«داعش» يتمدد عبر «المنفردين»

ضرب في 3 دول بقارتين خلال يوم واحد لإثبات الوجود

فوضى عقب تفجير انتحاري ضد مركز انتخابي في مدينة كويتا الحدودية الاربعاء الماضي (رويترز)
فوضى عقب تفجير انتحاري ضد مركز انتخابي في مدينة كويتا الحدودية الاربعاء الماضي (رويترز)
TT

«داعش» يتمدد عبر «المنفردين»

فوضى عقب تفجير انتحاري ضد مركز انتخابي في مدينة كويتا الحدودية الاربعاء الماضي (رويترز)
فوضى عقب تفجير انتحاري ضد مركز انتخابي في مدينة كويتا الحدودية الاربعاء الماضي (رويترز)

تكبد «داعش» التنظيم الإرهابي الأكثر دموية خلال السنوات الماضية، خسائر هائلة في سوريا والعراق أخيراً بسبب هجمات التحالف الدولي وجيوش الدول، وهذه الخسائر أضحت تهدد «خلافته المزعومة»، لذلك لجأ إلى «عمليات خاطفة» في 3 دول مختلفة هي «باكستان، وسوريا، وكندا» في قارتين خلال يوم واحد فقط، كمحاولة لإثبات الوجود وأنه باقٍ ويتمدد.
يقول خبراء عسكريون واستراتيجيون، ومختصون في الحركات الأصولية لـ«الشرق الأوسط»، إن تمدد «داعش» في أكثر من قارة ليشعر الإعلام أنه موجود، وأنه لم يندثر، وأنه يخرج من مناطق تمركزه في العراق وسوريا لمناطق خارجية. لكن الخبراء أكدوا أيضاً «أننا أمام تمددات عسكرية سريعة ومتلاحقة تتمثل في مجموعات قتالية منفردة تأخذ القرار أحياناً بشفرة عن بُعد، أو بشفرة كلامية، أو بعملية نُفذت في منطقة أخرى... ومن المتوقع أن تكون هناك عمليات أخرى قادمة في الطريق».
- بيانات متتالية
ففي بيانات متتالية عبر حسابات التنظيم الإرهابي على تطبيق «تليغرام»، أعلن يوم 25 يوليو (تموز) الحالي تبنيه مسؤوليته الهجوم الانتحاري الخاص بصدم دراجة نارية لمركبة تابعة للشرطة قرب مركز اقتراع، وقتل انتحاري 29 شخصاً على الأقل بمدينة كويتا الباكستانية.
والبيان التالي كان بشأن سوريا، حيث تبنى التنظيم هجوماً استهدف محافظة السويداء في الجنوب، أوقع أكثر من 100 قتيل. والثالث كان تبنيه تنفيذ إطلاق النار في مدينة تورنتو العاصمة الاقتصادية لكندا، وتسبب ذلك في مقتل شخصين وإصابة 12 آخرين بجروح.
ويقول مراقبون إن «تلك الأعمال متوقعة من التنظيم، خصوصاً وأن (داعش) منذ بداية ظهوره عام 2014 وهو يركز على العمليات خارج حدود الأماكن التي يسيطر عليها، وعمل على ذلك منذ أن بدأ يضربه التحالف العربي على حدوده، فاعتمد استراتيجية (التأمين الحدودي)، وهي تقوم على ضرب الأذرع الخارجية، حتى يخف من الضغط على الأماكن المسيطر عليها».
وقال عمرو عبد المنعم، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «تمدد (داعش) في أكثر من قارة، ليشعر الإعلام أنه موجود؛ لكنه في الحقيقة ينحسر ويختفي».
بينما أكد اللواء محمد قشقوش، الخبير العسكري والاستراتيجي، أستاذ الأمن القومي الزائر بأكاديمية ناصر العسكرية العليا بمصر، أن «إعلان تبني العمليات الثلاث في يوم واحد تأكيد (مزيف) على وجوده وأنه لم ينتهِ»، لافتاً إلى أن الخطورة تكمن في تلك «العمليات الخاطفة» فهي تتم من عناصر تم تجنيدها إلكترونياً.
