جيريمي هنت... وجه الدبلوماسية لعهد «بريكست» في بريطانيا

لُقب بـ«منقذ» النظام الصحي وكان من أنصار البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي

جيريمي هنت... وجه الدبلوماسية لعهد «بريكست» في بريطانيا
TT

جيريمي هنت... وجه الدبلوماسية لعهد «بريكست» في بريطانيا

جيريمي هنت... وجه الدبلوماسية لعهد «بريكست» في بريطانيا

قد لا يكون اسمه متداولاً بين دبلوماسيي العالم، إلا أن وزير الخارجية البريطاني الجديد جيريمي هنت صنع لنفسه هوية سياسية فريدة قادته إلى مكانة مرموقة في هرم السلطة البريطاني. إذ جاء تعيين هنت، بعد الاستقالة الصادمة لوزير الخارجية بوريس جونسون، مفاجأة في عواصم العالم وفي أروقة «وايتهول» على حد سواء، وبخاصة بعدما كان أمام هنت، وهو وزير الصحة السابق، عراقيل هددت بإبعاده عن منصبه قبل أشهر قليلة. وفي حين أرجع البعض تعيين وزير الخارجية الجديد إلى سعي رئيسة الوزراء تيريزا ماي لحماية منصبها من «المتمردين» في صفوف حزبها، فإنه في واقع الأمر يحظى بشعبية واحترام كبير داخل حزبه المحافظ، ويُعتبر وجهاً يتوافق عليه مختلف أطياف الحزب الحاكم رغم انقساماته. واليوم سيواجه هنت تحدياً من نوع خاص... يتمثل في تحقيق التوازن بين دوره في تطبيق سلس لـ«بريكست» (انسحاب بريطانيا من الأسرة الأوروبية) واستعادة وهج الدبلوماسية البريطانية على الساحة الدولية.

قبل أشهر معدودة، كان جيريمي هنت يواجه تهديد الإقالة على خلفية الأزمة الخانقة التي كانت تهدد «خدمة الصحة الوطنية» البريطانية (إن إتش إس). فلقد واجه هنت الذي كان يشغل في حينه حقيبة وزير الصحة تحديات عدة، كان من أبرزها شح الموارد المالية، وإضرابات للأطباء الشباب، وسخط المواطنين عن مستوى أداء المستشفيات والعيادات الحكومية.
وفي يناير (كانون الثاني) الماضي، أعدت الصحف المحلية والنشرات الإخبارية عناوين تتوقع إبعاد هنت عن منصبه على رأس وزارة الصحة. إلا أنه بعد دقائق خرج من الباب الأمامي لمقر رئيسة الحكومة (الرقم 10 داونينغ ستريت) محتفظاً بحقيبته الوزارية، بل أضاف إليها حقيبة أخرى هي الرعاية الاجتماعية.
بذا نجح هنت حيث فشل آخرون قبله؛ وذلك بعدما نجح في تأمين ميزانية إضافية للـ«إن إتش إس»، وإقناع رئيسة الوزراء المحافظة تيريزا ماي بضرورة ضخ 20 مليار جنيه إسترليني إضافي في «الخدمة» التي تعدّ العمود الفقري للدولة البريطانية. ومن ثم، لُقّب بعضهم هنت بـ«منقذ خدمة الصحة الوطنية»... إحدى جواهر التاج البريطاني.
أكثر من هذا، أصبح هنت، الأب الخمسيني لثلاثة أطفال، الوزير الذي شغل أطول فترة على رأس وزارة الصحة منذ إنشاء «خدمة الصحة الوطنية» التي تمولها الحكومة، وهي فترة تجاوزت 5 سنوات وشهوراً. ونقلت صحيفة «الغارديان» – المحسوبة على تيار اليسار المناوئ للمحافظين – عن مسؤول رفيع في قطاع الصحة قوله، إنه «في بيئة تعيق فيها مفاوضات (بريكست) عمل مختلف الوزارات وتعرقل تحقيق أي إنجاز كبير، سيستطيع هنت التباهي بأنه أنقذ الخدمة (وهذا إنجاز كبير)».

