حكومة إردوغان «تحتل» الإعلام التركي... ولا حيز للصوت المعارض

الحملة مستمرة رغم المقاضاة الدولية والمطالبات بتعويضات بالملايين

من احتجاجات أهل الصحافة العام الماضي للمطالبة بالإفراج عن الصحافيين المعتقلين (رويترز)
من احتجاجات أهل الصحافة العام الماضي للمطالبة بالإفراج عن الصحافيين المعتقلين (رويترز)
TT

حكومة إردوغان «تحتل» الإعلام التركي... ولا حيز للصوت المعارض

من احتجاجات أهل الصحافة العام الماضي للمطالبة بالإفراج عن الصحافيين المعتقلين (رويترز)
من احتجاجات أهل الصحافة العام الماضي للمطالبة بالإفراج عن الصحافيين المعتقلين (رويترز)

نبهت شكاوى أحزاب المعارضة التركية من غياب الحد الأدنى من الفرص لظهور مرشحيها للانتخابات الرئاسية، وكذلك تغطية مؤتمرات قادتها في الانتخابات البرلمانية، اللتين أجريتا معاً بشكل مبكر في 24 يونيو (حزيران) الماضي، مجدداً، إلى وضع الإعلام في تركيا، وتحوله إلى صوت واحد، بعد أن باتت غالبية وسائل الإعلام تتبع الحكومة، وتوالي الرئيس رجب طيب إردوغان، بشكل ما أو بآخر.

صفقات غامضة وقضايا دولية
منذ وقوع محاولة الانقلاب الفاشلة التي شهدتها تركيا، واتهم الداعية فتح الله غولن وحركة «الخدمة» التابعة له بتدبيرها، صادرت الحكومة عدداً من كبريات المجموعات الإعلامية، مثل «كوزا إيباك» وغيرها، وفرضت الوصاية عليها ثم أغلقتها، كما اعتقل عشرات الصحافيين العاملين في إصدارات قريبة من حركة غولن، فيما رصدت تقارير لمنظمات تعنى بمتابعة حرية الصحافة والإعلام عمليات شراء للصحف والقنوات التلفزيونية، وآخرها مجموعة «دوغان» الإعلامية التي بيعت لأحد رجال الأعمال المقربين للرئيس التركي، والتي تضم صحيفة «حرييت» وقناتي «سي إن إن تورك» و«دي»، وغيرها، وكانت تعد من المجموعات الأخيرة ذات التوجهات المعارضة.
ولم تعد قضية مصادرة وسائل الإعلام وفرض السيطرة عليها من جانب الحكومة التركية عقب محاولة الانقلاب الفاشلة التي مر عليها عامان قضية محلية تخص تركيا وحدها، بل تشعبت لتشمل أطرافاً أخرى. فبحسب تقرير لصحيفة «الغارديان» البريطانية، فإن استيلاء الحكومة التركية على شركات إعلامية مستقلة سيواجه تحدياً في قضيتين دوليتين، على أساس أن عمليات الاستيلاء على مليارات الدولارات تنتهك معاهدات الاستثمار التي تشمل بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي الأخرى.
وتهدف المطالبة المتعلقة ببريطانيا، التي تبلغ قيمتها أكثر من 5 مليارات دولار (3.8 مليار جنيه إسترليني)، ما يُقال إنه مصادرة بدوافع سياسية من قبل نظام الرئيس التركي رجب طيب إردوغان لمجموعة «كوزا إيباك» الإعلامية، حيث نقلت القضية إلى مركز تسوية المنازعات الاستثمارية التابع للبنك الدولي في واشنطن.
وتم تحريك هذه الدعوى من قبل شركة «إيباك» الاستثمارية القابضة، التي يرأسها رجل الأعمال التركي حمدي أكين إيباك الذي يعيش في بريطانيا. ومن ضمن شركاتها مجموعة «كوزا إيباك»، التي كانت تتبعها صحيفة «بوجون» وقناتها التلفزيونية وقناة «كنال تورك» في تركيا.
وترى مجموعة «إيباك»، التي كانت أولى المجموعات التي فرضت عليها الوصاية ثم صودرت بدعوى قربها من الداعية فتح الله غولن، أنه لن يكون بالإمكان أن تحصل على العدالة داخل تركيا، وبالتالي بدأت العمل في منتدى يخضع فيه نظام إردوغان «المثير للجدل» للتدقيق القضائي الدولي، بحسب الصحيفة البريطانية.