ويرجح خبراء أيضاً نزوح مقاتلي تنظيم داعش إلى بلاد المغرب العربي، بحثاً عن ملاذ آمن، وهرباً من هزائم سوريا والعراق. مؤكدين أن عدد مقاتلي «داعش» القادمين من بلاد المغرب يتراوح بين ثمانية آلاف وأحد عشر ألف مقاتل... وتأتي الجزائر في مقدمة الدول المستهدفة لتمركز أعضاء التنظيم، بما يشكل تحدياً أمنياً كبيراً للجزائر وللدول الأوروبية التي تتاخمها، ويُلقي بالمخاوف في قلوب تلك الدول الأوروبية بسبب انطلاق محتمل لموجات الهجرة، وطلب اللجوء إذا ما تمكن التنظيم الإرهابي من فرض سيطرته على مناطق من الجزائر.
وقال المراقبون إن «التنظيم ليس له مخرج الآن في ظل الخسائر المتكررة وفقدان الأراضي التي كان يستولي عليها، سوى الفرار بعناصره الباقية، والبحث عن أراضٍ جديدة في أي مكان لالتقاط الأنفاس».
- أجيال «داعش»
من جانبه، أوضح عبد المنعم، أن «داعش» فكرة، فالدول تستطيع ضرب الجزء العسكري؛ لكن الأفكار لا تموت، والإرهاب فكرة، ومواجهته بتحصين العقول.
وأضاف، أن الأفكار التي تكونت عند «داعش» خلال الثلاث سنوات الماضية، اعتمدت على صناعة جيل مكون من نساء ورجال وأطفال وشباب، الذين يتعاملون مع القضية (الجهادية) من خلال آيديولوجية... وهذا الجيل تم عمل إعداد له في مناطق الصراع، و«داعش» يستخدم آليات جديدة منذ عامين كانت غير متوفرة أو غير منتشرة بين التيارات (الجهادية) الأخرى، منها، الذئاب المنفردة، والتوغل في المجتمعات الغربية بطريقة الانفرادية «المنفردين»، ويحاول أن يبث التنظيم الرعب بهذه الذئاب عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والمواقع الإلكترونية، وإطلاق الشائعات في المجتمعات المنفتحة الكبيرة، مثل إشاعة «حدوث انفجار كبير في أحد الأماكن العامة ليدخل الرعب في نفوس الغربيين - أي العدو - من وجهة نظر الدواعش».
وحذر الخبراء من خطورة مراوغة تنظيم داعش الإرهابي الآن، والقيام بعمليات إرهابية في دول كثيرة من العالم عن طريق «الذئاب المنفردة» التي تعني أن منفذي العمليات الإرهابية يعملون بشكل فردي، ويشكلون خلايا محدودة العدد تعمل في التخطيط والتنفيذ، فضلاً عن «الخلايا النائمة» المستوحاة من تنظيم «القاعدة» وهي تكون دائماً في فترة الإعداد تعمل وتدرس وتحضر، لحين القيام بعمليات إرهابية.
- «ذئاب الدواعش»
«الذئاب المنفردة» هو تعبير يقصد به تحول شخص أو اثنين أو ثلاثة على الأكثر إلى مقاتلين يقومون باستخدام المتاح لديهم من أسلحة أو عتاد، دون وجود أي رابطة عضوية أو تنظيمية يمكن تتبعها، من خطوط عامة أو مناشدات من التنظيم لأعضائه أو أنصاره باستهداف دولة أو رعاياها بالقتل، كما حدث في استهداف المطارات والمساجد والأسواق والمقاهي والتجمعات.
المراقبون قالوا أيضاً إن «الذئاب المنفردة» هم أشخاص يقومون بهجمات بشكل منفرد دون أن تربطهم علاقة واضحة بتنظيم ما؛ لكنهم ينفذون هجمات مسلحة بدوافع عقائدية، سواء أكانت هذه العمليات بالأسلحة المتطورة، أو بالطرق البدائية مثل سكين المطبخ أو العصا أو حتى الدهس بالسيارات والشاحنات.
وقال اللواء قشقوش، يتم جذب وتجنيد عناصر «الذئاب المنفردة» من خلال شبكة الإنترنت، كما يتم من خلال الإنترنت التعرف على استراتيجيات التنظيم والأهداف التي يضعها بهدف شن هجمات إرهابية، ويكمل توفر وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت مهمة تدريب أفراد «الذئاب المنفردة» من خلال توفير الإرشادات اللازمة لصناعة القنابل الناسفة، واستخدام السلاح، وغيره من التدريبات العسكرية التي تحول هؤلاء الأشخاص لمنفذين ماهرين.