- بداية مسيرة متعثرة
ولد جيريمي هنت يوم أول نوفمبر (تشرين الثاني) 1966 في العاصمة البريطانية لندن، وحياته المهنية بعيداً عن السياسة. فبعدما تخرج في جامعة أكسفورد (كلية مودلين) بشهادة علوم سياسية واقتصاد وفلسفة، وفيها ترأس منظمة طلاب حزب المحافظين في عام 1987. عمل هنت مع إحدى الشركات التي تقدم استشارات استراتيجية لمدة سنتين، قبل أن يقرر السفر إلى اليابان والعمل مدرّس لغة إنجليزية.
وبعد العودة إلى بريطانيا، جرب هنت حظه في مشروعات استثمارية، كان بينها محاولة تصدير مواد غذائية بريطانية إلى اليابان، لكنها باءت كلها بالفشل. وهكذا انتقل إلى مشروع جديد متعلق بتقنية المعلومات، تشارك فيه مع أحد أصدقاء طفولته في عام 1991، وباع الرجلان الشركة بعد بضع سنوات، ليؤسسا شركة تقدم خدمات تعليمية أثارت اهتمام مؤسسات كبيرة. وفي يناير 2017، باع هنت رصيده من الشركة، واسمها «هوت كورسز»، إلى جهة أسترالية، وحقق عبر هذه الصفقة ربحاً قدّر بـ14 مليون جنيه إسترليني.
وعاد هنت في بداية الألفية إلى الاهتمام بالسياسة، وانتخب نائباً عن دائرة جنوب غربي سري (في الريف جنوبي لندن) في الانتخابات العامة لعام 2005. ودعم هنت حملة ديفيد كاميرون لترؤس حزب المحافظين، وكوفئ بتعيينه وزير ظل لشؤون ذوي الاحتياجات الخاصة، ليعيّن بعد سنتين من ذلك وزير ظل للثقافة والإعلام والرياضة.

- في السلطة
وفي الحكومة الائتلافية التي شكلها كاميرون، بالتحالف مع حزب «الديمقراطيين الأحرار» في انتخابات 2010، تولى هنت رسمياً حقيبة الثقافة والإعلام والرياضة، وأُضيف إليها إدارة الألعاب الأولمبية التي احتضنتها لندن في 2012، ثم أسندت إليه حقيبة وزارة الصحة في العام نفسه، ولقد احتفظ بها في حكومتي كاميرون وماي، حتى تاريخ تعيينه وزيراً للخارجية خلفاً لبوريس جونسون في الخارجية يوم 9 يوليو (تموز) الحالي.
عقب تقديم كاميرون استقالته في 2016، بعدما صوّت غالبية البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، طُرح اسم هنت لقيادة حزب المحافظين، إلا أنه لم يحظَ بالدعم الكافي. وكانت استقالة رئيس الوزراء كاميرون قد تزامنت آنذاك مع فضيحة إضراب الأطباء، الذي كان الأول من نوعه منذ 40 سنة. كما أن دعم هنت العلني للبقاء في الاتحاد الأوروبي حال دون اعتباره مرشحاً توافقياً في بيئة محافظة منقسمة على نفسها، شريحة واسعة منها متحمسة لتنفيذ رغبة الشعب البريطاني بالخروج.
في المقابل، واجه هنت سلسلة انتقادات قاسية، واتهامات باستغلاله مناصبه السياسة لتحقيق مكاسب مالية أو شخصية. وفي أبريل (نيسان) الماضي، اضطر إلى تقديم اعتذار لتخلفه عن الكشف عن امتلاكه مجموعة من الشقق الفاخرة. ويومذاك أرجع هنت الأمر إلى «خطأ إداري». إلى ذلك، واجه أداء هنت في وزارة الصحة انتقادات حادة، أهمها الحاجة الماسة إلى إعداد المزيد من الأطباء والممرضات، وتردي مستويات الرعاية الصحية المتاحة لكبار السن، وارتفاع معدل الانتظار لتلقي العلاج. وهذه المهمة، بعد انتقال هنت إلى وزارة الخارجية، الآن باتت ملقاة على عاتق مات هانكوك الذي أصبح وزيراً للصحة، بينما جرى تعيين المدعي العام جيريمي رايت وزيراً للثقافة والإعلام والرياضة خلفاً لهانكوك.

