جيريمي هنت... وجه الدبلوماسية لعهد «بريكست» في بريطانيا

لُقب بـ«منقذ» النظام الصحي وكان من أنصار البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي

جيريمي هنت... وجه الدبلوماسية لعهد «بريكست» في بريطانيا
TT

جيريمي هنت... وجه الدبلوماسية لعهد «بريكست» في بريطانيا

جيريمي هنت... وجه الدبلوماسية لعهد «بريكست» في بريطانيا

قد لا يكون اسمه متداولاً بين دبلوماسيي العالم، إلا أن وزير الخارجية البريطاني الجديد جيريمي هنت صنع لنفسه هوية سياسية فريدة قادته إلى مكانة مرموقة في هرم السلطة البريطاني. إذ جاء تعيين هنت، بعد الاستقالة الصادمة لوزير الخارجية بوريس جونسون، مفاجأة في عواصم العالم وفي أروقة «وايتهول» على حد سواء، وبخاصة بعدما كان أمام هنت، وهو وزير الصحة السابق، عراقيل هددت بإبعاده عن منصبه قبل أشهر قليلة. وفي حين أرجع البعض تعيين وزير الخارجية الجديد إلى سعي رئيسة الوزراء تيريزا ماي لحماية منصبها من «المتمردين» في صفوف حزبها، فإنه في واقع الأمر يحظى بشعبية واحترام كبير داخل حزبه المحافظ، ويُعتبر وجهاً يتوافق عليه مختلف أطياف الحزب الحاكم رغم انقساماته. واليوم سيواجه هنت تحدياً من نوع خاص... يتمثل في تحقيق التوازن بين دوره في تطبيق سلس لـ«بريكست» (انسحاب بريطانيا من الأسرة الأوروبية) واستعادة وهج الدبلوماسية البريطانية على الساحة الدولية.

قبل أشهر معدودة، كان جيريمي هنت يواجه تهديد الإقالة على خلفية الأزمة الخانقة التي كانت تهدد «خدمة الصحة الوطنية» البريطانية (إن إتش إس). فلقد واجه هنت الذي كان يشغل في حينه حقيبة وزير الصحة تحديات عدة، كان من أبرزها شح الموارد المالية، وإضرابات للأطباء الشباب، وسخط المواطنين عن مستوى أداء المستشفيات والعيادات الحكومية.
وفي يناير (كانون الثاني) الماضي، أعدت الصحف المحلية والنشرات الإخبارية عناوين تتوقع إبعاد هنت عن منصبه على رأس وزارة الصحة. إلا أنه بعد دقائق خرج من الباب الأمامي لمقر رئيسة الحكومة (الرقم 10 داونينغ ستريت) محتفظاً بحقيبته الوزارية، بل أضاف إليها حقيبة أخرى هي الرعاية الاجتماعية.
بذا نجح هنت حيث فشل آخرون قبله؛ وذلك بعدما نجح في تأمين ميزانية إضافية للـ«إن إتش إس»، وإقناع رئيسة الوزراء المحافظة تيريزا ماي بضرورة ضخ 20 مليار جنيه إسترليني إضافي في «الخدمة» التي تعدّ العمود الفقري للدولة البريطانية. ومن ثم، لُقّب بعضهم هنت بـ«منقذ خدمة الصحة الوطنية»... إحدى جواهر التاج البريطاني.
أكثر من هذا، أصبح هنت، الأب الخمسيني لثلاثة أطفال، الوزير الذي شغل أطول فترة على رأس وزارة الصحة منذ إنشاء «خدمة الصحة الوطنية» التي تمولها الحكومة، وهي فترة تجاوزت 5 سنوات وشهوراً. ونقلت صحيفة «الغارديان» – المحسوبة على تيار اليسار المناوئ للمحافظين – عن مسؤول رفيع في قطاع الصحة قوله، إنه «في بيئة تعيق فيها مفاوضات (بريكست) عمل مختلف الوزارات وتعرقل تحقيق أي إنجاز كبير، سيستطيع هنت التباهي بأنه أنقذ الخدمة (وهذا إنجاز كبير)».