تحت إشراف صندوق المدخرات
تتكون مجموعة «إيباك المحدودة للاستثمار» من كثير من الشركات التي تعمل في مختلف القطاعات، بما في ذلك التعدين والبناء والطيران والزراعة والسياحة ووسائل الإعلام، وتم إغلاق منافذها الإعلامية وتحويل أصولها إلى الحكومة.
ويدير أوصياء عينتهم الحكومة مجموعة «كوزا إيباك» الإعلامية، التي يقبع مديرها تكين أكين إيباك في السجن لأكثر من عامين، وهو شقيق حمدي أكين إيباك رئيس شركة «إيباك» القابضة، وتخضع المجموعة لإشراف صندوق التأمين على الودائع والمدخرات التركي.
وتوفر معاهدات الاستثمار الثنائية، مثل المعاهدات الموقعة بين تركيا وبريطانيا، للمستثمرين وسيلة للحصول على تعويض عن المعاملة غير العادلة أو التمييزية، وهو ما حدث مع مجموعة «إيباك» التي قدرت أضرارها بما يتراوح بين 5 و6 مليارات دولار.
وصادرت الحكومة التركية عقب محاولة الانقلاب الفاشلة أكثر من 1100 شركة، وأخضعتها لإشراف صندوق التأمين على الودائع والمدخرات، واعتقل الصحافيون العاملون في الصحف والقنوات التابعة لأكثر من 149 وسيلة إعلامية ضمن هذه الشركات المصادرة.
وقال متحدث باسم مجموعة «إيباك» إن حصتها في السوق التركية وخارجها كانت تتألف من تجارة بمليارات الدولارات، وتم استهدافها عن عمد من قبل نظام إردوغان. وحتى قبل وقوع محاولة الانقلاب، أظهرت الحكومة التركية «التجاهل التام لحقوق الملكية وحقوق الإنسان وكل المبادئ والقواعد المعمول بها».
وقال ماركوس بورغستولر، وهو شريك في شركة «غبسون» للمحاماة في لندن، لـ«الغارديان»: «زعمت تركيا أن الشركة كانت جزءاً من حركة غولن، وهي الآن تحت وصاية صندوق تأمين الودائع والمدخرات في تركيا (...) لم يستثمر موكلي في صحيفة (زمان) مباشرة، ولكن في الشركة التي قدمت خدمات للصحيفة».

قضايا عالقة
يطالب المدعون خارج تركيا في القضايا التي تتعلق خصوصاً بوسائل الإعلام بتعويضات لا تقل عن 65 مليون يورو، لكن من المتوقع أن تستغرق القضايا سنوات عدة قبل إصدار الحكم.
وباتت الحكومة التركية تسيطر، وفق مراقبين، على 90 في المائة تقريباً من وسائل الإعلام في تركيا، واشتكت المعارضة في فترة الانتخابات الأخيرة من حرمانها من حقها في الظهور في وسائل الإعلام المملوكة للدولة، وهاجم محرم إينجه، مرشح حزب الشعب الجمهوري للانتخابات الرئاسية، شبكة قنوات «تي آر تي»، التابعة للدولة، لتغطيتها المستمرة لنشاطات وخطابات وتحركات إردوغان، وتجاهل باقي المرشحين، كما اشتكى من ممارسات أخرى، مثل قطع البث في مؤتمراته من جانب إدارة القمر الاصطناعي التركي.
وقبل الانتخابات، اشترت مجموعة «ديميرورين» مجموعة «دوغان» الإعلامية، التي تضم صحيفة «حرييت» وقناتي «سي إن إن تورك» و«دي» ووكالة أنباء «دوغان»، في أكبر صفقة عرفتها الساحة الإعلامية التركية، بلغت 1.2 مليار دولار. وعلى الرغم من أن صحف وقنوات مجموعة «دوغان» لم يكن ينظر إليها على أنها معارضة للحكومة تماماً، فإنه كان ينظر إليها باعتبار أن سياستها التحريرية مستقلة نسبياً في السنوات الأخيرة.
وسبق للمجموعة نفسها أن اشترت صحيفتي «وطن» و«ميلليت» وقناة «ستار» في عام 2011، وتحولت سياساتهما إلى موالاة الحكومة. وعلق الصحافي التركي البارز قدري غورسيل، الذي أطلق سراحه من السجن نهاية العام الماضي، على «تويتر»، بأنه بهذه الصفقة سيخضع 90 في المائة من الإعلام التركي لسيطرة الحكومة.

