«ابن النجار».. يقترب من الرئاسة

جوكو ويدودو يشبه أوباما.. ويعد النسخة الاندونسية لأبراهام لينكولن

«ابن النجار»..  يقترب من الرئاسة
TT

«ابن النجار».. يقترب من الرئاسة

«ابن النجار»..  يقترب من الرئاسة

تصوت إندونيسيا، ثالث أكبر ديمقراطية في العالم، اليوم لاختيار رئيس للبلاد.. ولكن يبدو أن الإندونيسيين قد حسموا أمرهم تجاه الرئيس المقبل. حيث تبدو حظوظ جوكو ويدودو أكبر في الوصول إلى كرسي الرئاسة، حسب جميع استطلاعات الرأي.
فعمدة العاصمة جاكرتا يتفوق على منافسه الجنرال السابق بالجيش برابوو سوبيانتو، بنسبة عالية، ويتمتع بجماهيرية واضحة خاصة بين الشباب، الذي يسعى إلى التغيير. وذاع صيت جوكو ويدودو المدعو «جوكوي»، الذي كان غير معروف عموما قبل سنتين، بسرعة فائقة على الساحة السياسية، وأصبح من أبرز الشخصيات الوطنية بالنسبة للعديد من الإندونيسيين. وقد يصبح الرجل (53 سنة)، صاحب الوجه اللطيف الذي يقول البعض إنه يشبه باراك أوباما، أول رئيس إندونيسي من أصل متواضع، لا ينتمي إلى النخبة السياسية العسكرية، وهو ابن نجار نشأ في كوخ من قصب الخيزران في ضواحي مدينة سولو التي تضم نصف مليون نسمة في جزيرة جاوا، وعمل كبائع أثاث قبل أن ينشئ شركته الخاصة للاستيراد والتصدير، مما سمح له بكسب شهرة واستقلال مالي.
بدأ «جوكوي» حياته السياسية قبل تسعة أعوام وتحديدا في عام 2005 عبر حزب النضال الديمقراطي الإندونيسي عندما خاض المنافسة على عمادة مدينة سوراكارتا مسقط رأسه والمعروفة أيضا باسم «سولو». تحت ولايته، خضعت «سولو» إلى عملية تغيير شاملة في مسارها حيث تحولت إلى مدينة سياحية وثقافية. أكسبه نجاحه كعمدة حب الناس في «سولو»، مما مكنه من الفوز بولاية ثانية في عام 2010. بيد أنه استقال في منتصف ولايته ليبدأ التحدي التالي وهو عمدة جاكرتا.

* حلم الرئاسة
* أتى إلى المشهد السياسي مكتسبا سمعة أنه رجل الشعب، وأنه يختلف تماما عن السلالة المعتادة في السياسة الإندونيسية التي تهيمن عليها شخصيات سلطوية وقوية من زمرة الأثرياء.
ويبدو أن غالبية الإندونيسيين، وفقا لاستطلاعات الرأي، مفتونون بـ«جوكوي»، الذي أعطى أبعادا جديدة للسياسات، وذلك خلال عام من إدارته مدينة جاكرتا الضخمة. هو رجل متواضع من خارج النظام، يختار دائما أن يحمل حقائبه الخاصة عندما يسافر.
تضمنت إسهامات «جوكوي» في أوائل عهده كعمدة تخفيف الإجراءات التجارية، وتحسين الخدمات الصحية الأساسية، وتقليل الازدحام المروري، وتحسين ظروف المعيشة في المجتمعات الفقيرة. يعد سجل إنجازات «جوكوي» رائعا في دولة مثل إندونيسيا التي يوجد بها الكثير من المواطنين الذين اعتادوا على الأداء الضعيف للمسؤولين. اشتملت مهمته القصيرة البارزة كعمدة لجاكرتا على البطاقات التي أدخلها في قطاعي الرعاية الصحية والتعليم، حيث أصبحت هذه البطاقات بمثابة هدايا للفقراء. كما أطلق نظام دفع الضرائب عبر الإنترنت لمنع الاحتيال الضريبي.
وركز «جوكوي» عندما كان حاكما لجاكرتا على التعامل مع قضايا انعدام الكفاءة والفساد، ومعالجة مشكلة الفيضانات المستمرة. وفي بلد يهيمن عليه قادة النخبة فإنهم نادرا ما يكلفون أنفسهم عناء الخروج من المكاتب المكيفة للالتقاء بالناس بشكل يومي للاستماع إلى حاجاتهم وتطلعاتهم. دفعت تلك الإنجازات التي قام بها حزبه إلى أن يدفعوا به ليصبح رئيس إندونيسيا المقبل.
كتب إندي بيوني، محرر بارز في صحيفة «جاكرتا بوست»، أنه «إذا جرى انتخاب (جوكوي) رئيسا للبلاد، فستكون تلك نقطة تحول لإندونيسيا وللديمقراطية». وعلق بأنه «زعيم غير ملوث بالماضي والثقافة السياسية الفاسدة لسوهارتو». إنه يحمل صورة زعيم متواضع ونزيه ليست لديه أجندة أخرى غير خدمة الشعب. وقال «جوكوي» للناخبين الإندونيسيين الشهر الماضي إنه يريد أن يبدأ تقليدا سياسيا جديدا «حيث لا يكون فيه الرئيس مجرد زعيم حزب سياسي، ولكن يكون أفضل المرشحين».

