«ابن النجار».. يقترب من الرئاسة

جوكو ويدودو يشبه أوباما.. ويعد النسخة الاندونسية لأبراهام لينكولن

«ابن النجار»..  يقترب من الرئاسة
TT

«ابن النجار».. يقترب من الرئاسة

«ابن النجار»..  يقترب من الرئاسة

تصوت إندونيسيا، ثالث أكبر ديمقراطية في العالم، اليوم لاختيار رئيس للبلاد.. ولكن يبدو أن الإندونيسيين قد حسموا أمرهم تجاه الرئيس المقبل. حيث تبدو حظوظ جوكو ويدودو أكبر في الوصول إلى كرسي الرئاسة، حسب جميع استطلاعات الرأي.
فعمدة العاصمة جاكرتا يتفوق على منافسه الجنرال السابق بالجيش برابوو سوبيانتو، بنسبة عالية، ويتمتع بجماهيرية واضحة خاصة بين الشباب، الذي يسعى إلى التغيير. وذاع صيت جوكو ويدودو المدعو «جوكوي»، الذي كان غير معروف عموما قبل سنتين، بسرعة فائقة على الساحة السياسية، وأصبح من أبرز الشخصيات الوطنية بالنسبة للعديد من الإندونيسيين. وقد يصبح الرجل (53 سنة)، صاحب الوجه اللطيف الذي يقول البعض إنه يشبه باراك أوباما، أول رئيس إندونيسي من أصل متواضع، لا ينتمي إلى النخبة السياسية العسكرية، وهو ابن نجار نشأ في كوخ من قصب الخيزران في ضواحي مدينة سولو التي تضم نصف مليون نسمة في جزيرة جاوا، وعمل كبائع أثاث قبل أن ينشئ شركته الخاصة للاستيراد والتصدير، مما سمح له بكسب شهرة واستقلال مالي.
بدأ «جوكوي» حياته السياسية قبل تسعة أعوام وتحديدا في عام 2005 عبر حزب النضال الديمقراطي الإندونيسي عندما خاض المنافسة على عمادة مدينة سوراكارتا مسقط رأسه والمعروفة أيضا باسم «سولو». تحت ولايته، خضعت «سولو» إلى عملية تغيير شاملة في مسارها حيث تحولت إلى مدينة سياحية وثقافية. أكسبه نجاحه كعمدة حب الناس في «سولو»، مما مكنه من الفوز بولاية ثانية في عام 2010. بيد أنه استقال في منتصف ولايته ليبدأ التحدي التالي وهو عمدة جاكرتا.

* حلم الرئاسة
* أتى إلى المشهد السياسي مكتسبا سمعة أنه رجل الشعب، وأنه يختلف تماما عن السلالة المعتادة في السياسة الإندونيسية التي تهيمن عليها شخصيات سلطوية وقوية من زمرة الأثرياء.
ويبدو أن غالبية الإندونيسيين، وفقا لاستطلاعات الرأي، مفتونون بـ«جوكوي»، الذي أعطى أبعادا جديدة للسياسات، وذلك خلال عام من إدارته مدينة جاكرتا الضخمة. هو رجل متواضع من خارج النظام، يختار دائما أن يحمل حقائبه الخاصة عندما يسافر.
تضمنت إسهامات «جوكوي» في أوائل عهده كعمدة تخفيف الإجراءات التجارية، وتحسين الخدمات الصحية الأساسية، وتقليل الازدحام المروري، وتحسين ظروف المعيشة في المجتمعات الفقيرة. يعد سجل إنجازات «جوكوي» رائعا في دولة مثل إندونيسيا التي يوجد بها الكثير من المواطنين الذين اعتادوا على الأداء الضعيف للمسؤولين. اشتملت مهمته القصيرة البارزة كعمدة لجاكرتا على البطاقات التي أدخلها في قطاعي الرعاية الصحية والتعليم، حيث أصبحت هذه البطاقات بمثابة هدايا للفقراء. كما أطلق نظام دفع الضرائب عبر الإنترنت لمنع الاحتيال الضريبي.
وركز «جوكوي» عندما كان حاكما لجاكرتا على التعامل مع قضايا انعدام الكفاءة والفساد، ومعالجة مشكلة الفيضانات المستمرة. وفي بلد يهيمن عليه قادة النخبة فإنهم نادرا ما يكلفون أنفسهم عناء الخروج من المكاتب المكيفة للالتقاء بالناس بشكل يومي للاستماع إلى حاجاتهم وتطلعاتهم. دفعت تلك الإنجازات التي قام بها حزبه إلى أن يدفعوا به ليصبح رئيس إندونيسيا المقبل.
كتب إندي بيوني، محرر بارز في صحيفة «جاكرتا بوست»، أنه «إذا جرى انتخاب (جوكوي) رئيسا للبلاد، فستكون تلك نقطة تحول لإندونيسيا وللديمقراطية». وعلق بأنه «زعيم غير ملوث بالماضي والثقافة السياسية الفاسدة لسوهارتو». إنه يحمل صورة زعيم متواضع ونزيه ليست لديه أجندة أخرى غير خدمة الشعب. وقال «جوكوي» للناخبين الإندونيسيين الشهر الماضي إنه يريد أن يبدأ تقليدا سياسيا جديدا «حيث لا يكون فيه الرئيس مجرد زعيم حزب سياسي، ولكن يكون أفضل المرشحين».

