تصوت إندونيسيا، ثالث أكبر ديمقراطية في العالم، اليوم لاختيار رئيس للبلاد.. ولكن يبدو أن الإندونيسيين قد حسموا أمرهم تجاه الرئيس المقبل. حيث تبدو حظوظ جوكو ويدودو أكبر في الوصول إلى كرسي الرئاسة، حسب جميع استطلاعات الرأي.
فعمدة العاصمة جاكرتا يتفوق على منافسه الجنرال السابق بالجيش برابوو سوبيانتو، بنسبة عالية، ويتمتع بجماهيرية واضحة خاصة بين الشباب، الذي يسعى إلى التغيير. وذاع صيت جوكو ويدودو المدعو «جوكوي»، الذي كان غير معروف عموما قبل سنتين، بسرعة فائقة على الساحة السياسية، وأصبح من أبرز الشخصيات الوطنية بالنسبة للعديد من الإندونيسيين. وقد يصبح الرجل (53 سنة)، صاحب الوجه اللطيف الذي يقول البعض إنه يشبه باراك أوباما، أول رئيس إندونيسي من أصل متواضع، لا ينتمي إلى النخبة السياسية العسكرية، وهو ابن نجار نشأ في كوخ من قصب الخيزران في ضواحي مدينة سولو التي تضم نصف مليون نسمة في جزيرة جاوا، وعمل كبائع أثاث قبل أن ينشئ شركته الخاصة للاستيراد والتصدير، مما سمح له بكسب شهرة واستقلال مالي.
بدأ «جوكوي» حياته السياسية قبل تسعة أعوام وتحديدا في عام 2005 عبر حزب النضال الديمقراطي الإندونيسي عندما خاض المنافسة على عمادة مدينة سوراكارتا مسقط رأسه والمعروفة أيضا باسم «سولو». تحت ولايته، خضعت «سولو» إلى عملية تغيير شاملة في مسارها حيث تحولت إلى مدينة سياحية وثقافية. أكسبه نجاحه كعمدة حب الناس في «سولو»، مما مكنه من الفوز بولاية ثانية في عام 2010. بيد أنه استقال في منتصف ولايته ليبدأ التحدي التالي وهو عمدة جاكرتا.
* حلم الرئاسة
* أتى إلى المشهد السياسي مكتسبا سمعة أنه رجل الشعب، وأنه يختلف تماما عن السلالة المعتادة في السياسة الإندونيسية التي تهيمن عليها شخصيات سلطوية وقوية من زمرة الأثرياء.
ويبدو أن غالبية الإندونيسيين، وفقا لاستطلاعات الرأي، مفتونون بـ«جوكوي»، الذي أعطى أبعادا جديدة للسياسات، وذلك خلال عام من إدارته مدينة جاكرتا الضخمة. هو رجل متواضع من خارج النظام، يختار دائما أن يحمل حقائبه الخاصة عندما يسافر.
تضمنت إسهامات «جوكوي» في أوائل عهده كعمدة تخفيف الإجراءات التجارية، وتحسين الخدمات الصحية الأساسية، وتقليل الازدحام المروري، وتحسين ظروف المعيشة في المجتمعات الفقيرة. يعد سجل إنجازات «جوكوي» رائعا في دولة مثل إندونيسيا التي يوجد بها الكثير من المواطنين الذين اعتادوا على الأداء الضعيف للمسؤولين. اشتملت مهمته القصيرة البارزة كعمدة لجاكرتا على البطاقات التي أدخلها في قطاعي الرعاية الصحية والتعليم، حيث أصبحت هذه البطاقات بمثابة هدايا للفقراء. كما أطلق نظام دفع الضرائب عبر الإنترنت لمنع الاحتيال الضريبي.
وركز «جوكوي» عندما كان حاكما لجاكرتا على التعامل مع قضايا انعدام الكفاءة والفساد، ومعالجة مشكلة الفيضانات المستمرة. وفي بلد يهيمن عليه قادة النخبة فإنهم نادرا ما يكلفون أنفسهم عناء الخروج من المكاتب المكيفة للالتقاء بالناس بشكل يومي للاستماع إلى حاجاتهم وتطلعاتهم. دفعت تلك الإنجازات التي قام بها حزبه إلى أن يدفعوا به ليصبح رئيس إندونيسيا المقبل.
