نصر الحريري... مفاوض الثورة «البراغماتي»

نصر الحريري... مفاوض الثورة «البراغماتي»
TT

نصر الحريري... مفاوض الثورة «البراغماتي»

نصر الحريري... مفاوض الثورة «البراغماتي»

يتابع نصر الحريري، الطبيب السوري الأربعيني، بحسرة وخيبة المستجدات الواردة من مسقط رأسه في مدينة درعا. فمنذ توليه رئاسة هيئة التفاوض في عام 2017 خسرت فصائل المعارضة تباعاً القلمون وريف حمص والغوطة، ومؤخراً درعا المعروفة بـ«مهد الثورة». يتحدث الحريري عن «صفقة خبيثة» أدت لغياب الرد الأميركي على هجوم قوات النظام السوري المدعومة من روسيا في جنوب غربي البلاد بعد أن استخدمت واشنطن القوة العسكرية ضد هجمات على حلفائها في مناطق أخرى بسوريا.

لكن الخيبة شيء والاستسلام شيء آخر بالنسبة إلى الحريري الذي انضم إلى صفوف الثورة السورية مع انطلاقتها، فعُيّن عضواً بالهيئة السياسية للائتلاف الوطني لقوى الثورة السورية ممثلاً عن الحراك الثوري، قبل أن تختاره المعارضة لرئاسة وفدها إلى مفاوضات جنيف، فرئيس الوفد المفاوض المعارض أكد بالتزامن مع رفع النظام علمه في درعا، المضي في المعركة، مشدداً على أنه «واهم من يعتقد أن معركتنا مع النظام يمكن أن تحددها جغرافياً أو يمكن لها أن تنتهي بسهولة». ورغم توقف المفاوضات في جنيف منذ سعي موسكو لاستبدال المسار السويسري بمسار «سوتشي» الذي كان يعارضه الحريري، فإن هيئة التفاوض سلمت مطلع الشهر الحالي قائمة مرشحيها للجنة الدستورية التي خلص إليها آخر اجتماع في سوتشي للمبعوث الخاص للأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا. وقد اعتبر رئيس الهيئة أنها «خطوة للمضي في تطبيق بيان جنيف 1 وقرار مجلس الأمن 2254 وإيماناً منها بضرورة مواصلة العمل والصمود في كل الجبهات بما فيها السياسية».
ويبدو أن الحريري يتقن الصمود. فابن درعا الذي ولد في الأول من يناير (كانون الثاني) 1977، تخرج في كلية الطب وحصل على الماجستير في الأمراض الباطنية والقلبية، وشغل مناصب عدة، أبرزها رئيس الأطباء في مستشفى الأسد الجامعي بدمشق، ثم رئيس الأطباء في مستشفى درعا الوطني، بعد أن تخصص طبيب القسطرة القلبية في مستشفى الشفاء وعدد من المستشفيات الخاصة في دمشق. وعمل الحريري أيضاً محاضرا في شركة للصناعات الدوائية ومديرا طبيا للعيادات السعودية في مخيم الزعتري، ثم مديراً للمكتب الإقليمي للهيئة الطبية السورية.
لم تكن المسيرة المهنية للحريري محصورة بالتحديات الكبيرة التي يواجهها أي طبيب، إذ تعرض للملاحقة الأمنية منذ 2003 وحتى 2009 بتهمة «بث أفكار تضعف الشعور القومي». وفي عام 2011 انضم إلى «الحراك الثوري السلمي» مع انطلاقة الثورة السورية، وشارك في تنظيم أول اعتصام نقابي، وألقى بياناً قال فيه إن «قوات الأمن مجرمة وهي من ارتكبت المجازر» وإن «الإعلام السوري كاذب يسعى إلى الفتنة، ويجب محاسبته». وقدم هو والمعتصمون استقالات جماعية من حزب «البعث». واعتقل بعد ذلك أكثر من 20 مرة بتهم تمويل الثورة، وإضعاف الشعور القومي، وتصوير الشهيد حمزة الخطيب وبث صوره على القنوات، والتواصل مع قنوات إعلامية معادية للنظام، والتحريض والتأجيج على التظاهر ضد النظام ومعالجة الثوار.
وأسس ابن درعا نقابة الأطباء الأحرار في مدينته عام 2011، وأعلن عن عملها رسمياً في الأردن بعد عامين. وهو عضو مؤسس في المنتدى الوطني للحوار الديمقراطي في الأردن، وفي اللجنة الطبية السورية في الأردن، وفي اللجان المحلية في مدينة درعا، ونقيب الأطباء والصيادلة الأحرار.