- رسالة العدناني
يشار إلى أن الناطق باسم تنظيم «داعش» أبو محمد العدناني دعا في تسجيل صوتي عام 2014 المتعاطفين مع التنظيم إلى قتل رعايا الدول في أي مكان، باستخدام أي سلاح متاح دون العودة إلى قيادة «داعش» أو حتى الانضمام إليه تنظيميا.
وأضاف عمرو عبد المنعم: «نجد أن هذه العمليات التي يقوم بها تنظيم داعش لها تأثير إعلامي كبير، والتخطيط لها يعتمد على آليات بسيطة جداً، وهو يستخدم حالياً النساء والأطفال وكبار السن، ويستخدم الوسائل غير التقليدية».
لافتاً إلى أن «داعش» ينحصر ولا يموت، وهذه لعبة سياسية تستخدمها القوى الكبرى، التي تستطيع أن تقضي على التنظيم بسهولة؛ لكن تُبقى التنظيم في أماكن بسوريا والعراق وليبيا، ليكون فزاعة للعالم العربي وبعض القوى الأخرى.
موضحاً أنه لا بد أن نقرأ انحسارات «داعش» وتمدده في إطار الآليات الفكرية لهذا التنظيم، ولا نقرأها من المنظور العسكري البحت... وحالياً موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» ضرب الكثير من الحسابات التابعة لـ«داعش»، وأيضاً على «فيسبوك»، و«تليغرام» هناك مشروعات لضرب حسابات «داعش» وبدأ ينحسر في بعض المناطق، وبالتالي كل هذا سوف ينعكس على الأرض.
- تجنيد إلكتروني
حذر الخبراء في هذا الصدد أيضاً من أن «داعش» عقب هزائمه على الأرض بات يسعى لإقامة «خلافة افتراضية» في الفضاء الإلكتروني يواصل من خلالها التواصل مع أنصاره وتجنيد الناشطين.
وقال صلاح الدين حسن، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «تركيز داعش على تبني الهجمات في الدول أخيراً تتماشى مع تكثيف وتيرة الهجمات من قبل المتعاطفين معه». لافتاً إلى أنه يلجأ إلى استخدام مواقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، و«فيسبوك»، و«إنستغرام»، و«تليغرام» لتدبير الهجمات الإرهابية، وتنسيق الأعمال والمهام لكل عنصر إرهابي بلغة مفهومة لهم، وغالباً تكون عبارة عن رموز لها دلالات معينة، مضيفاً: أن عناصره يلجأون إلى حصول المعلومات للمنشآت التي يسعون إلى استهدافها من خلال شبكة الإنترنت، حيث إن 80 في المائة من مخزونهم المعلوماتي يعتمد في الأساس على مواقع إلكترونية متاحة للكل، دون خرق لأي قوانين أو بروتوكولات الشبكة.
في غضون ذلك، حذرت تقارير عالمية من أن استراتيجية «النكاية والإنهاك»، التي وردت في كتاب «إدارة التوحش»، المرجع الأهم للتنظيم الإرهابي، تسبب خسائر فادحة للدول التي تتعرض لها، خاصة مع صعوبة تحديد هوية العناصر المقاتلة، وأماكن اختفائهم والأماكن المستهدفة بالعمليات الإرهابية، وهو ما يسبب وقوع الكثير من العمليات الإرهابية التي تهز كيان الدول وتضرب استقرارها وتهدد مواردها الاقتصادية، وتدفع الاستثمارات الأجنبية والسياحة إلى الهرب خوفاً من التعرض لتلك العمليات. وأكد الخبراء، أن لجوء «داعش» إلى هذه الاستراتيجية يهدف إلى تشتيت جهود مكافحته والقضاء عليه، حيث تعتمد تلك الاستراتيجية على توسيع ساحة الصراع وفتح بؤر جديدة، وتحويل أنظار التحالفات الدولية الموجه ضده إلى أماكن مختلفة من العالم.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.