كتب إندي بيوني، محرر بارز في صحيفة «جاكرتا بوست»، أنه «إذا جرى انتخاب (جوكوي) رئيسا للبلاد، فستكون تلك نقطة تحول لإندونيسيا وللديمقراطية». وعلق بأنه «زعيم غير ملوث بالماضي والثقافة السياسية الفاسدة لسوهارتو». إنه يحمل صورة زعيم متواضع ونزيه ليست لديه أجندة أخرى غير خدمة الشعب. وقال «جوكوي» للناخبين الإندونيسيين الشهر الماضي إنه يريد أن يبدأ تقليدا سياسيا جديدا «حيث لا يكون فيه الرئيس مجرد زعيم حزب سياسي، ولكن يكون أفضل المرشحين».
* زياراته الارتجالية الشهيرة
* السر الحقيقي وراء حب الناس لـ«جوكوي» هو زياراته العفوية على الأرجح، أو «الزيارات غير المعلنة». ابتكر هذا النوع من الزيارات عندما أصبح عمدة سوراكارتا، وجعله روتينا خلال فترة 16 شهرا التي قضاها كعمدة لمدينة جاكرتا. ويظهر «جوكوي» في الأسواق بصورة غير معلنة، ويتحدث إلى الباعة. كما يجري عمليات تفتيش ميدانية للمكاتب الحكومية بهدف إبقاء الموظفين قيد أعمالهم. يقول المعجبون إن «جوكوي» يحب أن «يرى بعينيه ويصلح المشكلات بيديه».
يقوم «جوكوي» ذو البنية الصغيرة والنحيفة، واضعا قميصه الكاروهات خارج سرواله ومشمرا أكمامه، وبابتسامته الواسعة التي سريعا ما ترتسم على محيا من حوله، بالتجول يوميا في الشوارع والأحياء الفقيرة والأسواق التقليدية للتحدث والاستماع إلى الناس. أثبت نهجه الميداني شعبية واسعة بين الناس الذين يخشون الفاسدين والسياسيين المنعزلين.
لقد جعل يوم الجمعة يوما يذهب فيه إلى العمل على دراجته أملا في أن يقنع مزيدا من أهالي المدنية، الذين يتجاوزون 10 ملايين نسمة (ويصلون إلى 28 مليون نسمة إذا احتسبت الضواحي الخارجية) في أن يتخلوا عن سياراتهم.
* قصة الشقاء حتى الاغتناء
* وصفت قصة جوكوي بأنها النسخة الإندونيسية من قصة أبراهام لينكولن، فهي قصة نجل النجار الذي يمتلك سيرة ذاتية من الكفاح والشقاء حتى الاغتناء. ولد لأب يعمل نجارا، وترعرع فقيرا كابن أكبر فوق أشقاء أربعة. حينما كان صبيا كان يساعد والده في فترة ما بعد الظهيرة عقب المدرسة، حيث يجمع ويقطع جذوع الأشجار. وقد قضى سنوات شبابه كلها في كوخ من أعواد الخيزران على ضفاف نهر مائل للفيضان، لينطلق إلى القصر ذي الأعمدة البيضاء في جاكرتا من خلال عمله الشاق وبساطته.
عندما كان صبيا كان جوكوي عازما على الهرب من ذلك المصير باستخدام أكثر الأساليب موثوقية التي يعلمها – التعليم. وعندما جاء وقت التعليم الثانوي كان تواقا ليلتحق بمدرسة «SMA 1»، وهي أفضل مدرسة في سولو. غير أنه اكتشف وقتها، كما هو الحال الآن، أن الغشاشين فقط هم الذين يزدهرون. وقال في مقابلة مع وسائل الإعلام «تجاوزت السنة الأولى من التعليم الثانوي بدرجات جيدة.. لكن كان هناك بعض الناس يغشون (والتحقوا بالمدرسة قبلي حيث تم نقلي إلى SMA 6، وهي مدرسة فنية حيث شعرت بأنني طالب من الدرجة الثانية). ولمدة ستة شهور كنت حزينا وحبست نفسي في غرفتي. لم تكن لدي الرغبة في الذهاب للمدرسة وأصابتني الحمى ومرض التيفود».