لكن مشواره الثوري من الداخل السوري انتهى في عام 2012، بعد أن قرر مغادرة درعا متوجهاً إلى الأردن في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول)، فأقام في مخيم الزعتري وهناك عمل مديراً طبياً للعيادات السعودية في المخيم، كما كان مديراً للمكتب الإقليمي للهيئة الطبية السورية.
وبعدها انضم الحريري إلى الائتلاف المعارض وتولى الأمانة العامة فيه في 2014 قبل أن يُنتخب رئيساً لهيئة التفاوض خلفاً لرياض حجاب في مؤتمر «الرياض 2» في فبراير (شباط) 2017. وترأس ابن درعا وفود المعارضة في اجتماعات جنيف 4 و5 و6 و7 و8 و9. ورغم توقف الاجتماعات، فإن هيئة التفاوض تواصل اجتماعاتها في الرياض بشكل دوري (كل شهر أو كل شهر ونصف تقريباً)، وهي عقدت آخر اجتماع في الرابع والعشرين من الشهر الماضي وبحثت خلاله المشاركة في اللجنة الدستورية التي تم التفاهم عليها في اجتماعات «سوتشي». وتم فعلياً إرسال مجموعة من الأسماء المقترحة إلى دي ميستورا.
وأعلن الحريري مؤخراً أن اللجنة الدستورية التي ستشكلها الأمم المتحدة من أجل الحل السياسي في البلاد، تتكون من النظام والمعارضة والخبراء بنسبة الثلث لكل طرف، لافتاً إلى أن اللجنة الدستورية «تم الحديث عنها في جنيف، وازداد زخمها بعد مؤتمر سوتشي (الحوار السوري)، وخف الحديث عنها لاحقاً لرفض النظام لها». وأوضح أنه «بعد قرار إرسال الأسماء للأمم المتحدة زاد الزخم، والدول الضامنة (تركيا وروسيا وإيران) يتم التشاور معها للوصول إلى 150 عضواً، وهناك سعي أممي للتواصل مع دول آستانة، والتواصل مع الدول الغربية للتوصل إلى تصور بشأن اللجنة».
ويأخذ معارضو الحريري عليه أنه كان في عام 2014 من أبرز المعارضين للمفاوضات مع النظام السوري ولمسار الحل السياسي باعتباره جمّد إلى جانب 43 عضواً عضويتهم في الائتلاف المعارض بعد قرار القيادة المشاركة في مفاوضات جنيف، وأنه تحول اليوم إلى رئيس الوفد المفاوض.
ولم تشارك هيئة التفاوض بشكل رسمي في المفاوضات التي أفضت إلى انضمام درعا إلى «مناطق المصالحات» وإن كان 3 من أعضائها أبرزهم بشار الزعبي جلسوا مع الروس على طاولة واحدة، وكانوا شركاء بالاتفاق الذي تم توقيعه مؤخراً. وتؤكد مصادر مطلعة أن الحريري لم يكن له أي دور بالتواصل المباشر مع المفاوضين الروس، وكان فقط على اتصال بقادة الفصائل في الجنوب، لافتة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى أنه ركز جهوده على تكثيف الاتصالات مع السعودية والأردن وتركيا، «وحين تم توقيع الاتفاق بخصوص درعا لم يكن للهيئة أي دور أو قرار».
ويأخذ مدير «مركز جسور للدراسات» محمد سرميني على الحريري أنه «براغماتي بطريقة مبالغ فيها»، لافتاً إلى أنه «كان من المجموعة التي قاطعت مؤتمر جنيف 2 وعلقت مشاركتها في الائتلاف، لكن الآن هو المسؤول الأول عن التفاوض». ويرى سرميني في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «الحريري لم ينجح في ملء الفراغ الذي تركه رئيس الوزراء الأسبق رياض حجاب»، مشيراً إلى أن «الأداء الذي قدمته الهيئة في درعا مؤخراً كان مخيباً باعتبارها ظلت متفرجة على تسليم المنطقة للنظام والروس».
في المقابل، تؤكد مصادر قريبة من الهيئة أنها «لم تقف أبدا متفرجة على ما يحصل في درعا وحاولت ممارسة كل الضغوط اللازمة سواء من خلال الاتصالات والمشاورات المفتوحة مع سفراء الدول الكبرى، أو من خلال محاولة الحد من خسارة المعارضة بالصفقة التي تم بالنهاية فرضها بعد قرار واشنطن تسليم المنطقة للروس»، مذكرة في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «دورها يبقى إلى حد بعيد محصوراً بالعمل الدبلوماسي ولا سلاح بين يديها إلا التمسك بالقرارات الأممية».
ورغم بعض الأصوات المعارضة أو المنتقدة لأداء الحريري والمطالبة باستقالته من منطلق أن أعضاء الهيئة يجلسون على طاولة المفاوضات لإيجاد حل سياسي، فيما النظام يطبق عملياً الحل العسكري، فإن مصادر الائتلاف المعارض تنفي تماماً وجود أي نية حالياً لانتخاب بديل عن الحريري أو عن أحد أعضاء الهيئة.
وصوّب ابن درعا بوضوح نهاية الشهر الماضي باتجاه الولايات المتحدة، فشجب ما سماه «الصمت الأميركي» على هجوم قوات النظام السوري على درعا في جنوب غربي سوريا، واصفاً ما يحصل بأنه «صفقة». وقال الحريري في مؤتمر صحافي في الرياض إن وجود «صفقة خبيثة» هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفسر غياب الرد الأميركي على هجوم القوات الحكومية المدعومة من روسيا في جنوب غربي سوريا بعد أن استخدمت واشنطن القوة العسكرية ضد هجمات على حلفائها في مناطق أخرى من سوريا. ورأى أن واشنطن تحافظ فقط على المناطق التي تريدها في سوريا. كما وصف تحرك المجتمع الدولي حيال جنوب سوريا بـ«الوهمي والفارغ»، معتبراً أن المجازر التي ترتكب بحق المدنيين «عار وعيب بحق المجتمع الدولي».
ولعل أبرز ما يسبب نوعاً من الخيبة للحريري في الأشهر الماضية، بحسب مقربين منه، هو إمعان النظام بالحل العسكري مقابل قرار أميركي واضح تم إلزام حلفاء واشنطن به لجهة وقف تقديم الدعم المسلح لمقاتلي المعارضة. وقد تحدث مؤخراً لوكالة «رويترز» عن قرار دولي اتُخذ نهاية السنة الماضية، بوقف الدعم العسكري، «ما يعني أنه قرار للولايات المتحدة». وأضاف: «نحن نعرف، والشعب السوري يعرف، أن أميركا لا ترغب جدياً في الوصول إلى الحل السياسي ووضع ثقلها الحقيقي في المفاوضات، وهي قادرة على إحداث تغيير ما».
وبعد الإقرار بتخلي واشنطن عن المعارضة السورية، يسعى الحريري إلى إقناع الاتحاد الأوروبي بعدم سلوك المسار الأميركي، مشدداً على أنه «ينبغي للاتحاد الأوروبي ألا يمنح أي شرعية للحكومة السورية، لأنه على رغم المكاسب العسكرية الأخيرة التي حققها النظام، فإنه لن يتمكن من السيطرة الكاملة على البلاد». ولا تزال هيئة التفاوض تعتبر الاتحاد الأوروبي أحد أهم شركاء المعارضة، وترى أنه «لإحراز تقدم في العملية السياسية في جنيف، علينا أن نمارس ضغوطاً على روسيا والنظام وحلفائه، خصوصاً أن لدى الأوروبيين كثيرا من الأدوات للضغط على روسيا والنظام».
وخلال زيارته لندن في مايو (أيار) الماضي، تحدث الحريري في مقابلة مع «الشرق الأوسط» عن ثمانية إجراءات تقوم بها طهران لتثبيت بقائها في سوريا هي «أولاً، عرقلة الحل السياسي، وثانياً، تجنيس ميليشيات والسيطرة على ممتلكات، وثالثاً، جلب عشرات آلاف الميليشيات الأجانب، ورابعاً، السيطرة على القرار، وخامساً، بناء قواعد عسكرية إيرانية، وسادساً، إقامة مستودعات ومصانع أسلحة، وسابعاً، إبرام عقود اقتصادية لثروات استراتيجية، وثامناً، تجييش وتعبئة طائفية». واعتبر أن «كل هذا جعل من رئيس (فيلق القدس) في (الحرس الثوري) الإيراني قاسم سليماني حاكماً في سوريا».


