلى تسوية سياسية للملف النووي الإيراني والسوري للنفاذ إلى المنطقة من جديد، سواء بالدخول في شراكة اقتصادية مع بعض دول الخليج في مجال الطاقة، أو بصفقات تسليح للجيش المصري بتمويل خليجي. غير أن كل هذا يظل رهنا بمدى التوصل إلى اتفاق بين الدول الخليجية وروسيا حول مستقبل نظام بشار، خاصة بعد تأكدها من ضعف التأثير الأميركي وغياب قدرته على تغيير المعادلة السياسية في سوريا.
المفكر اليساري الكبير الدكتور رفعت السعيد، رئيس حزب التجمع سابقا، قال لـ«الشرق الأوسط»، إنه من الخطأ الخلط بين روسيا الحالية والاتحاد السوفياتي السابق. فالعلاقة بين الشعبين مستمرة، والاتحاد السوفياتي قدم لمصر مساعدات هائلة. ولكن بعيدا عن المنطلق الأيديولوجي فقد انقلبت روسيا الآن إلى النقيض. فهي رأسمالية تسعى لتحقيق توازن استراتيجي عسكري في المنطقة، بينما نحن نمتلك مصالح مشتركة معها، لا علاقة لها بالأيديولوجية، بل في إطار علاقات سياسية واقتصادية وعسكرية، ربما تستهدف مصر من جانبها الإيعاز للأميركيين بأنها ليست داخل القفص الأميركي، وتأكيد قدرتها على الخروج من هذا القفص والسعي إلى تحقيق مصالحها عبر توازنات وتحالفات جديدة بالمنطقة. كما أن الروس بحاجة للوجود بمنطقة البحر المتوسط بعد أن أخذ وضعهم في سوريا يهتز، وذلك من خلال علاقتهم بمصر وهي قديمة، لأن منطقة البحر المتوسط أصبحت واحدة من أغنى مناطق العالم بالغاز، وهذا هو أحد الدوافع للتقارب مع مصر.
وقد تم بالفعل كسر شوكة نظام القطب الواحد بمجرد أن تمردت مصر على الرغبة الأميركية في مساندة الإخوان، وأبدت عدم استعدادها للرضوخ لأي إرادة أميركية، وبالتالي أصبح هناك إرادة جديدة تعززها العلاقة مع روسيا، وتؤكدها بما يضع شوكة في القلب الأميركي، لأنه يعطي مؤشرا للدول العربية الأخرى على كسر شوكة الولايات المتحدة.
والنظام الراهن يتطور بتطور الوضع في مصر. فإذا نجحت القاهرة في اجتياز المرحلة الحالية، وتمت صياغة دستور ليبرالي، وتخطت مصر حواجز الأزمة الاقتصادية الصعبة، وقضت على الإرهاب الفاشي، فأنا أعتقد أن التطورات ستحدث في المنطقة في ظل توازنات إقليمية جديدة.
من جانبه، قلل السفير الدكتور عبد الله الأشعل، وكيل وزارة الخارجية المصرية الأسبق، من أهمية تأثير خطوة التقارب الروسي المصري على التوازنات الدولية أو حتى الإقليمية. وقال لـ«الشرق الأوسط»، إن مصر لا تملك مقومات الإرادة التي تمكنها من الخروج من العباءة الأميركية، وإن المسألة ليست قرارا لأن مصر تأمركت من دون أن تشعر منذ عام 1979، بعد أن نجحت أميركا في فصل الدول العربية عن بعضها، وجعلت من واشنطن مركزا للتعامل مع كل عاصمة عربية على حدة، ونجحت في تجفيف منابع العمل العربي المشترك، الأمر الذي رتب أوضاعا في التجارة والثقافة والاقتصاد والاستفادة العلمية، يصعب تغييرها للتوجه نحو توازن جديد أو تغيير للحليف. وأضاف الأشعل أن هناك مستويات من التحالفات تستعصي على فهم دول العالم الثالث. ومن أقدار هذه المنطقة «الفراغ السياسي»، بمعنى عدم التناسق بين السكان والموارد من جانب، وبين القدرة على المواجهة مع العالم، ومن ثم القدرة على تغيير التحالفات من جانب آخر. ولن تتغير التوازنات الإقليمية، لا سيما في ظل ما يسمى الربيع العربي الذي اعتبره أكبر خراب على المنطقة.



طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
TT

طارق متري لـ«الشرق الأوسط»: لا بديل عن الـ1701 وإنْ بصياغة جديدة

وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري
وزير الخارجية اللبناني الأسبق طارق متري

يشكّل قرار مجلس الأمن الدولي 1701 الركيزة الأساسية لأي حلّ دبلوماسي للحرب الإسرائيلية على لبنان، رغم التصدعات التي أصابته جراء الخروق المتكررة لمضامينه منذ إقراره في شهر أغسطس (آب) 2006. وعلى رغم أن الأحداث المتسارعة تجاوزته وسياسة التدمير التي تنفذها إسرائيل على كامل الأراضي اللبنانية جعلت من الصعب البناء عليه، فإن وزير الخارجية الأسبق طارق متري، تحدث عن «استحالة الاتفاق على قرار بديل عنه بفعل الانقسام الحاد داخل مجلس الأمن الدولي وامتلاك الولايات المتحدة الأميركية وروسيا حق النقض (الفيتو) لتعطيل أي قرار بديل». وشدد متري على أنه «لا بديل لهذا القرار وإن كان يحتاج إلى مقدمة جديدة وإعادة صياغة».

ثغرات تسهل الخرق

ثمة بنود ملتبسة في هذا القرار الدولي، تسببت بخرقه مراراً من إسرائيل و«حزب الله» على السواء؛ لكون كلّ منهما يفسّر هذه البنود بحسب رؤيته ومصلحته. ومتري هو أحد مهندسي الـ1701 عندما مثَّل لبنان وزيراً للخارجية بالوكالة في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة، وأشار إلى أن «كل قرارات مجلس الأمن يشوبها بعض الغموض، ومن يقرأ 1701 بتأنٍ يتبيّن أنه ينطوي على لهجة قوية، لكن منطوقه يحمل بعض التأويل». وقال متري في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «مشكلة القرار 1701 الأساسية والتي كانت سبباً وراء تفسيره من نواحٍٍ مختلفة، أنه يدعو إلى وقف الأعمال العدائية وليس وقف إطلاق النار، وكذلك شابه الغموض أو عدم الوضوح، خصوصاً في الفقرة (8) التي تتحدث عن ترتيبات أمنية في المنطقة الفاصلة ما بين مجرى نهر الليطاني والخطّ الأزرق وجعلها خالية من المسلحين»، مشيراً إلى أن «هذا القرار صدر تحت الفصل السادس، لكن الالتباس الأكبر الذي شابه عندما تطرق إلى مهمة القوات الدولية (يونيفيل)؛ إذ أطلق يدها باتخاذ الإجراءات الضرورية كافة لمنع أي تواجد عسكري أو ظهور مسلّح غير شرعي كما لو أنه جاء تحت الفصل السابع». ويتابع متري قوله: «لكن للأسف هذه القوات لم تقم بدورها، وبدلاً عن أن تكون قوّة مراقبة وتدخل، باتت هي نفسها تحت المراقبة» (في إشارة إلى تعقبها من قِبل مناصري «حزب الله» واعتراضها).

ظروف صدور القرار

فرضت تطورات حرب يوليو (تموز) 2006 إصدار هذا القرار تحت النار والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل، ولم يخفِ الوزير متري أن «القرار 1701 لم يشبع درساً، وكان همّ كلّ الأطراف الاتفاق على ما يوقف الأعمال العدائية ولو كان ملتبساً». ويقول متري إن القرار «لم يكن ليصدر لو لم تتخذ حكومة لبنان برئاسة فؤاد السنيورة قراراً بإرسال 15 ألف جندي إلى الجنوب. لكن لأسباب متعددة لم يستطع لبنان أن يفي بوعده بإرسال هذا العدد من الجنود، أولاً لعدم توفر الإمكانات وانشغال الجيش بكثير من المهمات بينها حفظ الأمن الداخلي».

صحيح أن القرار الدولي كان عرضة للخرق الدائم وهذا كان موضع تقييم دائم من مجلس الأمن الدولي الذي لطالما حذّر من تجاوزه، لكنه بقي إطاراً ضابطاً للوضع الأمني على طول الخطّ الأزرق الفاصل ما بين لبنان وفلسطين المحتلّة.