بحلول عام 1980، تغلب جوكوي على خيبة أمله ونال شهادة في الهندسة في عام 1985، وحصل على أول وظيفة له في طاحونة اللب في مرتفعات تاكينغون الوعرة بإقليم آتشيه في أقصى غرب إندونيسيا. وبعد أربع سنوات، أسس مشروعا للأثاث، صار مشروعا عالميا بحلول عام 2010، وكان يستحق ما يقدر بـ1.5 مليون دولار.
تزوج جوكو من محبوبته في عام 1986 وأنجب ثلاثة أطفال وكان رجل عائلة بحق. وفي مقابلة مع قناة تلفاز «مترو» الإخبارية قال إن عائلته لم تكن سعيدة عندما قرر الانخراط في عالم السياسة عام 2005، حيث خافوا ألا يكون لديه وقت باق لهم. ومنذ ذلك الحين لم يخرجوا معا في رحلة طويلة كعائلة واحدة، كما أضاف للقناة الإخبارية «قبل أن أكون العمدة، كنت أذهب مع أطفالي إلى المدرسة، ثم أركض مع زوجتي قبل الذهاب إلى المصنع. وكنت أجلب الأطفال من المدرسة مرة كل فترة إذا لم أكن مشغولا في العمل».
يعيش الزوجان ويرتديان الملابس البسيطة. وقالت صحيفة «جاكرتا بوست» إن السيدة إيريانا، زوجته، لم تشاهد مرتدية للسلع المشهورة، وإن معظم ملابسها تشتريها من سوق منسوجات تاناه ابانج الكبيرة. وكانت نادرا ما تحضر المناسبات العامة، حيث قالت للصحيفة «إننا نترك كل شيء يسير على طبيعته. لا يوجد شيء خاص في تلك الأمور».
وهناك جانب آخر من شخصيته، يربطه بعامة الشعب، وهو ميله إلى موسيقى الروك الصاخبة، وبمجرد ما ابتاع غيتارا جديدا انضم عضوا في فرق الموسيقى المعدنية الصاخبة. كان دائما ما يجد عزاءه في الموسيقى حتى خلال أكثر أيامه صعوبة. ولا تزال الموسيقى هي صاحبته حال اندفاعه من منصب إلى آخر، كما تراه يشارك في الحفلات الموسيقية الصاخبة في جاكرتا.
في يونيو (حزيران) 2013، صدر فيلم يصور مرحلة الطفولة والشباب لجوكوي. لكن جوكوي أعرب عن اعتراضه على بعض ما ورد في الفيلم قائلا إنه شعر بأن حياته كانت حياة بسيطة ولا تستحق عرضها في فيلم مستقل.
* الدين
* يعتبر جوكوي من أهل إندونيسيا الأصليين، وهو مسلم محافظ من الذين ذهبوا إلى مكة المكرمة لأداء فريضة حج سريعة مؤخرا ليضع حدا لحملة التشويه التي طالته وتصفه بأنه صيني العرق ومسيحي الديانة. والصور الأخيرة لجوكوي، يرتدي فيها الجلباب الأبيض ويصلي في مكة المكرمة، قد وزعت على وسائل الإعلام الاجتماعية، في حين أن صور التلفاز أظهرت الرجل البالغ من العمر 53 عاما وهو يؤدي طقوس الطواف حول الكعبة. كما أنها تعتبر تقليدا من التقاليد، حيث أدى جوكوي فرضية الحج في مرة سابقة إبان سباق اعتلاء منصب عمدة سولو، وأثناء التنافس على منصب حاكم جاكرتا.
لكن سمته الجاذبة هي أنه دائما ما يبدو على استعداد لتحمل المخاطر من أجل مستقبل علماني تعددي. لكن منافسه في سباق جاكرتا هو باسوكي تجاهجا بورناما، والذي يعرف باسم اهوك، وهو مسيحي وعضو في الأقلية العرقية الصينية.