* زياراته الارتجالية الشهيرة
* السر الحقيقي وراء حب الناس لـ«جوكوي» هو زياراته العفوية على الأرجح، أو «الزيارات غير المعلنة». ابتكر هذا النوع من الزيارات عندما أصبح عمدة سوراكارتا، وجعله روتينا خلال فترة 16 شهرا التي قضاها كعمدة لمدينة جاكرتا. ويظهر «جوكوي» في الأسواق بصورة غير معلنة، ويتحدث إلى الباعة. كما يجري عمليات تفتيش ميدانية للمكاتب الحكومية بهدف إبقاء الموظفين قيد أعمالهم. يقول المعجبون إن «جوكوي» يحب أن «يرى بعينيه ويصلح المشكلات بيديه».
يقوم «جوكوي» ذو البنية الصغيرة والنحيفة، واضعا قميصه الكاروهات خارج سرواله ومشمرا أكمامه، وبابتسامته الواسعة التي سريعا ما ترتسم على محيا من حوله، بالتجول يوميا في الشوارع والأحياء الفقيرة والأسواق التقليدية للتحدث والاستماع إلى الناس. أثبت نهجه الميداني شعبية واسعة بين الناس الذين يخشون الفاسدين والسياسيين المنعزلين.
لقد جعل يوم الجمعة يوما يذهب فيه إلى العمل على دراجته أملا في أن يقنع مزيدا من أهالي المدنية، الذين يتجاوزون 10 ملايين نسمة (ويصلون إلى 28 مليون نسمة إذا احتسبت الضواحي الخارجية) في أن يتخلوا عن سياراتهم.