- تحدي «بريكست»
قد يكون منصب وزير الخارجية مكافأة لمعظم السياسيين البريطانيين الساعين إلى ترؤس حزب المحافظين، وشق طريقهم صعوداً نحو رئاسة الوزراء، إلا أنه في حالة جيريمي هنت قد يشكل تحدياً قد يؤول إلى إنهاء مسيرته السياسية، أو على الأقل عرقلة تقدمه نحو «داونينغ ستريت». وثمة من يقول، إنه بينما اختار سلفه المثير للجدل بوريس جونسون «القفز من السفينة قبل ارتطامها بحائط بريكست»، ظل هنت داعماً ومخلصاً لتيريزا ماي. ونقل الإعلام البريطاني عن أحد الوزراء قوله، إن «هنت يمضي الكثير من الوقت في مدح رئيسة الوزراء»، كما عبر عن دعمه الكامل الخطة التي طرحتها لتقنين علاقة بلادها مع الاتحاد الأوروبي.
وحقاً، كما سبقت الإشارة، كان هنت رافضاً لفكرة «بريكست»، ولم يتردد في إعلان موقفه علانية بعكس موقف ماي الملتبس، إلا أنه غيّر رأيه في العام الماضي؛ إذ قال خلال مقابلة مع إذاعة «إل بي سي»، في أكتوبر (تشرين الأول) 2017، إنه «غيّر رأيه في هذه المسألة جزئياً بسبب ما شهده من غطرسة مخيّبة للآمال» في سلوك الاتحاد الأوروبي أثناء المفاوضات.
على أي حال، يواجه هنت في منصبه الجديد تحدي الموازنة بين الحفاظ على مكانة بلاده على الساحة الدولية، وتنفيذ رغبة ناخبيه بالخروج من الاتحاد الأوروبي بأقل خسائر اقتصادية ومالية ممكنة. ولعل ما يزيد من صعوبة هذا التحدي هو الهجوم بغاز الأعصاب الذي استهدف عميلاً روسياً مزدوجاً سابقاً وابنته في أحد شوارع مدينة سولزبري البريطانية، الذي أدى إلى موت مواطنة بريطانية قبل أيام في حادث متصل. ولقد اتهمت الحكومة البريطانية روسيا بالوقوف وراء الهجوم ضد العميل سيرغي سكريبال، وأطلقت بالتعاون مع حلفائها في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي «ناتو» حملة طرد جماعية لعشرات الدبلوماسيين الروس. لكن روسيا رفضت الاتهامات البريطانية، وطالبت لندن بتقديم دلائل ملموسة على مزاعمها، وهو أمر يتوقع أن يعقّد مهمة وزير الخارجية الجديد.

