«سيكاريو» الجديد يفجر قضايا الحدود

أحلام البشر تتعثّر بسياسات الدُّول قبل الهجرة وبعدها

TT

«سيكاريو» الجديد يفجر قضايا الحدود

كان دونالد ترمب واضحاً منذ البداية عندما أعلن عن قراره بناء جدار عازل على طول الحدود الأميركية - المكسيكية لمنع تدفق اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين. أثار ذلك وحده، جدلاً واسعاً في المرابع التي تؤلف الكيان السياسي للنظام الأميركي كما في الوسط الإعلامي بأسره. هذا قبل أن يزداد الجدل حين طالب ترمب المكسيك بدفع تكلفة بناء ذلك الجدار العازل. الطلب الذي رفضته المكسيك سريعاً.
‫«سيكاريو: يوم المجند» (Sicario: The Day of the Soldado)‬، الفيلم الجديد الذي انطلق في مطلع هذا الشهر، حالفه حظ حسن: لقد بوشر بعرضه وقرار ترمب بفصل أطفال المهاجرين عن ذويهم، وهو القرار الذي تم الرجوع عنه أو على الأقل، تمييعه، قد اتخذ. الضّجة المثارة حوله منحت الفيلم بعض الحضور السياسي ولو أنّ غالبية من اشترى بطاقات الدّخول إليه فعل ذلك لأسباب تتعلق بكونه جزءا لاحقا من فيلم دينيس فيلنوف «سيكاريو» (2015) الذي حاز على فضول واسع بين روّاد الصالات لموضوعه، ولكون الفيلم المذكور وضع التيمة المتعلقة بمشاكل ضبط الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك على المحك، مضيفاً إليها العمليات التي تقوم بها أجهزة الأمن المختلفة ويمكن اعتبارها غير قانونية (لكنّها مسموحة).

