بالنسبة للفنان ووزير الثقافة المصري الأسبق، فاروق حسني، فإن السفر مرادف للحرية المطلقة. ورغم ما يظنه البعض من أن رحلاته كأحد الفنانين البارزين تكون سمتها الرفاهية والمزارات الفاخرة، فإنه يقول في حديثه إلى «الشرق الأوسط» أنه يستمد مُتعته من السير في الشوارع لمسافات طويلة. كان للحديث معه نكهة خاصة وهو يتذكر طرائف وقعت له في أسفاره:
> السفر يعني «الحرية المطلقة» ففيه يتخلص جسد الإنسان من أعباء واقع مستمر، ويحلق في آفاق جديدة؛ ولذلك عندما يضيق بي الحال ويتحول إلى واقع رتيب، فإن السفر يصبح ضروريا. كما أنه قيمة ذهنية ونفسية وفنية عالية. عندما أدعو لشخص ما دعوة جميلة فإن أول ما أقوله له: «ربنا يمتعك بحرية السفر» باعتباره نوعا من الخلاص البدني والعقلي.
> لا أسافر لمجرد السفر في حد ذاته، إنما يكون ذلك للتعامل مع الناس والفنون والجدران والبنايات والأنهار والأشجار والمناخ وغير ذلك. وعلى الرغم من أن هناك أماكن كثيرة سبق لي مشاهدتها، فإنني لا أمانع في إعادة الكرة لأنها تسجل وتُثبت ما سبق لي معرفته، ومن هنا أعتبر السفر تثبيتاً للواقع وليس هروبا منه.
فعندما أريد أن أرى الجمال وأعيشه لا بد من السفر. في مصر أتوجه إلى الصعيد، أو أسير في الأماكن التراثية، حتى أتأملها بتأثيرها المتفرد على الواقع. أكثر ما يروق لي كابن للإسكندرية كورنيشها، لا سيما حي «بحري» حيث نشأت وفتحت عيناي وأنا أراه يعانق البحر والبحر يعانقه، بالإضافة إلى الميادين والشوارع القديمة مثل شارع شريف، وشارع السلطان حسين، وهي مناطق مليئة بالتفاصيل والمباني ذات الجمال العتيق، والطرز المعمارية الرائعة مثل «الارت نوفو» و«الارت ديكو».
> في الصيف أسافر إلى بيتي الواقع فوق ربوة بالساحل الشمالي، بعيدا عن ضوضاء القرى السياحية. فيه يأسرني الهواء المحمل باليود، ومنظر البحر من أمامه والبحيرة من خلفه في منظر بديع يجعلني أعيش حالة مثالية من الرضا والسكينة.
> أجد أن لكل مدينة لغتها حسب نوعية الأحياء والسكان وإيقاع حياتهم. هذه اللغة هي التي يتعامل معها الكيان الداخلي للفرد وتُحرك عواطفه، فتكون شحذاً للطاقة ومصدرا للإلهام.
> أول رحلة لي خارج مصر كانت لبلجيكا، وقد مررت قبلها بفرنسا ليوم واحد. كانت باريس تمثل لي جنون المعرفة وشبق الفن، إلى حد أنني عندما وصلت أمام متحف اللوفر ضربت الأرض برجلي بقوة، لأتأكد من أنني أمامه بالفعل، أو ربما لأترك أثرا مني هناك يقربني منه حين أبتعد. كانت زيارة خاطفة، وغير كافية أو مشبعة لي، حيث كان علي اللحاق بالقطار المتوجه إلى بلجيكا، التي انبهرت بمدنها وفى مقدمتها «غنت» و«لوفان». في هذه الرحلة تعلمت كيفية مصادقة المدن ودراستها، حيث كنت أتفحصها بنهم، حتى أدرك من أين تستمد جمالها، ووجدت أن المحصلة الجمالية تأتي من أشياء كثيرة، منها المباني والمتاحف والشوارع والمعاقل الموسيقية والفنية بشكل عام.
> أثناء رجوعي من بلجيكا كنت مُصراً أن أقضي في باريس 3 أيام أخرى، للتزود بجرعة أكبر من الجمال والفن والثقافة الباريسية. منها اتجهت إلى فينسيا التي سمعت وقرأت الكثير عن مدرستها الفنية المرتبطة بالعصور الوسطي، وعصر النهضة. والحقيقة أني كنت حائرا ماذا أشاهد فيها نظرا لثرائها.
> لكن تبقى أقرب المدن الأوروبية إلى نفسي هي روما لأنها لا تزال تحتفظ بأصالتها، ولم تتغير مبانيها التي يعود بعضها للقرن 14 بالإضافة إلى غناها بالمعالم الأثرية، مثل «البانثيون» الشامخ منذ نحو 2200 سنة. عندما تجلس أمامه تشعر أنك قد انتقلت نقلة عاطفية عبر التاريخ. ومما يزيد من أهمية روما بالنسبة لي، أنني عندما سافرت إليها لأول مرة في إطار عملي كرئيس لأكاديمية روما، التقيت فيها بعظماء من كبار الأدباء والفنانين والمثقفين من مختلف الجنسيات والتيارات.
> مررت بعدة مواقف طريفة، كان آخرها في مطار باريس حين سألني موظف الأمن أثناء إنهاء إجراءات الجمارك ما إذا كنت والد محمد صلاح. نفيت ضاحكا وأنا أسأله «هل تحبه؟ فرد: نعم أحبه جداً جداً».
> لا أميل للأكل كثيرا لذلك لا تكون المطاعم من ضمن أولوياتي في السفر، لكني في المقابل عاشق للمقاهي، لأني أحب الصعلكة، والفرجة على الناس. على سبيل المثال في باريس، أحب الجلوس في مقهى «لي دو ماغو» الذي لا يجذبني لأنه مكان لقاء الأدباء والمثقفين أو الصفوة على مر السنين، إنما لموقعه في الحي اللاتنيني العريق، ولأنه يؤدي إلى شوارع تشجع على المشي فيها لساعات من دون ملل. أما في روما فأحب الجلوس في مقهى «روزاتي» الذي يقع في «ميدان الشعب» حيث تتوسطه مسلة «رمسيس الثاني» ومجموعة من التماثيل الرومانية التي تظهر في مكان مرتفع أمامه المقهى.
> أما التسوق فيأتي في ذيل أولوياتي، وغالبا ما أشتري ملابسي بالصدفة، أثناء ممارستي هواية المشي. فأثناء السير أرى الأشياء بوضوح أكبر بما فيها واجهات المحلات، التي تُغريني أحيانا بدخولها وشراء ما أحتاجه.
> ما لا أستغني عنه في السفر هي أسطوانات الموسيقى الكلاسيكية التي أعشقها، إلى جانب زيارة المعارض. فهي ضرورية حتى أبقى مواكبا للحركات الفنية المستقبلية
> أسوأ تجربة سفر بالنسبة لي كانت تلك التي فقدت فيها حقيبتي بباريس، مما وضعني في مأزق كبير.
السفر هو «الحرية المطلقة» ففيه يتخلص الإنسان من أعباء الروتين
رحلة مع الفنان فاروق حسني
السفر هو «الحرية المطلقة» ففيه يتخلص الإنسان من أعباء الروتين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة