مادلين أولبرايت {المتفائلة} قلقة من حال أميركا ترمب

وزيرة الخارجية الأميركية السابقة تحذر في كتابها الجديد من عودة الفاشية

مادلين أولبرايت
مادلين أولبرايت
TT

مادلين أولبرايت {المتفائلة} قلقة من حال أميركا ترمب

مادلين أولبرايت
مادلين أولبرايت

خدمت مادلين أولبرايت (مواليد 1937) في إدارة الرئيس بيل كلينتون وزيرة للخارجية الأميركيّة بين 1997 و2001، كما أنها دعمت حملة ترشح هيلاري كلينتون للانتخابات الأخيرة، ولذا فإنه ليس مستغرباً وقوفها في مربّع المنتقدين - المتمدد أبداً - لمرحلة الرئيس دونالد ترمب، سواء تجاه ما يمثله الرجل في الحاصل الانتخابي بداية بوصفه سياسياً شعبوياً صعد أدراج السلطة من خلال اللعب على التفاوتات المجتمعيّة، أو لناحية سياساته الإقصائيّة رئيساً وهجماته القاسيّة على كل مؤسسات المنظومة الليبراليّة وهيكيليات العولمة التي كانت الكلينتونيّة السياسيّة - فريق أولبرايت السياسي - في القلب منها خلال عقد التسعينيات. لكن السيّدة التي خبرت أروقة الدبلوماسية لعقود - وما زالت من خلال مكتبها الاستشاري المرموق - والمنحدرة من أسرة يهوديّة عاشت مرحلة صعود الفاشيات والحرب العالميّة الثانية في قلب أوروبا قبل هجرتها إلى الولايات المتحدة ولمّا تتجاوز الـ11 عاماً، تمتلك صلاحيات ربما أكثر من غيرها لتقييم الاتجاه المتأزّم الذي تأخذه الأمور على جانبي الأطلسي منذ انتخاب ترمب رئيساً عام 2015، والمآلات التي يجد العالم نفسه في مواجهتها نتيجة لما تكشّف عنه ذلك الاتجاه. وهي أودعت خلاصة موقفها حول ذلك طيّات كتابها الأحدث – بالتعاون مع بيل وودوورد - الذي عنونته ببساطة: «الفاشيّة: تحذير، Fascism: A Warning»، وصدر بالإنجليزيّة والألمانيّة بوقت متزامن.
وجهة نظر أولبرايت في «تحذير» تذهب إلى أن الفاشيّة ليست بالتجربة المنعزلة أو الفريدة عبر مجمل التاريخ البشري - وإن أخذت أعلى تمثلاتها في إيطاليا موسيلليني وألمانيا هتلر بداية من عشرينيات القرن الماضي وحتى مأساة الحرب العالميّة الثانية، فهي تعتبر أن الفاشيّة ابنة التجربة السياسيّة الإنسانيّة وأنه ليس هنالك بالفعل ما يمنع تدحرج الأمور إلى تلك الهوّة المظلمة مجددا. وهي تنطلق من هذا التصوّر لتسجّل حقيقة تجل تعددي لافت لأوجه التماثل بين الأجواء التي أنتجت تجربة القرن العشرين الفاشيّة القاسية وما يشهده الغرب هذه الأيّام من انقسامات عالية الاستقطاب بين فئات المجتمع، وتفاوتات اقتصاديّة تتزايد دون أفق بإمكان تقليصها حتى على المدى المتوسط، وفوق ذلك كلّه موجة السياسيين الشعبويين - ليس في أميركا وحدها بل عدد متزايد من الدّول عبر المعمورة - ممن يصعدون إلى مواقع السلطة والتأثير عبر التلاعب الاحتيالي على تلك التفاوتات، وتوجيه غضب الطبقات العاملة نحو عدو متخيّل دون توفرهم على أي حلول حقيقيّة للمشاكل البنيويّة العميقة التي أصابت تلك المجتمعات.
وبالرّغم أن أولبرايت تُشيح بوجهها عن مسؤوليّة المنظومة الليبرالية – التي كانت هي ذاتها من حكمائها إبان عملها ضمن الطاقم الكلينتوني – لناحية خلق الفضاء الذي أنتج معالم الأزمة الحاليّة، فإنها تنقل اللّوم إلى تأثيرات العولمة زاعمة أنها رغم كل إيجابياتها، قد تسببت في تهديد إحساس الأفراد بالهويّة، وتركت معسكرين متقابلين من الرابحين والخاسرين في كل مجتمع.
تُصرّف أولبرايت جُزءاً معتبراً من الكتاب لسرد تاريخ صعود وسقوط الحركة الفاشيّة في أوروبا القرن العشرين، لا سيّما السلوك السياسي للدوتشي بينيتو موسيلليني - رئيس وزراء إيطاليا 1922 إلى 1943 – الذي تبحث فيه عن نقاط بارزة محددة يمكن ربطها لاحقاً بالرئيس الحالي للولايات المتحدة – الذي تصفه بأنه «أول رئيس معادٍ للديمقراطيّة في التاريخ الأميركي كلّه». لكن نقاط الرّبط هذه بين الزعيمين تبدو شكليّة أو أقله مبالغاً بها على نحو أن الدوتشي كان زعيماً ذا هالة شخصيّة مغناطيسيّة وكاريزما مسرحية، صعد إلى قمّة السلطة على كتف التفاوتات في المجتمع واعدا الجميع باستعادة عظمة إيطاليا من جديد، وأن الفوهرر الألماني أدولف هتلر اتبع ذات الأسلوب مقدماً اتجاهاً محدداً لمجتمع كان سياسيوه غير قادرين على تحديده بعد هزيمة الحرب العالميّة الأولى القاسية وما ترتب عنها من عقوبات وتنازلات. وتُعيد أولبرايت على مسامعنا