مطبوعات «حذرة»
في عام 2009، تعرضت مجموعة «دوغان» القابضة، التي تعمل أيضاً في مجالات الطاقة والتجارة والتأمين، لغرامة قياسية بلغت 2.5 مليار دولار بعد إدانتها بالتهرب من الضرائب، ما أثار جدلاً حول الضغوط الحكومية على وسائل الإعلام.
واضطرت المجموعة لبيع صحيفتي «ميلليت» و«وطن» وقناة «ستار تي في» لتحقيق بعض التوازن المالي.
ولفت مراقبون إلى أن صحيفة «حرييت» حرصت في الأشهر الأخيرة على عدم إثارة غضب السلطات في تغطياتها الإخبارية، رغم استمرار عمل بعض الكتاب الناقدين فيها.
وإذا كانت عمليات الاستحواذ والشراء قد أسهمت في تضييق مساحة الإعلام المعارض في تركيا إلى أدنى درجة، فإن وسائل التواصل الاجتماعي باتت تشكل مصدر إزعاج كبير للسلطات، ولذلك مرر البرلمان التركي في مارس (آذار) الماضي تشريعاً يضع جميع منصات البث على شبكة الإنترنت تحت مراقبة الهيئة المسؤولة عن البث في البلاد، وجاء ذلك بالتزامن مع صفقة الاستحواذ على مجموعة «دوغان»، ووصل حظر المواقع الإلكترونية على الشبكة العنكبوتية من قبل الحكومة التركية إلى أرقام ضخمة، حيث تحظر 172 ألف موقع إلكتروني، من بينها «ويكيبيديا» وآلاف من حسابات «تويتر».
ويلزم القانون الجديد الشركات بالحصول على ترخيص من الهيئة التنظيمية قبل بدء البث على الإنترنت، ويمكن للهيئة إيقاف خدمة البث في غضون 24 ساعة، بموجب حكم صادر عن المحكمة.
وذكر يمان أكدينيز، وهو أكاديمي يتابع سير الرقابة، أن تركيا تحظر نحو 172 ألف موقع إلكتروني، من بينها «ويكيبيديا». وكانت هناك فترات تم خلالها حظر موقعي «تويتر» و«يوتيوب»، وما زالت الآلاف من حسابات «تويتر» محظورة.

صحافيون «غير أحرار»
ونتيجة للممارسات التي تشهدها تركيا في ما يتعلق بالإعلام، خفضت منظمة «فريدم هاوس» الأميركية وضع تركيا من حيث الحريات من «حرة جزئياً» إلى «غير حرة»، في تقريرها عن الحريات في العالم لعام 2018. وتراجع تصنيف «الحقوق السياسية» في تركيا من 4 إلى 5، وانخفض تصنيف «الحريات المدنية» من 5 إلى 6. ولفت التقرير إلى أن استمرار محاكمات الصحافيين واعتقالهم، وإغلاق وسائل الإعلام، إضافة إلى أن الاعتقال استناداً إلى تغريدات أو آراء عبر وسائل التواصل الاجتماعي لا يزال ممارسة شائعة، سيؤدي إلى رقابة ذاتية واسعة النطاق، وتأثير بارز عام على الخطاب السياسي.
وقال رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر أخيراً إن «العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا لن تشهد تقدماً ما دامت تركيا تسجن صحافيين، وإن تركيا تتحرك بعيداً عن طموحاتها الأوروبية في الماضي، وسوف يتعين أن نرى نوع التقدم الذي ستحققه تركيا في الشهور المقبلة، لكن لن يكون هناك أي نوع من التقدم بينما يقبع صحافيون في سجون تركية».
واعتقلت السلطات في تركيا أكثر من 160 ألف شخص، وأغلقت نحو 140 من وسائل الإعلام، في حملة أمنية أعقبت محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016. وتقول جمعية الصحافيين الأتراك إن نحو 160 صحافياً يقبعون في السجون التركية، وتؤكد جماعات واتحادات دولية معنية بالصحافة أن تركيا الآن هي أكثر دولة تسجن الصحافيين في العالم.


مقالات ذات صلة

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق صورة تذكارية لعدد من أعضاء مجلس الإدارة (الشركة المتحدة)

​مصر: هيكلة جديدة لـ«المتحدة للخدمات الإعلامية»

تسود حالة من الترقب في الأوساط الإعلامية بمصر بعد إعلان «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» إعادة تشكيل مجلس إدارتها بالتزامن مع قرارات دمج جديدة للكيان.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )
إعلام الدوسري أكد أهمية توظيف العمل الإعلامي لدعم القضية الفلسطينية (واس)

السعودية تؤكد ضرورة تكاتف الإعلام العربي لدعم فلسطين

أكّد سلمان الدوسري وزير الإعلام السعودي أهمية توظيف العمل الإعلامي العربي لدعم قضية فلسطين، والتكاتف لإبراز مخرجات «القمة العربية والإسلامية» في الرياض.

«الشرق الأوسط» (أبوظبي)
المشرق العربي الهواتف الجوالة مصدر معلومات بعيداً عن الرقابة الرسمية (تعبيرية - أ.ف.ب)

شاشة الجوال مصدر حصول السوريين على أخبار المعارك الجارية؟

شكلت مواقع «السوشيال ميديا» والقنوات الفضائية العربية والأجنبية، مصدراً سريعاً لسكان مناطق نفوذ الحكومة السورية لمعرفة تطورات الأحداث.

«الشرق الأوسط» (دمشق)

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.