مقالات ذات صلة

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

حصاد الأسبوع جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب

يوسف دياب (بيروت)
حصاد الأسبوع تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني

براكريتي غوبتا (نيودلهي (الهند))
حصاد الأسبوع تشون دو - هوان (رويترز)

تاريخ مظلم للقيادات في كوريا الجنوبية

إلى جانب يون سوك - يول، فإن أربعة من رؤساء كوريا الجنوبية السبعة إما قد عُزلوا أو سُجنوا بتهمة الفساد منذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية في أواخر الثمانينات.

«الشرق الأوسط» (نيودلهي)
حصاد الأسبوع الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

شرق السودان... نار تحت الرماد

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق

أحمد يونس (كمبالا (أوغندا))
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أ.ب)

"تايم "تختار دونالد ترمب شخصية العام 2024

اختارت مجلة تايم الأميركية دونالد ترمب الذي انتخب لولاية ثانية على رأس الولايات المتحدة شخصية العام 2024.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
TT

أميركا اللاتينية منقسمة إزاء التعايش مع ترمب «العائد»

الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)
الرئيس الأرجنتيني اليميني خافيير ميلي مع ترمب "حليفه الأكبر" في واشنطن خلال فبراير (شباط) الماضي (رويترز والرئاسة الأرجنتينية)

من شائع القول، أن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة يجب أن تكون مفتوحة لمشاركة جميع سكان العالم، لما لنتائجها من تأثير سياسي واقتصادي وأمني على الصعيد الدولي الواسع. لكن مما لا شك فيه أن أميركا اللاتينية التي تعد «الحديقة الخلفية» لواشنطن، والتي طالما كان ليد الإدارات الأميركية الطولى وأجهزة استخباراتها الدور الحاسم في تحديد خياراتها السياسية والاقتصادية، هي الأشد تأثراً بوجهة الرياح التي تهبّ من البيت الأبيض. «الصوت اللاتيني» كان هذه المرة موضع منافسة محتدمة بين الجمهوريين والديمقراطيين خلال الحملة الانتخابية، وكان راجحاً في كفّة المرشح الفائز، كما دلّ على أهميته قرار الرئيس العائد دونالد ترمب اختيار منافسه في الانتخابات الأولية، السيناتور الكوبي الأصل ماركو روبيو، لمنصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة. إلا أن ردود الفعل في بلدان أميركا اللاتينية على فوز دونالد ترمب بولاية رئاسية ثانية، جاءت متفاوتة ومتأرجحة بين القلق الدفين في أوساط الأنظمة اليسارية والتقدمية، والابتهاج الظاهر بين الحكومات والأحزاب المحافظة واليمينية المتطرفة.

أول المحتفلين بفوز الرئيس دونالد ترمب والمُنتشين لعودته إلى البيت الأبيض كان الرئيس الأرجنتيني اليميني المتطرف خافيير مَيلي الذي سارع، بعد أسبوع من إعلان الفوز، لملاقاته في مقره بولاية فلوريدا حيث أعرب له عن «استعداد الأرجنتين الكامل لمساعدته على تنفيذ برنامجه».

أيضاَ، المعارضة البرازيلية التي يقودها الرئيس اليميني المتطرف السابق جايير بولسونارو - الذي يخضع حالياً للمحاكمة بتهمة التحريض على قلب نظام الحكم وهو ممنوع من السفر خارج البلاد - لم تكن أقل ابتهاجاً من الرئيس الأرجنتيني أو المعارضة الفنزويلية التي عادت لتعقد الآمال مجدّداً على رفع منسوب الضغط الأميركي على نظام نيكولاس مادورو اليساري في فنزويلا والدفع باتجاه تغيير المعادلة السياسية لصالحها.

حذر في المكسيك

في المقابل، حاولت السلطات المكسيكية من جهتها إبداء موقف حذر على الرغم المخاوف التي تساورها من أن يفي الرئيس الأميركي العائد بالوعود التي قطعها خلال الحملة الانتخابية حول الهجرة والتجارة ومكافحة المخدرات، والتي تجعل من المكسيك أكثر بلدان المنطقة تعرّضاً لتداعيات السياسة الشعبوية المتشددة التي ستتبعها إدارته الثانية اعتباراً من العام المقبل. ومعلوم أن ترمب كان قد جعل من بناء «الجدار» على الحدود الفاصلة بين المكسيك والولايات المتحدة عنواناً لحملته الانتخابية الأولى وأحد ركائز حملته الثانية، إلى جانب خطابه العنصري المناهض للمهاجرين المكسيكيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من المهاجرين اللاتينيين إلى الولايات المتحدة. كذلك، كان ترمب قد هدد الرئيسة المكسيكية الاشتراكية الجديدة كلاوديا شاينباوم بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 في المائة على السلع المستوردة من المكسيك ما لم تمنع تدفق المهاجرين من أميركا الوسطى إلى الولايات المتحدة عبر أراضي المكسيك.

الرئيسة شاينباوم قلّلت من شأن تهديدات ترمب، وقالت إن بلادها - كالعادة - «ستتمكن من تجاوز الأزمة»، لكن لا أحد يشك في أن الدولة المرشحة لأكبر قدر من الضرر جرّاء عودة ترمب إلى البيت الأبيض هي المكسيك، أولاً نظراً لكونها الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، وثانياً لأن العلاقات بين البلدين المتجاورين هي أشبه بزواج لا طلاق فيه.

من جهة ثانية، كان لافتاً أن سوق المال (البورصة) المكسيكية لم تتعرّض لأي اهتزازات تذكر بعد إعلان فوز ترمب، خلافاً لما حصل بعد فوزه بالولاية الأولى عام 2016. وهو ما يدلّ على التأقلم مع أسلوبه والتكيّف معه، وأيضاً على متانة «اتفاقية التجارة الحرة» بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كإطار يحكم المبادلات التجارية بين البلدان الثلاثة.

المشهد البرازيلي

في البرازيل، كما سبقت الإشارة، كان الرئيس السابق جايير بولسونارو بين أوائل المهنئين بفوز دونالد ترمب. إذ أعرب عن ابتهاجه لهذا «النصر الأسطوري الذي منّ به الله تعالى على الولايات المتحدة والعالم»، في حين اكتفت حكومة الرئيس الحالي اليساري الحالي لويس إيناسيو (لولا) بالطقوس الدبلوماسية المألوفة، بعدما كان «لولا» قد أعلن صراحة دعمه لمرشحة الحزب الديمقراطي نائبة الرئيس المودّعة كمالا هاريس.