- من تكساس وغواتيمالا
بينما كانت ولاية ألاسكا ما زالت روسية، كانت ولاية كاليفورنيا في القرنين السادس عشر والسابع عشر، إسبانية وفي العام 1821 باتت الولاية في جزئها الأكبر، مكسيكية. أول ما أخبرنا ذلك في السينما كانت أفلام زورو، ذلك المحارب بالسيف الذي عاد من إسبانيا إلى كاليفورنيا (وتحديداً إلى «مدينة الملائكة»، لوس أنجليس) ليجد أنّ السلطة تحوّلت من أبيه إلى قاتله الذي يعامل الرّعية بقسوة ويجني ثروته من فرض الضرائب عليهم. زورو (الذي ابتدعته سنة 1919 مخيلة الروائي جوناثان ماكولي) يرتدي القناع ويتّشح بالسواد ويهب للدفاع عن المظلومين ضد رجال السلطة، وبعد كل عملية يعود إلى الشخصية التي تتقرب من الرئاسة مدّعية أنّها لا تجيد القتال ولا علاقة لها بما يدور.
في ذلك الحين كانت ولاية تكساس وحتى سنة 1836 مكسيكية. في ذلك العام أُعلن استقلال الولاية وانضمامها إلى الولايات المتحدة الأميركية. هذا حدث على إثر اجتياح القوّات المكسيكية لقلعة «ألامو» التي نتج عنها إبادة المدافعين عنها (غير متفق على الرقم لكنّه يزيد قليلاً عن الـ200 شخص الذين دافعوا عن القلعة ضد 1800 جندي مكسيكي حسب المصادر).
لم تتوان السينما عن التطرق لهذه المعركة ودلالاتها أولاً عبر فيلم جون واين «ألامو» (1960)، ولاحقاً عبر فيلم «ذي ألامو» لجون لي هانكوك (2004) وبينهما، كما في أعقابهما، بمسلسلين تلفزيونيين يرويان، كما هذين الفيلمين، الواقعة.
بالنسبة لجون واين، اليميني المحافظ الذي لعب دوراً تأييديّاً كبيراً لحملة مكارثي ضد اليسار الأميركي في الخمسينات، كانت الموقعة إدانة للاحتلال المكسيكي وبطولة وطنية. فيلم هانكوك لم يبتعد عن هذا الخط، لكنّه جاء أقل أهمية وإتقاناً من الفيلم السابق.
إذا ما كان ذلك يشكل نوعاً من البحث في تاريخ العلاقة بين الولايات المتحدة والمكسيك، فإنّ معضلة الحدود بعد ذلك تجاوزت ذلك الجانب من التاريخ فلا مهاجر أقدم على التسلل عبر الحدود فعل ذلك لأنّ كاليفورنيا وتكساس كانتا مكسيكيتين. البديل هو البحث عن الأسباب الاقتصادية التي تدفع بالمكسيكيين (وأحياناً بلاتينيين آخرين عبر الحدود المكسيكية) للتوجه شمالاً والتسلل من خلال أنفاق وفتحات وثغور صوب أميركا حاضنة الحلم الكبير.
تمت ترجمة السعي لتحقيق ذلك الحلم إلى أفلام كثيرة خلال السنوات الغابرة كلها. لكنّ العقود الثلاثين الماضية أضحت اللجوء الأول الذي تختاره الأفلام لعرض قضايا المهاجرين ولبلورة مفهوم الحلم الأميركي الكبير ليس كدعاية أميركية تقليدية، بل كمقابل للواقع المعيشي الصعب الذي تعيشه الدول الممتدة إلى جنوب القارة.
فيلم غريغوري نافا «الشمال» (1983) ما يزال قوياً في مضمونه وطريقة عرض هذا المضمون إلى اليوم. النماذج التي يوفرها تأتي من غواتيمالا التي كانت تمر بحروب أهلية. شاب وفتاة من مواطني القارة الأصليين يهربان من بأس تلك الحروب حالمين بمستقبل أفضل في ذلك الشمال الأميركي. بوصولهما، واجهتما مصاعب كثيرة ومحاولات استغلال من قِبل عصابات التهريب، يبدأ فصل جديد من المحنة لكنّه لا ينهيها. الحلم ذاته ما يزال بعيد المنال عند انتهاء ذلك الفيلم ذي الطابع المأساوي.
«بلا اسم» (Sin Nombre) لكاري فوكوناغا (2009) يدور حول الوضع ذاته ومآسيه، إنّما مع الكثير من التأكيد على كيف تستغل العصابات المحجوزين قبل أن تحقق، لبعضهم في نهاية المطاف، إمكانية دخول الأراضي الأميركية ثم تركهم يواجهون مصائرهم بعد ذلك. الاختلاف الآخر هنا هو أنّ الفيلم يركّز على تجارب تهريب الأولاد الذين يعانون، أكثر من سواهم، من تبعات عمليات التهريب.