* زياراته الارتجالية الشهيرة
* السر الحقيقي وراء حب الناس لـ«جوكوي» هو زياراته العفوية على الأرجح، أو «الزيارات غير المعلنة». ابتكر هذا النوع من الزيارات عندما أصبح عمدة سوراكارتا، وجعله روتينا خلال فترة 16 شهرا التي قضاها كعمدة لمدينة جاكرتا. ويظهر «جوكوي» في الأسواق بصورة غير معلنة، ويتحدث إلى الباعة. كما يجري عمليات تفتيش ميدانية للمكاتب الحكومية بهدف إبقاء الموظفين قيد أعمالهم. يقول المعجبون إن «جوكوي» يحب أن «يرى بعينيه ويصلح المشكلات بيديه».
يقوم «جوكوي» ذو البنية الصغيرة والنحيفة، واضعا قميصه الكاروهات خارج سرواله ومشمرا أكمامه، وبابتسامته الواسعة التي سريعا ما ترتسم على محيا من حوله، بالتجول يوميا في الشوارع والأحياء الفقيرة والأسواق التقليدية للتحدث والاستماع إلى الناس. أثبت نهجه الميداني شعبية واسعة بين الناس الذين يخشون الفاسدين والسياسيين المنعزلين.
لقد جعل يوم الجمعة يوما يذهب فيه إلى العمل على دراجته أملا في أن يقنع مزيدا من أهالي المدنية، الذين يتجاوزون 10 ملايين نسمة (ويصلون إلى 28 مليون نسمة إذا احتسبت الضواحي الخارجية) في أن يتخلوا عن سياراتهم.

* قصة الشقاء حتى الاغتناء
* وصفت قصة جوكوي بأنها النسخة الإندونيسية من قصة أبراهام لينكولن، فهي قصة نجل النجار الذي يمتلك سيرة ذاتية من الكفاح والشقاء حتى الاغتناء. ولد لأب يعمل نجارا، وترعرع فقيرا كابن أكبر فوق أشقاء أربعة. حينما كان صبيا كان يساعد والده في فترة ما بعد الظهيرة عقب المدرسة، حيث يجمع ويقطع جذوع الأشجار. وقد قضى سنوات شبابه كلها في كوخ من أعواد الخيزران على ضفاف نهر مائل للفيضان، لينطلق إلى القصر ذي الأعمدة البيضاء في جاكرتا من خلال عمله الشاق وبساطته.
عندما كان صبيا كان جوكوي عازما على الهرب من ذلك المصير باستخدام أكثر الأساليب موثوقية التي يعلمها – التعليم. وعندما جاء وقت التعليم الثانوي كان تواقا ليلتحق بمدرسة «SMA 1»، وهي أفضل مدرسة في سولو. غير أنه اكتشف وقتها، كما هو الحال الآن، أن الغشاشين فقط هم الذين يزدهرون. وقال في مقابلة مع وسائل الإعلام «تجاوزت السنة الأولى من التعليم الثانوي بدرجات جيدة.. لكن كان هناك بعض الناس يغشون (والتحقوا بالمدرسة قبلي حيث تم نقلي إلى SMA 6، وهي مدرسة فنية حيث شعرت بأنني طالب من الدرجة الثانية). ولمدة ستة شهور كنت حزينا وحبست نفسي في غرفتي. لم تكن لدي الرغبة في الذهاب للمدرسة وأصابتني الحمى ومرض التيفود».
بحلول عام 1980، تغلب جوكوي على خيبة أمله ونال شهادة في الهندسة في عام 1985، وحصل على أول وظيفة له في طاحونة اللب في مرتفعات تاكينغون الوعرة بإقليم آتشيه في أقصى غرب إندونيسيا. وبعد أربع سنوات، أسس مشروعا للأثاث، صار مشروعا عالميا بحلول عام 2010، وكان يستحق ما يقدر بـ1.5 مليون دولار.
تزوج جوكو من محبوبته في عام 1986 وأنجب ثلاثة أطفال وكان رجل عائلة بحق. وفي مقابلة مع قناة تلفاز «مترو» الإخبارية قال إن عائلته لم تكن سعيدة عندما قرر الانخراط في عالم السياسة عام 2005، حيث خافوا ألا يكون لديه وقت باق لهم. ومنذ ذلك الحين لم يخرجوا معا في رحلة طويلة كعائلة واحدة، كما أضاف للقناة الإخبارية «قبل أن أكون العمدة، كنت أذهب مع أطفالي إلى المدرسة، ثم أركض مع زوجتي قبل الذهاب إلى المصنع. وكنت أجلب الأطفال من المدرسة مرة كل فترة إذا لم أكن مشغولا في العمل».
يعيش الزوجان ويرتديان الملابس البسيطة. وقالت صحيفة «جاكرتا بوست» إن السيدة إيريانا، زوجته، لم تشاهد مرتدية للسلع المشهورة، وإن معظم ملابسها تشتريها من سوق منسوجات تاناه ابانج الكبيرة. وكانت نادرا ما تحضر المناسبات العامة، حيث قالت للصحيفة «إننا نترك كل شيء يسير على طبيعته. لا يوجد شيء خاص في تلك الأمور».
وهناك جانب آخر من شخصيته، يربطه بعامة الشعب، وهو ميله إلى موسيقى الروك الصاخبة، وبمجرد ما ابتاع غيتارا جديدا انضم عضوا في فرق الموسيقى المعدنية الصاخبة. كان دائما ما يجد عزاءه في الموسيقى حتى خلال أكثر أيامه صعوبة. ولا تزال الموسيقى هي صاحبته حال اندفاعه من منصب إلى آخر، كما تراه يشارك في الحفلات الموسيقية الصاخبة في جاكرتا.
في يونيو (حزيران) 2013، صدر فيلم يصور مرحلة الطفولة والشباب لجوكوي. لكن جوكوي أعرب عن اعتراضه على بعض ما ورد في الفيلم قائلا إنه شعر بأن حياته كانت حياة بسيطة ولا تستحق عرضها في فيلم مستقل.

* الدين
* يعتبر جوكوي من أهل إندونيسيا الأصليين، وهو مسلم محافظ من الذين ذهبوا إلى مكة المكرمة لأداء فريضة حج سريعة مؤخرا ليضع حدا لحملة التشويه التي طالته وتصفه بأنه صيني العرق ومسيحي الديانة. والصور الأخيرة لجوكوي، يرتدي فيها الجلباب الأبيض ويصلي في مكة المكرمة، قد وزعت على وسائل الإعلام الاجتماعية، في حين أن صور التلفاز أظهرت الرجل البالغ من العمر 53 عاما وهو يؤدي طقوس الطواف حول الكعبة. كما أنها تعتبر تقليدا من التقاليد، حيث أدى جوكوي فرضية الحج في مرة سابقة إبان سباق اعتلاء منصب عمدة سولو، وأثناء التنافس على منصب حاكم جاكرتا.
لكن سمته الجاذبة هي أنه دائما ما يبدو على استعداد لتحمل المخاطر من أجل مستقبل علماني تعددي. لكن منافسه في سباق جاكرتا هو باسوكي تجاهجا بورناما، والذي يعرف باسم اهوك، وهو مسيحي وعضو في الأقلية العرقية الصينية.