أكثر من هذا، تابع إدواردو بولسونارو، نجل الرئيس السابق والعضو في مجلس النواب البرازيلي، عملية فرز نتائج الانتخابات الأميركية في منزل ترمب بفلوريدا، حيث صرّح بعد إعلان الفوز: «ها نحن اليوم نشهد على قيامة مقاتل حقيقي يجسد انتصار الإرادة الشعبية على فلول النخب التي تحتقر قيمنا ومعتقداتنا وتقاليدنا». وبالمناسبة، لا يزال بولسونارو «الأب» عازماً على الترشّح للانتخابات الرئاسية البرازيلية في عام 2026. على الرغم من صدور حكم قضائي مُبرم يجرّده من حقوقه السياسية حتى عام 2030 بتهمة سوء استخدام السلطة والتحريض على الانقلاب.

بالتوازي، كان «لولا» قد تعرّض للانتقاد بسبب تأييده الصريح لهاريس، الذي ضيّق كثيراً هامش المناورة أمامه بعد هزيمتها. لكنه علّق بعد تهنئته ترمب: «الديمقراطية هي صوت الشعب الذي يجب احترامه».

اليوم يعتقد أنصار بولسونارو أن المشهد السياسي الأميركي الجديد، والدور الوازن الذي يلعبه الملياردير إيلون ماسك داخل إدارة ترمب، قد يشكّلان ضغطاً على الكونغرس البرازيلي والمحكمة العليا لإصدار عفو عن الرئيس البرازيلي السابق يتيح له الترشح في انتخابات عام 2026 الرئاسية. أما على الصعيد الاقتصادي، فتخشى البرازيل، في حال قرّر ترمب رفع الرسوم الجمركية وفرض إجراءات حمائية، خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة وتراجعاً في قيمة موادها الخام. كذلك، من شأن إغلاق السوق الأميركية أمام السلع الصينية أن يؤدي إلى خفض الطلب على المواد الخام التي تشكّل عماد المبادلات التجارية البرازيلية. أما على الصعيد البيئي، فقد حذرت وزيرة البيئة البرازيلية مارينا سيلفا من أن الأسرة الدولية ستكون مضطرة لمضاعفة جهودها للحد من تداعيات أزمة المناخ إذا قرر ترمب المضي في تنفيذ سياساته البيئية السلبية المعلنة.

مَيلي متحمّس ومرتاح

الرئيس الأرجنتيني خافيير مَيلي، من جانبه، احتفى بفوز ترمب على وسائل التواصل الاجتماعي، وتعهد بالتعاون مع إدارته لتنفيذ برنامجه الانتخابي، معوّلاً على استثمارات أميركية ضخمة في القطاعات الإنتاجية الأرجنتينية. وانضمّ أيضاً إلى «التهاني» من معسكر اليمين الأرجنتيني الرئيس الأسبق ماوريسيو ماكري، الذي يشارك حزبه المحافظ في حكومة مَيلي الائتلافية، والذي سبق أن كان شريكاً لترمب في صفقات عقارية في الولايات المتحدة.

يُذكر أن ترمب كان قد لعب دوراً حاسماً في منح صندوق النقد الدولي قرضاً للأرجنتين بقيمة 44 مليار دولار أميركي عام 2018 ما زالت عاجزة عن سداده. وفي حين يأمل مَيلي بأن تساعده الإدارة الأميركية الجديدة بالحصول على قرض جديد من صندوق النقد يحتاج إليه الاقتصاد الأرجنتيني بشدة للخروج من أزمته الخانقة، فإنه يعرف جيداً أن ترمب سيكون بجانبه في «الحرب الثقافية» التي أعلنها على اليسار الدولي وأجندته التقدمية.