- ثغرات الحدود
إذا ما كانت تبعات الهجرة غير الشرعية ومخاطرها موزّعة بين عصابات المكسيك وصعوبة اللجوء والنّجاح في تكساس أو أريزونا أو كاليفورنيا (الولايات الثلاث المحاذية للمكسيك)، فإنّ بعض الأفلام دارت عند الحدود ذاتها كما فعل «سيكاريو» الأول ويفعل الجزء الثاني منه الآن.
أحد الأفلام التي تبرّع بالبحث في هذا الوضع خرج قبل ثلاثة أعوام (وشوهد في مهرجان تورونتو) بعنوان «صحراء» (Desierto) الذي هو الفيلم الأول لجوناس كوارون، ابن المخرج المعروف ألفونسو كوارون.
يبدأ «صحراء» برحلة لشاحنة من البشر تشقّ طريقها وسط الجانب المكسيكي من الصحراء الممتدة إلى الشمال الأميركي. فجأة يدّعي السائق ومعاونه أنّ عطلاً حدث للشاحنة وأنّ على الجميع المغادرة. أحدهما يشير إلى الأفق حيث تقع الحدود وحيث على الركاب (نحو خمسة عشر رجلا وامرأة) التوجه.
ما أن يعبر هؤلاء الحدود عبر ممر حتى ينفصل بعضهم عن العدد الغالب من المجموعة. أفراد هذه المجموعة يفاجأون بأنّهم أهداف متحركة لقناص أميركي آل على نفسه قتل المهاجرين غير الشّرعيين جاعلاً من هذا الفعل منهجاً يزاوله مع كلبه الذي يأمره فيلحق بالبعض لنهشهم وقتلهم.
ما يلبث هذا القناص أن يوجه اهتمامه (وبندقيته وكلبه) إلى الزمرة التي انفصلت عن تلك المجموعة التي تم القضاء عليها. والفيلم من هنا هو سعي للبقاء حياً يتناقص عدد السّاعين حتى يتبلور عن شاب وفتاة وأمل قليل في الفرار من عطش الصحراء أو رصاص القاتل.
يحمل الفيلم إدانة، بالطبع، للأميركي القاتل الذي هو امتداد خيالي لمجموعة من المواطنين الأميركيين المسلحين الذين قرروا، منذ عشر سنوات، الانتشار عند ثغرات الحدود للقبض على المهاجرين غير الشرعيين وتسليمهم إلى السلطات لمساعدتها في إخلاء أميركا من هؤلاء.
لعب غايل غارسيا برنال دور الهارب - الناجي ومثّل جفري دين مورغن دور القناص. وكان الأول قد ظهر في فيلم أليخاندرو غارسيا إيناريتو «بابل» الذي لم يكن عن الهجرة غير المشروعة بشكل كامل، بل عن القرية الكونية التي تمّ فرضها على العالم من قبل حل مشاكلهم الاجتماعية والثّقافية والاقتصادية.
واحدة من حكايات الفيلم الأربع التي تلعب على الشاشة على نحو متواز، كانت حول مكسيكية بأوراق إقامة قانونية ترعى ولدي أميركيين (براد بيت وكيت بلانشِيت) وتضطر، خلال غيابهما في المغرب، لأخذ ولديهما إلى عرس ابنها في إحدى قرى الحدود المكسيكية. حين عودتها تجد نفسها ممنوعة من دخول أميركا ما يؤدي إلى محاولة دخولها عنوة عبر طريق صحراوي فتتوه مع الولدين لبعض الوقت.
التأكيد هنا على استمرار معاناة المهاجرين غير المحسوبة، ولو أنّها بالطبع أقل من معاناة أولئك الذين يدخلون البلاد بحثاً عن العمل فيمتزجون بعناصر المجتمع البشرية ومكوّناتها من مدن وجغرافيا ومتاهات أخرى.