* السياسة الخارجية
* يقول ويدودو إنه سوف يشهد مراسم التنصيب في سفارة إندونيسيا لدى فلسطين إذا ما انتخب رئيسا للبلاد.. حيث صرح، حسبما نقل عنه موقع «tempo.co» في بونتياناك، غرب كليمانتان «لقد أكدنا إيماننا الراسخ بأننا نؤيد استقلال فلسطين تأييدا كاملا، وبالتالي، فإن إقامة سفارة هناك هي أمر لا محيص عنه». وقد أثار جوكوي التكهنات بشان أنه يلعب بقضية فلسطين فقط ليضمن لنفسه دعم الناخبين في البلاد. وقال إنه يعرف السفير الفلسطيني لدى إندونيسيا منذ فترة طويلة. وقال جوكوي «فلتسألوه منذ متى ونحن أصدقاء. واسألوه أيضا، هل حقا أنه أرسل فريق كرة القدم الفلسطيني مرة واحدة إلى سوركارتا؟».
وقد تعهد جوكوي ببناء علاقات متينة بين إندونيسيا وباقي الدول من خلال المنهج الثلاثي للعلاقات الحكومية - الحكومية، والاتصالات التجارية، والتبادلات الشعبية. أما بالنسبة للاشتباكات العسكرية فيجب أن تكون الملاذ الأخير، على حد قوله، في التعامل مع النزاعات الثنائية أو متعددة الأطراف.
ولكن مع الحديث اللين، فقد أكدت الدول الصغيرة على أهمية حراسة السيادة الوطنية. «نريد لإندونيسيا أن تكون قوة بحرية في هذا العالم. نريد أن نستحوذ على البحار. نريد لتلك الدولة أن تنفذ سلطاتها. ونريد لهذه الدولة أن تحظى بالاحترام».

* الجوائز والأوسمة
* فاز جوكوي بالمركز الثاني في جائزة أفضل عمدة في العالم لعام 2012. وقد اعترف بإنجازاته إبان توليه المنصب في مسقط رأسه سوراكارتا من أجل «تحويل مدينة تعاني من الجريمة إلى مركز إقليمي للفن والثقافة ومدينة جاذبة للسياح». وقد أدرج على قائمة أحد المفكرين العالميين الرائدين لعام 2013 في مجلة السياسة الخارجية. وقد أدرجته مجلة «فورتشن» لعام 2014 كأحد أعظم 50 قائدا عالميا. وعلى الرغم من مقاومة محافظ جاكرتا جوكو «جوكوي» ويدودو، فإن مجموعة من صناع السينما قد أصدروا فيلما دراميا يصور بداياته المتواضعة.
ونظرا لأسلوبه المباشر وسجيته النقية، فإنه غالبا ما تجري مقارنة جوكوي بصورة قديمة لباراك أوباما في عام 2008 في جزء من شخصيته المؤثرة التي يتمتع بها والتركيز على التغيير، حيث قضى أوباما أيضا حياته الأولى في إندونيسيا. وحقا فإن ابتسامته العذبة ونظرة عينيه الضيقتين وتركيبه الجسماني البسيط، منحته مظهرا يبدو وكأنه ابن عم باراك أوباما المفقود منذ زمن بعيد. هل الضجيج المحيط بترشح جوكوي له ما يبرره؟
يشعر المتشككون بالقلق، وهناك بعض منهم يرجحون أن الرئيس جوكوي سوف يفقد بريقه الأخاذ بمجرد اعتلائه منصب الرئاسة. وإندونيسيا، بعد كل شيء، عبارة عن دولة مجزأة جغرافيا، ودولة معقدة من 250 مليون نسمة، مع الكثير من الهرج والمرج في كل مكان. وعقب ذلك، فلم يأخذ أوباما الكثير من الوقت حتى خبا بريقه عقب التنصيب.
إن إعجاب الجميع بجوكوي من المواطن الإندونيسي العادي وحتى الشركات الدولية الضخمة هو بمثابة نسمات من الهواء المنعش.. وهو أفضل أمل أنتجته الديمقراطية الإندونيسية لإنهاء الفساد والمحسوبية الراسخة من قبل النخبة العسكرية التقليدية السابقة.



أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.