فنزويلا وكوبا

في الدول الأميركية اللاتينية الأخرى، علّق إدموندو غونزاليس أوروتيا، مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية الفنزويلية - المنفي حالياً في إسبانيا والذي تدلّ كل المؤشرات على فوزه - علَّق على فوز ترمب بوصفه هو أيضاً الفائز الذي اعترفت به دول عدة بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فقال: «هذه إرادة الشعب الأميركي وأهمية التناوب على الحكم».

أما زعيمة المعارضة ماريا كورينا ماتشادو، التي اضطرت للتنازل عن ترشيحها لصالح غونزاليس بعدما جرّدها القضاء من حقوقها السياسية - فقد هنأت ترمب بقولها: «نعرف أنك كنت عوناً لنا دائماً، والحكومة الديمقراطية التي اختارها الشعب الفنزويلي ستكون حليفاً موثوقاً لإدارتك».

من الجانب الآخر، اختارت الحكومة الفنزويلية اليسارية التزام الحذر في تعليقها الأول على فوز ترمب، وجاء في تهنئتها البروتوكولية: «نوجه التهنئة لشعب الولايات المتحدة على هذه الانتخابات. إن فنزويلا على استعداد دائماً لإقامة علاقات مع الإدارات الأميركية في إطار الحوار والرشد والاحترام». وأضاف البيان الذي صدر عن الرئاسة الفنزويلية مستحضراً خطابه المعهود: «إن الاعتراف بسيادة الشعوب وحقها في تقرير مصيرها هو الأساس لقيام عالم جديد يسوده التوازن بين الدول الحرة»، في إشارة إلى المفاوضات المتعثّرة منذ سنوات بين واشنطن وكاراكاس لإيجاد مخرج من الأزمة الفنزويلية التي تمرّ اليوم بأكثر مراحلها تعقيداً. وهنا تجدر الإشارة إلى أن ترمب كان قد فرض إبان ولايته الرئاسية الأولى ما يزيد عن مائة عقوبة على فنزويلا، وانتقد بشدة قرارات إدارة بايدن برفع بعضها. غير أنه ليس واضحاً بعد كيف ستكون مقاربته لهذا الملف، خاصة، أن فنزويلا يمكن أن تساعد على تلبية الاحتياجات الأميركية من الطاقة في ظروف دولية معاكسة بسبب الحرب في أوكرانيا والاضطرابات في الشرق الأوسط.

وبما يخصّ كوبا، تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض معها أيضاً «سحباً سوداء» فوق كوبا التي تتوقع تشديد العقوبات والمزيد منها. وكان ترمب قد حطّم جميع الأرقام القياسية في العقوبات التي فرضها على النظام الكوبي، وأدرجها على قائمة «الدول الراعية للإرهاب»، الأمر الذي يضفي صعوبات جمّة على علاقات الدولة الكوبية المالية مع الخارج. ويلفت أن الحكومة الكوبية - حتى كتابة هذه السطور - لم تعلّق بعد على فوز دونالد ترمب بولاية ثانية.

تحمل ولاية ترمب الثانية في البيت الأبيض

معها «سحباً سوداء» فوق كوبا

التي تتوقع تشديد العقوبات

الرئيس المكسيكية الاشتراكية كلاوديا شاينباوم (رويترز)

كولومبيا تثير موضوع غزة

كولومبيا أيضاً يسود فيها الترقّب الحذر لمعرفة الوجهة التي ستسير بها العلاقات بين ترمب والرئيس الكولومبي اليساري غوستافو بترو اللذين لا يجمع بينهما أي رابط شخصي أو عقائدي. بيد أن هذا لم يمنع بترو من توجيه رسالة تهنئة إلى الرئيس الأميركي العائد لعلها الأكثر صراحة في مضمونها السياسي والمواضيع التي ستتمحور حولها علاقات المعسكر التقدمي في أميركا اللاتينية مع الإدارة الأميركية اليمينية المتشددة الجديدة. وجاء في رسالة بترو: «إن السبيل الوحيد لإغلاق الحدود يمرّ عبر ازدهار بلدان الجنوب وإنهاء الحصار»، في إشارة واضحة إلى العقوبات الأميركية المفروضة على فنزويلا وكوبا. ثم تناولت الرسالة موضوع غزة، الذي يستأثر باهتمام كبير لدى الرئيس الكولومبي، وأوردت: «الخيار التقدمي في الولايات المتحدة لا يمكن أن يقبل بالإبادة التي تتعرّض لها غزة».