- مبررات
في «جبهة أمامية» (Frontera) لمايكل بيري (2014)، تبرز مشكلة أخرى قوامها عدم الثّقة واستعداد أحد الأطراف لاتخاذ موقف ما، فقط لأنّ الطّرف الآخر مختلف في العنصر ولون البشرة. بطل الفيلم (إد هاريس) لديه مزرعة عند الحدود. ذات يوم يتسلّل إلى المكان شابان مكسيكيان. أحدهما يبحث عن عمل ليعيل زوجته الحامل والثاني يصاحبه لمساعدته. في الوقت ذاته مجموعة من الشبان البيض تتلهى ببندقية وأحدهم يطلق النار فيصيب زوجة صاحب المزرعة ويقتلها. الريبة الجاهزة من نصيب المكسيكي (مايكل بينا) وعليه يتم اعتباره مذنباً حتى من قبل التأكد مما حدث. حين تتكشف الحكاية (قبل فوات الأوان) يدرك صاحب المزرعة أنّ ابن رئيس بوليس المنطقة هو الذي أطلق النار وها هو والده يسعى لإخفاء الأمر إذا استطاع.
هناك نحو 100 فيلم آخر تدور أحداثها حول تلك الحدود الملتهبة بالرغبات كما بردود الفعل. وكلّها تنقسم على نفسها إمّا للدفاع عن المهاجرين من مدخل إنساني أو لتوظيف ذلك في أفلام تشويق ومغامرات. هناك قلّـة تنظر من زاوية حق أميركا الدفاع عن حدودها. بذلك استمرت القضية مثارة عبر تلك الأفلام (التي لم نعرض سوى القليل مما شوهد منها) تواكب حيرة المسؤولين في كيفية معالجة هذه الأزمة وحروبها المستمرة.
وهذا ما يقودنا مجدداً إلى فيلمي «سيكاريو». فالفارق بين «سيكاريو» لدينيس فيلنوف وبين «سيكاريو: يوم المجند» للإيطالي ستيفانو سوليما (وكلا المخرجان هاجر سينمائياً إلى هوليوود) هو أنّ الأول يتّخذ أسلوب المعالجة التقريرية ليكشف عن أنّ المشاكل على الحدود تتجاوز المبادئ السياسية لتكشف فساداً على جانبي الحدود. من الجهة المكسيكية عصابات الكارتل التي تهرّب المخدرات إلى أميركا والأجهزة الأمنية التي تُبيح لنفسها عمليات قتل واستيلاء على المخدرات.
أمّا الفيلم الحالي، فينتقي (تبعاً لكاتب السيناريو تايلور شريدان الذي وضع كذلك سيناريو الفيلم الأول)، ربط مشاكل الهجرة بمشاكل أخرى متبلورة مؤخراً، وهي تسلّل إرهابيين عبر الحدود. بذلك، لجانب أسباب أخرى تتنفس من رئة الفيلم المنحاز، يمرّر الفيلم تبريره لعمليات الأجهزة الأميركية مهما بلغت من القسوة والعنف.


مقالات ذات صلة

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

يوميات الشرق جوني ديب لفت الأنظار بحضوره في المهرجان (تصوير: بشير صالح)

اختتام «البحر الأحمر السينمائي» بحفل استثنائي

بحفل استثنائي في قلب جدة التاريخية ، اختم مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» فعاليات دورته الرابعة، حيث أُعلن عن الفائزين بجوائز «اليُسر». وشهد الحفل تكريمَ

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق ياسمين عبد العزيز في كواليس أحدث أفلامها «زوجة رجل مش مهم» (إنستغرام)

«زوجة رجل مش مهم» يُعيد ياسمين عبد العزيز إلى السينما

تعود الفنانة المصرية ياسمين عبد العزيز للسينما بعد غياب 6 سنوات عبر الفيلم الكوميدي «زوجة رجل مش مهم».

داليا ماهر (القاهرة )
يوميات الشرق رئيسة «مؤسّسة البحر الأحمر السينمائي» جمانا الراشد فخورة بما يتحقّق (غيتي)

ختام استثنائي لـ«البحر الأحمر»... وفيولا ديفيس وبريانكا شوبرا مُكرَّمتان

يتطلّع مهرجان «البحر الأحمر السينمائي» لمواصلة رحلته في دعم الأصوات الإبداعية وإبراز المملكة وجهةً سينمائيةً عالميةً. بهذا الإصرار، ختم فعالياته.

أسماء الغابري (جدة)
يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
سينما «من المسافة صفر» (مشهراوي فَنْد)‬

8 أفلام عن أزمات الإنسان والوطن المُمزّق

تُحرّك جوائز «الأوسكار» آمال العاملين في جوانب العمل السينمائي المختلفة، وتجذبهم إلى أمنية واحدة هي، صعود منصّة حفل «الأوسكار» وتسلُّم الجائزة

محمد رُضا‬ (سانتا باربرا - كاليفورنيا)

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».