- بداية مسيرة متعثرة
ولد جيريمي هنت يوم أول نوفمبر (تشرين الثاني) 1966 في العاصمة البريطانية لندن، وحياته المهنية بعيداً عن السياسة. فبعدما تخرج في جامعة أكسفورد (كلية مودلين) بشهادة علوم سياسية واقتصاد وفلسفة، وفيها ترأس منظمة طلاب حزب المحافظين في عام 1987. عمل هنت مع إحدى الشركات التي تقدم استشارات استراتيجية لمدة سنتين، قبل أن يقرر السفر إلى اليابان والعمل مدرّس لغة إنجليزية.
وبعد العودة إلى بريطانيا، جرب هنت حظه في مشروعات استثمارية، كان بينها محاولة تصدير مواد غذائية بريطانية إلى اليابان، لكنها باءت كلها بالفشل. وهكذا انتقل إلى مشروع جديد متعلق بتقنية المعلومات، تشارك فيه مع أحد أصدقاء طفولته في عام 1991، وباع الرجلان الشركة بعد بضع سنوات، ليؤسسا شركة تقدم خدمات تعليمية أثارت اهتمام مؤسسات كبيرة. وفي يناير 2017، باع هنت رصيده من الشركة، واسمها «هوت كورسز»، إلى جهة أسترالية، وحقق عبر هذه الصفقة ربحاً قدّر بـ14 مليون جنيه إسترليني.
وعاد هنت في بداية الألفية إلى الاهتمام بالسياسة، وانتخب نائباً عن دائرة جنوب غربي سري (في الريف جنوبي لندن) في الانتخابات العامة لعام 2005. ودعم هنت حملة ديفيد كاميرون لترؤس حزب المحافظين، وكوفئ بتعيينه وزير ظل لشؤون ذوي الاحتياجات الخاصة، ليعيّن بعد سنتين من ذلك وزير ظل للثقافة والإعلام والرياضة.

- في السلطة
وفي الحكومة الائتلافية التي شكلها كاميرون، بالتحالف مع حزب «الديمقراطيين الأحرار» في انتخابات 2010، تولى هنت رسمياً حقيبة الثقافة والإعلام والرياضة، وأُضيف إليها إدارة الألعاب الأولمبية التي احتضنتها لندن في 2012، ثم أسندت إليه حقيبة وزارة الصحة في العام نفسه، ولقد احتفظ بها في حكومتي كاميرون وماي، حتى تاريخ تعيينه وزيراً للخارجية خلفاً لبوريس جونسون في الخارجية يوم 9 يوليو (تموز) الحالي.
عقب تقديم كاميرون استقالته في 2016، بعدما صوّت غالبية البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، طُرح اسم هنت لقيادة حزب المحافظين، إلا أنه لم يحظَ بالدعم الكافي. وكانت استقالة رئيس الوزراء كاميرون قد تزامنت آنذاك مع فضيحة إضراب الأطباء، الذي كان الأول من نوعه منذ 40 سنة. كما أن دعم هنت العلني للبقاء في الاتحاد الأوروبي حال دون اعتباره مرشحاً توافقياً في بيئة محافظة منقسمة على نفسها، شريحة واسعة منها متحمسة لتنفيذ رغبة الشعب البريطاني بالخروج.
في المقابل، واجه هنت سلسلة انتقادات قاسية، واتهامات باستغلاله مناصبه السياسة لتحقيق مكاسب مالية أو شخصية. وفي أبريل (نيسان) الماضي، اضطر إلى تقديم اعتذار لتخلفه عن الكشف عن امتلاكه مجموعة من الشقق الفاخرة. ويومذاك أرجع هنت الأمر إلى «خطأ إداري». إلى ذلك، واجه أداء هنت في وزارة الصحة انتقادات حادة، أهمها الحاجة الماسة إلى إعداد المزيد من الأطباء والممرضات، وتردي مستويات الرعاية الصحية المتاحة لكبار السن، وارتفاع معدل الانتظار لتلقي العلاج. وهذه المهمة، بعد انتقال هنت إلى وزارة الخارجية، الآن باتت ملقاة على عاتق مات هانكوك الذي أصبح وزيراً للصحة، بينما جرى تعيين المدعي العام جيريمي رايت وزيراً للثقافة والإعلام والرياضة خلفاً لهانكوك.

- تحدي «بريكست»
قد يكون منصب وزير الخارجية مكافأة لمعظم السياسيين البريطانيين الساعين إلى ترؤس حزب المحافظين، وشق طريقهم صعوداً نحو رئاسة الوزراء، إلا أنه في حالة جيريمي هنت قد يشكل تحدياً قد يؤول إلى إنهاء مسيرته السياسية، أو على الأقل عرقلة تقدمه نحو «داونينغ ستريت». وثمة من يقول، إنه بينما اختار سلفه المثير للجدل بوريس جونسون «القفز من السفينة قبل ارتطامها بحائط بريكست»، ظل هنت داعماً ومخلصاً لتيريزا ماي. ونقل الإعلام البريطاني عن أحد الوزراء قوله، إن «هنت يمضي الكثير من الوقت في مدح رئيسة الوزراء»، كما عبر عن دعمه الكامل الخطة التي طرحتها لتقنين علاقة بلادها مع الاتحاد الأوروبي.
وحقاً، كما سبقت الإشارة، كان هنت رافضاً لفكرة «بريكست»، ولم يتردد في إعلان موقفه علانية بعكس موقف ماي الملتبس، إلا أنه غيّر رأيه في العام الماضي؛ إذ قال خلال مقابلة مع إذاعة «إل بي سي»، في أكتوبر (تشرين الأول) 2017، إنه «غيّر رأيه في هذه المسألة جزئياً بسبب ما شهده من غطرسة مخيّبة للآمال» في سلوك الاتحاد الأوروبي أثناء المفاوضات.
على أي حال، يواجه هنت في منصبه الجديد تحدي الموازنة بين الحفاظ على مكانة بلاده على الساحة الدولية، وتنفيذ رغبة ناخبيه بالخروج من الاتحاد الأوروبي بأقل خسائر اقتصادية ومالية ممكنة. ولعل ما يزيد من صعوبة هذا التحدي هو الهجوم بغاز الأعصاب الذي استهدف عميلاً روسياً مزدوجاً سابقاً وابنته في أحد شوارع مدينة سولزبري البريطانية، الذي أدى إلى موت مواطنة بريطانية قبل أيام في حادث متصل. ولقد اتهمت الحكومة البريطانية روسيا بالوقوف وراء الهجوم ضد العميل سيرغي سكريبال، وأطلقت بالتعاون مع حلفائها في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي «ناتو» حملة طرد جماعية لعشرات الدبلوماسيين الروس. لكن روسيا رفضت الاتهامات البريطانية، وطالبت لندن بتقديم دلائل ملموسة على مزاعمها، وهو أمر يتوقع أن يعقّد مهمة وزير الخارجية الجديد.