- ترمب... وأزمات أخرى
أكثر من هذا، إذا لم تكن هذه التطورات غير المسبوقة تحدياً كافياً، فإن الرئيس الأميركي دونالد ترمب ساهم في زيادة تعقيد المشهد السياسي البريطاني خلال الزيارة الرسمية التي قام بها لبريطانيا في الأسبوع الماضي. إذ استبعد ترمب في مقابلة مع صحيفة «الصن» إبرام اتفاق تجارة حرة تتطلع له بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي في حال طبقت ماي خطتها التي تحافظ على علاقات تجارية وثيقة مع الاتحاد. ولم يقف الرئيس الأميركي، الذي أثارت زيارته جدلاً واسعاً، عند هذا الحد، بل امتدح «صديقه» بوريس جونسون، ورأى أنه «قد يكون رئيس وزراء جيداً».
وإلى جانب هذه القضايا، تعمل لندن مع مختلف الأفرقاء على حل أزمة الحرب السورية، وانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي مع إيران، والسلام في الشرق الأوسط، والتهديدات الأمنية والسيبرانية التي تطرحها روسيا.
لكن رغم كل الأزمات، يبدو أن تفاصيل الـ«بريكست» الداخلية طغت على عمل وزارة الخارجية خلال الأشهر الماضية، بل إنها أطاحت بوزير سابق يتمتع بنفوذ وشعبية داخل حزبه المحافظ وخارج الحدود البريطانية. ولم يبرهن خليفته حتى الآن عن نيته إعادة تركيز الوزارة على القضايا المنوطة بها؛ إذ اكتفى هنت خلال الأيام العشرة الماضية منذ تعيينه بالتعبير عن دعمه الكامل لخطة رئيسة الوزراء وصورة على «تويتر» تعكس مشاركته في قمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) الأخيرة ببروكسل ومتابعته مباريات كأس العالم.
أما جونسون، سلف هنت، فلقد خصّص أول كلمة له أمام البرلمان، بعد موجة استقالات ضربت الحكومة من بعده، لقضية الخروج من الاتحاد الأوروبي. وحذّر جونسون، الذي يراه البعض الآن منافساً محتملاً لماي، من أن خطتها ستترك بريطانيا «في حالة دائمة وتعيسة من الرقص على الحبال». وقال، إنه من خلال عرض اتباع قوانين الاتحاد الأوروبي بشأن التجارة في السلع، ومن دون أن يكون لبريطانيا أي رأي في وضع هذه القوانين «فإننا نتطوع لنكون تابعين اقتصادياً»، كما نقلت عنه وكالة الصحافة الفرنسية. إلا أنه أكد أنه «لم يفت الوقت لإنقاذ (بريكست). لدينا وقت في هذه المفاوضات. لقد غيّرنا المسار مرة ونستطيع تغييره مرة أخرى». كذلك اعتبر جونسون أن ماي عادت عن «رؤيتها الرائعة» حول «بريكست» التي اشتملت على الانفصال عن محاكم الاتحاد الأوروبي والاتحاد الجمركي والسوق المشتركة، وإبرام اتفاقيات تجارة جديدة.
من جانب آخر، عرضت رئيسة الوزراء ماي اقتراحها القاضي بإنشاء منطقة تبادل حر للسلع بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، قبل أسبوعين على وزرائها في مقر إقامتها الريفي في تشيكرز. وأوضحت أن خطتها تسعى إلى الحفاظ على علاقة تجارية وثيقة مع الاتحاد، على أن يواكب ذلك وضع «مجموعة من القواعد المشتركة». لكن أنصار الانفصال اعتبروا أن خطة ماي بمثابة خيانة لتصويت البريطانيين على مغادرة الأسرة الأوروبية، وفي مقدمهم جونسون وزميله المستقبل أيضاً وزير «بريكست» ديفيد ديفيس.


مقالات ذات صلة

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

حصاد الأسبوع شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت

فاضل النشمي (بغداد)
حصاد الأسبوع ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة

راغدة بهنام ( برلين)
حصاد الأسبوع شيل

ألمانيا... الحزب الديمقراطي الحر «شريك الحكم» شبه الدائم

مع أن «الحزب الديمقراطي الحر»، الذي يعرف في ألمانيا بـ«الحزب الليبرالي»، حزب صغير نسبياً، مقارنةً بالقطبين الكبيرين «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (المحافظ)

«الشرق الأوسط» (برلين)
حصاد الأسبوع لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ

رائد جبر (موسكو)
حصاد الأسبوع يأتي انتخاب «عرّو» في وقت حرج لإقليم أرض الصومال لا سيما مع تحديات استمرار رفض مقديشو توقيع الإقليم مذكرة تفاهم مع إثيوبيا

عبد الرحمن محمد عبد الله «عرّو»... دبلوماسي يقود «أرض الصومال» في «توقيت مصيري»

حياة مغلفة بـ«هم الاستقلال»، سواءً عن المستعمر القديم في السنوات الأولى، أو تشكيل «الدولة المستقلة» طوال فترتَي الشباب والشيخوخة، لم تثنِ عبد الرحمن محمد عبد

محمد الريس (القاهرة)

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.