بأن الفاشيّة حينها لم تكن مقتصرة على إيطاليا أو ألمانيا، بل كانت تياراً سياسيا قوياً يتمتع بجاذبيّة شعبيّة داخل العديد من دول الغرب بما فيها بريطانيا والولايات المتحدة نفسها، وأن زعيماً غربياً مثل رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل عبّر عن إعجابه الشديد بالفوهرر الألماني بعد اجتماعه به عام 1935، ملمحة بذلك إلى التعدد الحالي لجيوب تيّارات اليمين الشعبوي عبر دول الغرب جميعها تقريباً. لكنّها تُجْمِل أنظمة حاليّة مختلفة فيما تصنّفها بالدّول الفاشيّة من روسيا إلى مصر ومن الفلّبين إلى فنزويلا ومن هنغاريا إلى تركيّا، وهي مقاربة غير دقيقة سوى ربمّا لناحيّة تولي قادة الهرم السياسي فيها سلطات متزايدة، مع اختلافٍ شاسع في السّياقات الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة بينها. بل إن ترمب نفسه ليس فاشيا بالمعنى الأكاديمي للكلمة، ووجْه التشابه بينه وبين موسيلليني لا يتجاوز المستوى الشّخصي المحض - ربما لناحية علاقاتهما النسائيّة المتعددة وولعهما بالاستعراض والمواقف الاستفزازيّة - . فالرّئيس يمثّل النظام الأميركي الذي يسمح بتداول السلطة بين الحزبين، وهناك عدّة تقاطعات بين مؤسسات النظام لمنع التفرّد باتخاذ القرارات الأساسيّة، وهو للحقيقة يتمتع بتأييد متزايد بين الناخبين الأميركيين – وفق استطلاعات الرأي - ولديه قاعدة صلبة منهم تتجاوز ثلثهم على أسوأ التقديرات.
ولذلك يمكن القول بأن أولبرايت في «الفاشيّة: تحذير» ليست قلقة بالفعل من عودة الفاشيّة بقدر ما هي مستاءة من ذلك السقوط المدوي للتجربة الليبرالية التي تسببت بفقدان واسع للثقة بالحكومات، وتفاوتات اقتصاديّة حادة أغضبت القطاع الأوسع من المواطنين العاديين في الغرب. وهي تتوقع أن التصدي للظواهر المستجدة والمماثلة للفاشيّة ربما سيؤدي بالضرورة إلى استعادة مقاليد السلطة من قبل فريقها السياسي، دون أن تشرح كيف سيقوم هذا الفريق بإدارة أكفأ من تلك التي قدّمها إبّان توليه مقاليد الأمور، وهي التجربة التي أوصلت الولايات المتحدة والعالم معها إلى هذا المقطع التاريخي الخطر الذي نحن فيه، طارحة اقتراحاً غامضاً حول عقد اجتماعي جديد بين السلطة والمواطنين مع استبعاد كلي لأي طريق ثالثة.
مادلين أولبرايت التي تصف نفسها بمتفائلة تستشعر القلق من تحولات الأمور، ويزعجها تحديداً أن الولايات المتحدة التي كانت عندها بمثابة ضمانة العالم الوحيدة لمنع تسلط الفاشيات على أوروبا خلال القرن الماضي – بعد موافقة الأفرقاء الأوروبيين في مؤتمر ميونيخ 1938 على منح هتلر المناطق الحيوية التي أرادها ومنها نصف تشيكوسلوفاكيا، حيث تنتمي أسرة أولبرايت - تبدو وكأنها أقرب اليوم إلى تزعّم الفاشيات الجديدة منها أن تتصدى لها.
«الفاشيّة: تحذير» ربما يكون صرخة منفعلة للتخويف من الذئب الذي لم يأتِ بعد، لكن الشروع مبكراً باتخاذ التدابير لمواجهته لحظة وصوله ربما سيجنّب البشريّة حرباً عالمية ثالثة - وأخيرة هذه المرّة فيما إذا أُصيب أحد زعماء الفاشيات النووية الجديدة بلحظة جنون - . السّيدة أولبرايت من برجها الاستشرافي حذّرتنا بالفعل. لكنه من الجلي أن خطة المواجهة الفاعلة ليست في كتابها ولا أي كتاب آخر بعد، وهنا مكمن الخطر على مستقبل البشريّة: فالأرض ما تزال مشرعة للذئاب.


مقالات ذات صلة

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يوميات الشرق دور النشر شهدت إقبالاً كبيراً من الزوار من مختلف الأعمار (هيئة الأدب والنشر والترجمة)

«جدة للكتاب»... مزيج غني بالمعرفة والإبداع بأحدث الإصدارات الأدبية

يعايش الزائر لـ«معرض جدة للكتاب 2024» مزيجاً غنياً من المعرفة والإبداع يستكشف عبره أحدث الإصدارات الأدبية، ويشهد العديد من الندوات وورش العمل والجلسات الحوارية.

إبراهيم القرشي (جدة)
يوميات الشرق يجمع «ملتقى لقراءة» محبي أندية القراءة والمهتمين بها لتعزيز العادات والممارسات القرائية (هيئة المكتبات)

ملتقى دولي في الرياض يعزز التبادل الفكري بين قراء العالم

تنظم هيئة المكتبات «ملتقى القراءة الدولي» الهادف لتعزيز العادات القرائية، من 19 إلى 21 ديسمبر (كانون الأول) بقاعة المؤتمرات في «مركز الملك عبد الله المالي».

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.