- ترمب... وأزمات أخرى
أكثر من هذا، إذا لم تكن هذه التطورات غير المسبوقة تحدياً كافياً، فإن الرئيس الأميركي دونالد ترمب ساهم في زيادة تعقيد المشهد السياسي البريطاني خلال الزيارة الرسمية التي قام بها لبريطانيا في الأسبوع الماضي. إذ استبعد ترمب في مقابلة مع صحيفة «الصن» إبرام اتفاق تجارة حرة تتطلع له بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي في حال طبقت ماي خطتها التي تحافظ على علاقات تجارية وثيقة مع الاتحاد. ولم يقف الرئيس الأميركي، الذي أثارت زيارته جدلاً واسعاً، عند هذا الحد، بل امتدح «صديقه» بوريس جونسون، ورأى أنه «قد يكون رئيس وزراء جيداً».
وإلى جانب هذه القضايا، تعمل لندن مع مختلف الأفرقاء على حل أزمة الحرب السورية، وانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران، والسلام في الشرق الأوسط، والتهديدات الأمنية والسيبرانية التي تطرحها روسيا.
لكن رغم كل الأزمات، يبدو أن تفاصيل الـ«بريكست» الداخلية طغت على عمل وزارة الخارجية خلال الأشهر الماضية، بل إنها أطاحت بوزير سابق يتمتع بنفوذ وشعبية داخل حزبه المحافظ وخارج الحدود البريطانية. ولم يبرهن خليفته حتى الآن عن نيته إعادة تركيز الوزارة على القضايا المنوطة بها؛ إذ اكتفى هنت خلال الأيام العشرة الماضية منذ تعيينه بالتعبير عن دعمه الكامل لخطة رئيسة الوزراء وصورة على «تويتر» تعكس مشاركته في قمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) الأخيرة ببروكسل ومتابعته مباريات كأس العالم.
أما جونسون، سلف هنت، فلقد خصّص أول كلمة له أمام البرلمان، بعد موجة استقالات ضربت الحكومة من بعده، لقضية الخروج من الاتحاد الأوروبي. وحذّر جونسون، الذي يراه البعض الآن منافساً محتملاً لماي، من أن خطتها ستترك بريطانيا «في حالة دائمة وتعيسة من الرقص على الحبال». وقال، إنه من خلال عرض اتباع قوانين الاتحاد الأوروبي بشأن التجارة في السلع، ومن دون أن يكون لبريطانيا أي رأي في وضع هذه القوانين «فإننا نتطوع لنكون تابعين اقتصادياً»، كما نقلت عنه وكالة الصحافة الفرنسية. إلا أنه أكد أنه «لم يفت الوقت لإنقاذ (بريكست). لدينا وقت في هذه المفاوضات. لقد غيّرنا المسار مرة ونستطيع تغييره مرة أخرى». كذلك اعتبر جونسون أن ماي عادت عن «رؤيتها الرائعة» حول «بريكست» التي اشتملت على الانفصال عن محاكم الاتحاد الأوروبي والاتحاد الجمركي والسوق المشتركة، وإبرام اتفاقيات تجارة جديدة.
من جانب آخر، عرضت رئيسة الوزراء ماي اقتراحها القاضي بإنشاء منطقة تبادل حر للسلع بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، قبل أسبوعين على وزرائها في مقر إقامتها الريفي في تشيكرز. وأوضحت أن خطتها تسعى إلى الحفاظ على علاقة تجارية وثيقة مع الاتحاد، على أن يواكب ذلك وضع «مجموعة من القواعد المشتركة». لكن أنصار الانفصال اعتبروا أن خطة ماي بمثابة خيانة لتصويت البريطانيين على مغادرة الأسرة الأوروبية، وفي مقدمهم جونسون وزميله المستقبل أيضاً وزير «بريكست» ديفيد ديفيس.


مقالات ذات صلة

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.