* السياسة الخارجية
* يقول ويدودو إنه سوف يشهد مراسم التنصيب في سفارة إندونيسيا لدى فلسطين إذا ما انتخب رئيسا للبلاد.. حيث صرح، حسبما نقل عنه موقع «tempo.co» في بونتياناك، غرب كليمانتان «لقد أكدنا إيماننا الراسخ بأننا نؤيد استقلال فلسطين تأييدا كاملا، وبالتالي، فإن إقامة سفارة هناك هي أمر لا محيص عنه». وقد أثار جوكوي التكهنات بشان أنه يلعب بقضية فلسطين فقط ليضمن لنفسه دعم الناخبين في البلاد. وقال إنه يعرف السفير الفلسطيني لدى إندونيسيا منذ فترة طويلة. وقال جوكوي «فلتسألوه منذ متى ونحن أصدقاء. واسألوه أيضا، هل حقا أنه أرسل فريق كرة القدم الفلسطيني مرة واحدة إلى سوركارتا؟».
وقد تعهد جوكوي ببناء علاقات متينة بين إندونيسيا وباقي الدول من خلال المنهج الثلاثي للعلاقات الحكومية - الحكومية، والاتصالات التجارية، والتبادلات الشعبية. أما بالنسبة للاشتباكات العسكرية فيجب أن تكون الملاذ الأخير، على حد قوله، في التعامل مع النزاعات الثنائية أو متعددة الأطراف.
ولكن مع الحديث اللين، فقد أكدت الدول الصغيرة على أهمية حراسة السيادة الوطنية. «نريد لإندونيسيا أن تكون قوة بحرية في هذا العالم. نريد أن نستحوذ على البحار. نريد لتلك الدولة أن تنفذ سلطاتها. ونريد لهذه الدولة أن تحظى بالاحترام».
* الجوائز والأوسمة
* فاز جوكوي بالمركز الثاني في جائزة أفضل عمدة في العالم لعام 2012. وقد اعترف بإنجازاته إبان توليه المنصب في مسقط رأسه سوراكارتا من أجل «تحويل مدينة تعاني من الجريمة إلى مركز إقليمي للفن والثقافة ومدينة جاذبة للسياح». وقد أدرج على قائمة أحد المفكرين العالميين الرائدين لعام 2013 في مجلة السياسة الخارجية. وقد أدرجته مجلة «فورتشن» لعام 2014 كأحد أعظم 50 قائدا عالميا. وعلى الرغم من مقاومة محافظ جاكرتا جوكو «جوكوي» ويدودو، فإن مجموعة من صناع السينما قد أصدروا فيلما دراميا يصور بداياته المتواضعة.
ونظرا لأسلوبه المباشر وسجيته النقية، فإنه غالبا ما تجري مقارنة جوكوي بصورة قديمة لباراك أوباما في عام 2008 في جزء من شخصيته المؤثرة التي يتمتع بها والتركيز على التغيير، حيث قضى أوباما أيضا حياته الأولى في إندونيسيا. وحقا فإن ابتسامته العذبة ونظرة عينيه الضيقتين وتركيبه الجسماني البسيط، منحته مظهرا يبدو وكأنه ابن عم باراك أوباما المفقود منذ زمن بعيد. هل الضجيج المحيط بترشح جوكوي له ما يبرره؟
يشعر المتشككون بالقلق، وهناك بعض منهم يرجحون أن الرئيس جوكوي سوف يفقد بريقه الأخاذ بمجرد اعتلائه منصب الرئاسة. وإندونيسيا، بعد كل شيء، عبارة عن دولة مجزأة جغرافيا، ودولة معقدة من 250 مليون نسمة، مع الكثير من الهرج والمرج في كل مكان. وعقب ذلك، فلم يأخذ أوباما الكثير من الوقت حتى خبا بريقه عقب التنصيب.
إن إعجاب الجميع بجوكوي من المواطن الإندونيسي العادي وحتى الشركات الدولية الضخمة هو بمثابة نسمات من الهواء المنعش.. وهو أفضل أمل أنتجته الديمقراطية الإندونيسية لإنهاء الفساد والمحسوبية الراسخة من قبل النخبة العسكرية التقليدية السابقة.