جسر دمَّرته حرب 2006 شمال بيروت (غيتي)

وذكّر متري بأن «الفترة التي فصلت إقرار القانون ووقف الأعمال العدائية في عام 2006، وبين 7 أكتوبر (2023) لم يبادر (حزب الله) إلى الاصطدام بأحد، ولم يكن سلاحه ظاهراً كما غابت نشاطاته العسكرية، واعتبر نفسه مطبّقاً للقرار 1701 على النحو المطلوب، في حين أن إسرائيل خرقت السيادة اللبنانية جوّاً آلاف المرات، حتى أنها امتنعت عن إعطاء لبنان خرائط الألغام؛ وهو ما تسبب بسقوط عشرات الضحايا من المدنيين اللبنانيين». كذلك أشار متري إلى أن «دبلوماسيين غربيين تحدثوا عما يشبه الاتفاق الضمني بأن كلّ ما هو غير ظاهر من السلاح جنوبي الليطاني ينسجم القرار مع 1701، وأن (حزب الله) لم يقم بعمليات تخرق الخطّ الأزرق، بل كانت هناك عمليات في مزارع شبعا وتلال كفرشوبا».

هل ما زال القرار قابلاً للحياة؟

يتردد طارق متري في الإجابة عن مستقبل هذا القرار؛ لأن «النوايا الفعلية لحكومة بنيامين نتنياهو غير واضحة». وسرعان ما يلفت إلى وجود تناقضات كبيرة في السياسة الدولية اليوم، ويقول: «الأميركيون يحذّرون نتنياهو من الغزو البرّي، لكنّ الأخير يزعم أنه يريد القيام بعمليات محدودة لضرب أهداف لـ(حزب الله)، وهذا غير مضمون»، مذكراً بأن «جناح اليمين المتطرف داخل الحكومة الإسرائيلية يدعو لاحتلال جزء من جنوب لبنان، لكنّ هؤلاء قلّة غير مؤثرة؛ لأن القرار في جنوب لبنان ونوعيّة الغزو البرّي تتخذه المؤسسة العسكرية»، متحدثاً عن «وجود إشارات متضاربة، إذ أنه عندما قدّم الأميركيون والفرنسيون ورقتهم لوقف النار، جاء التصعيد الإسرائيلي سريعاً في لبنان». وأضاف: «قبل الانتخابات الرئاسية يفضل الأميركيون ألا تندلع الحرب، وفي الوقت نفسه يغضون النظر عمّا تلحقه إسرائيل من أذى بحق المدنيين اللبنانيين».

سيناريو 2006

وتنطلق مخاوف وزير الخارجية السابق التجارب الإسرائيلية السابقة، قائلاً: «في عام 2006 زعمت إسرائيل أن الغاية من عملياتها في لبنان ضرب (حزب الله)، لكنها دمرت لبنان، واليوم تطبّق السيناريو نفسه، إن كانت لا تزال تحيّد مطار بيروت الدولي عن الاستهداف وتتجنّب تدمير الجسور، والفرنسيون متفهمون لذلك».

آثار القصف الإسرائيلي على بيروت خلال الحرب مع «حزب الله» عام 2006 (رويترز)

وشدد في الوقت نفسه على «مسؤولية لبنان بفتح نافذة دبلوماسية؛ إذ ليس لديه خيار سوى تطبيق القرار 1701 والاستعداد لإرسال الجيش إلى الجنوب». وتابع: «إسرائيل تعرف أن الحكومة اللبنانية ضعيفة وإذا حصلت على التزام لبناني بتطبيق القرار ستطالب بالأكثر».

وفي حين يسود اعتقاد بأن القرار 1701 لم يعد الوثيقة الدولية الصالحة لإنهاء الحرب القائمة على لبنان اليوم، استبعد طارق متري إصدار مجلس الأمن الدولي قراراً بديلاً عنه. ورأى أنه «يمكن لمجلس الأمن الدولي أن يجدد المطالبة بتنفيذه مع إعادة صياغته ووضع مقدّمة جديدة له». وتحدث عن «استحالة صدور قرار جديد لأن مجلس الأمن الدولي مشلول ولا يمكن إصدار الاتفاق على بديل، لأن الفيتو الأميركي والروسي موجودون ولا إمكانية لقرار آخر». وأكد أن «التقدم الإسرائيلي ميدانياً سيقفل الباب أمام الحلّ الدبلوماسي، أما إذا تمكن (حزب الله) من الصمود أمام التدخل الإسرائيلي فهذا قد يفتح باباً أمام الحلول السياسية».