* قصة الشقاء حتى الاغتناء
* وصفت قصة جوكوي بأنها النسخة الإندونيسية من قصة أبراهام لينكولن، فهي قصة نجل النجار الذي يمتلك سيرة ذاتية من الكفاح والشقاء حتى الاغتناء. ولد لأب يعمل نجارا، وترعرع فقيرا كابن أكبر فوق أشقاء أربعة. حينما كان صبيا كان يساعد والده في فترة ما بعد الظهيرة عقب المدرسة، حيث يجمع ويقطع جذوع الأشجار. وقد قضى سنوات شبابه كلها في كوخ من أعواد الخيزران على ضفاف نهر مائل للفيضان، لينطلق إلى القصر ذي الأعمدة البيضاء في جاكرتا من خلال عمله الشاق وبساطته.
عندما كان صبيا كان جوكوي عازما على الهرب من ذلك المصير باستخدام أكثر الأساليب موثوقية التي يعلمها – التعليم. وعندما جاء وقت التعليم الثانوي كان تواقا ليلتحق بمدرسة «SMA 1»، وهي أفضل مدرسة في سولو. غير أنه اكتشف وقتها، كما هو الحال الآن، أن الغشاشين فقط هم الذين يزدهرون. وقال في مقابلة مع وسائل الإعلام «تجاوزت السنة الأولى من التعليم الثانوي بدرجات جيدة.. لكن كان هناك بعض الناس يغشون (والتحقوا بالمدرسة قبلي حيث تم نقلي إلى SMA 6، وهي مدرسة فنية حيث شعرت بأنني طالب من الدرجة الثانية). ولمدة ستة شهور كنت حزينا وحبست نفسي في غرفتي. لم تكن لدي الرغبة في الذهاب للمدرسة وأصابتني الحمى ومرض التيفود».
بحلول عام 1980، تغلب جوكوي على خيبة أمله ونال شهادة في الهندسة في عام 1985، وحصل على أول وظيفة له في طاحونة اللب في مرتفعات تاكينغون الوعرة بإقليم آتشيه في أقصى غرب إندونيسيا. وبعد أربع سنوات، أسس مشروعا للأثاث، صار مشروعا عالميا بحلول عام 2010، وكان يستحق ما يقدر بـ1.5 مليون دولار.
تزوج جوكو من محبوبته في عام 1986 وأنجب ثلاثة أطفال وكان رجل عائلة بحق. وفي مقابلة مع قناة تلفاز «مترو» الإخبارية قال إن عائلته لم تكن سعيدة عندما قرر الانخراط في عالم السياسة عام 2005، حيث خافوا ألا يكون لديه وقت باق لهم. ومنذ ذلك الحين لم يخرجوا معا في رحلة طويلة كعائلة واحدة، كما أضاف للقناة الإخبارية «قبل أن أكون العمدة، كنت أذهب مع أطفالي إلى المدرسة، ثم أركض مع زوجتي قبل الذهاب إلى المصنع. وكنت أجلب الأطفال من المدرسة مرة كل فترة إذا لم أكن مشغولا في العمل».
يعيش الزوجان ويرتديان الملابس البسيطة. وقالت صحيفة «جاكرتا بوست» إن السيدة إيريانا، زوجته، لم تشاهد مرتدية للسلع المشهورة، وإن معظم ملابسها تشتريها من سوق منسوجات تاناه ابانج الكبيرة. وكانت نادرا ما تحضر المناسبات العامة، حيث قالت للصحيفة «إننا نترك كل شيء يسير على طبيعته. لا يوجد شيء خاص في تلك الأمور».
وهناك جانب آخر من شخصيته، يربطه بعامة الشعب، وهو ميله إلى موسيقى الروك الصاخبة، وبمجرد ما ابتاع غيتارا جديدا انضم عضوا في فرق الموسيقى المعدنية الصاخبة. كان دائما ما يجد عزاءه في الموسيقى حتى خلال أكثر أيامه صعوبة. ولا تزال الموسيقى هي صاحبته حال اندفاعه من منصب إلى آخر، كما تراه يشارك في الحفلات الموسيقية الصاخبة في جاكرتا.
في يونيو (حزيران) 2013، صدر فيلم يصور مرحلة الطفولة والشباب لجوكوي. لكن جوكوي أعرب عن اعتراضه على بعض ما ورد في الفيلم قائلا إنه شعر بأن حياته كانت حياة بسيطة ولا تستحق عرضها في فيلم مستقل.

* الدين
* يعتبر جوكوي من أهل إندونيسيا الأصليين، وهو مسلم محافظ من الذين ذهبوا إلى مكة المكرمة لأداء فريضة حج سريعة مؤخرا ليضع حدا لحملة التشويه التي طالته وتصفه بأنه صيني العرق ومسيحي الديانة. والصور الأخيرة لجوكوي، يرتدي فيها الجلباب الأبيض ويصلي في مكة المكرمة، قد وزعت على وسائل الإعلام الاجتماعية، في حين أن صور التلفاز أظهرت الرجل البالغ من العمر 53 عاما وهو يؤدي طقوس الطواف حول الكعبة. كما أنها تعتبر تقليدا من التقاليد، حيث أدى جوكوي فرضية الحج في مرة سابقة إبان سباق اعتلاء منصب عمدة سولو، وأثناء التنافس على منصب حاكم جاكرتا.
لكن سمته الجاذبة هي أنه دائما ما يبدو على استعداد لتحمل المخاطر من أجل مستقبل علماني تعددي. لكن منافسه في سباق جاكرتا هو باسوكي تجاهجا بورناما، والذي يعرف باسم اهوك، وهو مسيحي وعضو في الأقلية العرقية الصينية.

