حفيدة طباخ الملك فاروق تقدم وجبات بنكهة ملكية في «السيدة زينب»

كان الملك فاروق على علم بحركة الضباط الأحرار قبل 23 يوليو (تموز) 1952، حتى أن طباخه الخاص بدأ يجمع عهدته لتسليمها لمن يليه، بعد التأكد من نجاح مخطط خلعه من حكم مصر، ولم تكن هذه الفترة عادية بالنسبة لـ«الشيف» حسن، أو «حسّان» كما كان يطلق عليه، الذي أصر على توديع الملك حتى خروج باخرته مودعةً البلاد إلى غير رجعة، منذ ذلك الحين اعتزل الطهي داخل القصور، ليؤسس لنفسه مطعماً صغيراً داخل حارة ضيقة في إحدى أسواق منطقة السيدة زينب الشعبية، ليمارس فيه هوايته بعيداً عن صخب الأطباق المذهبة، حسبما تحكي ابنته «إحسان» لـ«الشرق الأوسط».
حينما أتى حسن من قريته في الشرقية، لم يكن يعلم شيئاً عن الطبخ، لكنه بدأ ممارسته هوايةً، بدأ «صبياً» في البداية، وتعلم الفرنسية بنفسه، إلى أن قادته مهارته لشق طريقه إلى مطابخ كبار رجال الدولة حينها، وعلى رأسهم رؤساء الوزراء السابقون، علي ماهر، ومصطفى النحاس، ومحمود فهمي النقراشي، فضلاً عن سعيد حليم، ابن الأمير محمد عبد الحليم، ابن محمد علي باشا، مؤسس الأسرة العلوية بمصر، قبل وصوله إلى قصر الملك.
تقول إحسان، إن والدها كان رئيس طاقم طهاة الملك، وكان يعمل تحت يديه العشرات في منظومة متناهية الدقة لإعداد شتى أنواع الأطعمة. وبلغت مهارته في الطبخ أنه كان يستطيع معرفة درجة جودة أو استواء الطعام فقط من تقريب بخاره إلى أنفه ليشتمه، دون حتى أن يتذوقه.
وتضيف، أن «الملك فاروق كان له طابع خاص في أطعمته، فقد كان حريصاً جداً على معيار جودتها وحسن طهيها، وكانت لديه أكلات مفضلة يميل إليها كثيراً، منها (حساء خلاصة الطيور)، الذي كان يعد الطبق الأكثر تفضيلاً بالنسبة له، حيث تذبح أنواع مختلفة من الطيور، مثل البط، والأوز، والدجاج، والحمام، ويصنع حساء واحد منها جميعاً، بوصفة لا تعد إلا له خصيصاً، كمان كان أيضاً يميل إلى الحمام المعد بطريقة الإسكالوب».
بعد عودة الوالد من رحلة توديع الملك، دخل حسن فيما يشبه الاعتكاف من كل ما يخص شؤون قصر الحكم، وعاد إلى المنطقة الشعبية ليفتتح المطعم في عام 1962؛ لأنه لم يرد العمل مع مسؤول كبير آخر، فليس هناك أكبر من الملك. واستهل مشواره بتقديم الأكلة الشعبية الأولى: الفول والطعمية، بعدها تحول إلى تقديم جميع الوجبات من لحوم، ودجاج، وحمام، وخضراوات، ومحاشٍ، وغيرها، حينها لم تكن معظم المطاعم المحيطة به موجودة من الأساس.
تربت إحسان داخل قصر الملك فاروق، ولم تكن تبلغ التاسعة من عمرها، كما تعلمت الفرنسية في مدرسة داخلية بالإسكندرية، وتحكي عن ذكرياته مع الملك قائلة «في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، كان يخرج من قصره في موكب مهيب بسيارته المكشوفة ونظارته الشهيرة، إلى ناحية شارع السد، ومنه إلى مسجد عمرو بن العاص لصلاة الجمعة، حينها كان يقف الجميع في صفين متوازيين لتحيته، وكنت أحد الأطفال المشاركين في هذه المراسم وسط جموع المحتشدين، ولا أنسى أن أثاث زواجي صنع داخل قصر الملك نفسه، بل كان سفرجي القصر يأتيني بوجبات الطعام يومياً أثناء زواجي، ولم أكن قد بلغت الثالثة عشرة بعد».
تحكي سمية (ابنة إحسان) والمسؤولة عن إعداد الوجبات بالمطعم «زبائننا يأتون إلينا من جميع البلدان، بالأمس القريب كان لدينا زبائن من فرنسا، اتصلوا بنا فور وصولهم إلى مطار القاهرة، لإعداد وجبة خاصة لهم، وهذا ما يفعلونه في كل مرة يأتون فيها للقاهرة، كما يأتينا كثيرون من دول الخليج أيضاً، استناداً إلى سمعة المكان، وكل زبون له ذوقه المختلف الذي نسعى لإرضائه».
في السياق نفسه، تقدم إحسان وابنتها مجموعة متنوعة من الأكلات المعدة منزلياً، بعدما تشربت الأولى سر المهنة من مراقبة أنامل والدها داخل مطبخ السرايا، ونقلته إلى حفيدته؛ أملاً في تحقيق حلمه بالحرص على استمرار المكان جيلاً بعد جيل.
بخلاف المطعم، تخرج الحاجة إحسان وأبناؤها في ليلة 27 رمضان، لإعداد ولائم خارجية تتولاها الأسرة بالكامل، في حين يقدم المطعم معظم وجباته بنظام «الدليفري»، ربما لضيق حجم المكان الذي لا يتعدى غرفة واحدة، تتوسطها 3 طاولات وعدد من الكراسي الخشبية.
ومن الجدير ذكره، إطلاق أهل المنطقة على المطعم «مطعم الخواجاية»؛ وهذا يرجع إلى ابن الشيف حسن، الذي تزوج من فتاة ألمانية جاءت للعيش معه في مصر، وكانت تتولى مراجعة حسابات المطعم، وتكتبها باللغة الألمانية، بينما كان طاهي الملك يكتبها بالفرنسية، وتكتبها ابنته التي تخطت الثمانين من عمرها الآن، باللغة العربية الفصحى، حسب ما يوضح محمد فتحي، حفيد طباخ فاروق، الذي يعمل أيضاً في المكان ذاته.
أحد الزبائن على طاولة صغيرة أمام مدخل المطعم، يتحدث لـ«الشرق الأوسط» عن سبب تفضيله هذا المطعم «يصنع المعادلة الثلاثية المطلوبة لدى كل زبون مصري، وهي أنه طعام منزلي، ومصنوع بجودة كبيرة، فضلاً عن أنه رخيص الثمن بشكل كبير، مقارنة بالمحال الأخرى».
أهمية المطعم ليست في الوجبات التي يقدمها لزبائنه، رغم جودتها، لكن في الحالة الخاصة التي يتمتع بها، فصاحبته بخلاف تربيتها في قصر الملك وإجادتها الفرنسية بطلاقة، لديها شغف كبير بالرسم، حتى أن والدها استضاف أصدقاءه في إحدى المرات، وحينما أوشكوا على الانصراف، خرجت لهم لتريهم صورة رسمتها لهم أثناء جلستهم، وكأنها كاميرا تصوير.
لا تزال إحسان تحتفظ بسر أكلات طاهي الملك، وتورثها لابنتها سمية القائمة على المطعم الآن، التي تمثل الجيل الثالث من طباخي العائلة، على أمل تقديمها لأبنائها لاحقاً، في سبيل إبهار الذواقة بطابعها «الملوكي» شديد الشعبية في الوقت ذاته.