باقي اليمين يرحب

في المقابل، اكتفت رئيسة البيرو، دينا بولوارتي، التي منذ سنة لا تتمتع بتأييد سوى 8 في المائة من مواطنيها، بتوجيه رسالة تهنئة «للمرشح دونالد ترمب على فوزه في الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في الولايات المتحدة»، بينما غرّد دانيال نوبوا، رئيس الإكوادور اليميني الذي تشهد بلاده أزمة سياسية وأمنية عميقة منذ أشهر، على حسابه مرحباً: «مستقبل زاهر ينتظر قارتنا بفوز دونالد ترمب».

وفي تشيلي - التي يحكمها اليسار - كان أول المهنئين خوسيه أنطونيو كاست، زعيم الحزب الجمهوري اليميني المتطرف الذي يطمح للفوز في الانتخابات الرئاسية العام المقبل. وفي المقلب الآخر، على الصعيد الرسمي بادر وزير الخارجية التشيلي ألبرتو فان كلافيرين إلى التهنئة المبكرة قائلاً: «نتيجة الانتخابات كانت واضحة وكاشفة على أكثر من صعيد. نقيم علاقة دولة مع الولايات المتحدة، والعلاقات هي بين الدول، ونطمح لأفضلها مع حكومة الرئيس ترمب الجديدة». أما الرئيس التشيلي اليساري غابريل بوريتش، الذي كان آخر المهنئين بين زعماء المنطقة، فجاء في رسالته: «تؤكد تشيلي التزامها توطيد العلاقات مع الولايات المتحدة من أجل تحقيق تنمية شاملة، واحترام حقوق الإنسان والعناية بالديمقراطية».

 

حقائق

واقع العلاقات والمخاوف في أميركا الوسطى

في أميركا الوسطى، وتحديداً السلفادور، وعلى الرغم من العلاقات الجيدة التي تربط رئيسها نجيب أبو كيلة (الفلسطيني الأصل) مع دونالد ترمب، كما تَبيّن خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي المنتخب، فإن ثمة مخاوف ملموسة من التهديدات التي أطلقها ترمب خلال حملته الانتخابية بطرد جماعي للمهاجرين غير الشرعيين. للعلم، فإن ملايين من مواطني السلفادور يعيشون في الولايات المتحدة بصورة غير شرعية، ويُشكِّلون مصدر الدعم الاقتصادي الأساسي لعائلاتهم في وطنهم الأم. وحقاً تعدّ تحويلات المهاجرين الواردة من الولايات المتحدة المحرّك الرئيسي لاقتصاد السلفادور، إذ بلغت في العام الماضي ما يزيد على 5 مليارات دولار.وراهناً، يسود الاعتقاد بين المراقبين الأميركيين اللاتينيين - على امتداد القارة - بأن دونالد ترمب، الذي استطاع خلال 8 سنوات أن يهدم المجتمع الأميركي ويعيد تشكيله على مزاجه وهواه، يشكّل اليوم - في أحسن الأحوال - مصدر قلق عميق بالنسبة لبلدان المنطقة. ويتوقع هؤلاء أن تكون التداعيات المحتملة لولايته مرهونةً بأمرين: الأول، مدى اعتماد هذه البلدان سياسياً واقتصادياً على الولايات المتحدة. والثاني، أين سيكون موقع أميركا اللاتينية بين أولويات السياسة عند الإدارة الجديدة في واشنطن.