* السياسة الخارجية
* يقول ويدودو إنه سوف يشهد مراسم التنصيب في سفارة إندونيسيا لدى فلسطين إذا ما انتخب رئيسا للبلاد.. حيث صرح، حسبما نقل عنه موقع «tempo.co» في بونتياناك، غرب كليمانتان «لقد أكدنا إيماننا الراسخ بأننا نؤيد استقلال فلسطين تأييدا كاملا، وبالتالي، فإن إقامة سفارة هناك هي أمر لا محيص عنه». وقد أثار جوكوي التكهنات بشان أنه يلعب بقضية فلسطين فقط ليضمن لنفسه دعم الناخبين في البلاد. وقال إنه يعرف السفير الفلسطيني لدى إندونيسيا منذ فترة طويلة. وقال جوكوي «فلتسألوه منذ متى ونحن أصدقاء. واسألوه أيضا، هل حقا أنه أرسل فريق كرة القدم الفلسطيني مرة واحدة إلى سوركارتا؟».
وقد تعهد جوكوي ببناء علاقات متينة بين إندونيسيا وباقي الدول من خلال المنهج الثلاثي للعلاقات الحكومية - الحكومية، والاتصالات التجارية، والتبادلات الشعبية. أما بالنسبة للاشتباكات العسكرية فيجب أن تكون الملاذ الأخير، على حد قوله، في التعامل مع النزاعات الثنائية أو متعددة الأطراف.
ولكن مع الحديث اللين، فقد أكدت الدول الصغيرة على أهمية حراسة السيادة الوطنية. «نريد لإندونيسيا أن تكون قوة بحرية في هذا العالم. نريد أن نستحوذ على البحار. نريد لتلك الدولة أن تنفذ سلطاتها. ونريد لهذه الدولة أن تحظى بالاحترام».

* الجوائز والأوسمة
* فاز جوكوي بالمركز الثاني في جائزة أفضل عمدة في العالم لعام 2012. وقد اعترف بإنجازاته إبان توليه المنصب في مسقط رأسه سوراكارتا من أجل «تحويل مدينة تعاني من الجريمة إلى مركز إقليمي للفن والثقافة ومدينة جاذبة للسياح». وقد أدرج على قائمة أحد المفكرين العالميين الرائدين لعام 2013 في مجلة السياسة الخارجية. وقد أدرجته مجلة «فورتشن» لعام 2014 كأحد أعظم 50 قائدا عالميا. وعلى الرغم من مقاومة محافظ جاكرتا جوكو «جوكوي» ويدودو، فإن مجموعة من صناع السينما قد أصدروا فيلما دراميا يصور بداياته المتواضعة.
ونظرا لأسلوبه المباشر وسجيته النقية، فإنه غالبا ما تجري مقارنة جوكوي بصورة قديمة لباراك أوباما في عام 2008 في جزء من شخصيته المؤثرة التي يتمتع بها والتركيز على التغيير، حيث قضى أوباما أيضا حياته الأولى في إندونيسيا. وحقا فإن ابتسامته العذبة ونظرة عينيه الضيقتين وتركيبه الجسماني البسيط، منحته مظهرا يبدو وكأنه ابن عم باراك أوباما المفقود منذ زمن بعيد. هل الضجيج المحيط بترشح جوكوي له ما يبرره؟
يشعر المتشككون بالقلق، وهناك بعض منهم يرجحون أن الرئيس جوكوي سوف يفقد بريقه الأخاذ بمجرد اعتلائه منصب الرئاسة. وإندونيسيا، بعد كل شيء، عبارة عن دولة مجزأة جغرافيا، ودولة معقدة من 250 مليون نسمة، مع الكثير من الهرج والمرج في كل مكان. وعقب ذلك، فلم يأخذ أوباما الكثير من الوقت حتى خبا بريقه عقب التنصيب.
إن إعجاب الجميع بجوكوي من المواطن الإندونيسي العادي وحتى الشركات الدولية الضخمة هو بمثابة نسمات من الهواء المنعش.. وهو أفضل أمل أنتجته الديمقراطية الإندونيسية لإنهاء الفساد والمحسوبية الراسخة من قبل النخبة العسكرية التقليدية السابقة.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.