مذكرات حمادي الجبالي الحلقة (2): لولا نكسة 1967 ربما كنت ثائرا غير إسلامي

الثورة الإيرانية أعطتنا شحنة سياسية

الجبالي يبدو أعلى الصورة في المدرسة «التريكنة القرآنية» سنة 1957
الجبالي يبدو أعلى الصورة في المدرسة «التريكنة القرآنية» سنة 1957
TT

مذكرات حمادي الجبالي الحلقة (2): لولا نكسة 1967 ربما كنت ثائرا غير إسلامي

الجبالي يبدو أعلى الصورة في المدرسة «التريكنة القرآنية» سنة 1957
الجبالي يبدو أعلى الصورة في المدرسة «التريكنة القرآنية» سنة 1957

ردد حمادي الجبالي أثناء مقابلات «الشرق الأوسط» معه، أنه خلق ليكون ثوريا، وأن حرب 1967 تركت أثرا سلبيا في حياته، ما زال يعده إلى الآن الأكثر عمقا في نفسه.
كذلك كرر الجبالي مرارا أنه لولا هزيمة 1967 و«صدمته» في جمال عبد الناصر لربما كان ذا توجه غير إسلامي، والأرجح أنه سيكون قوميا. وان المهم بالنسبة إليه حسب ما ذكر، أن يجد «الحرية والمساواة» التي ينشدها.
ولم يأت ميل الجبالي الى المعارضة من فراغ، ذلك ان والده كان قبله معارضا ينتمي للتيار اليوسفي أو ما يعرف بجماعة «اليوسفيين» نسبة لصالح بن يوسف، القيادي المعارض للرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة منذ وصوله للرئاسة إثر استقلال البلاد عن الاستعمار الفرنسي وقيام الجمهورية.

«قرار أن أكون معارضا أتخذته ولم يكن بإمكاني التراجع عنه، فقد كنت على قناعة بأنه لا يمكنني إلا أن أكون معارضا. في البداية، كنت أعتقد أن هذا الأمر وراثي وطبيعي, لأن والدي كان معارضا لبورقيبة، وكان من مناصري الحركة اليوسفية والمناضلين فيها. لكن بعد ذلك، وجدت أشياء في الواقع دعمت توجهي هذا، وأهمها نظرتي للحكم البورقيبي، أو بالأحرى للحزب الدستوري. وهنا اختلط عندي عاملان في المسألة: عامل أن بورقيبة لم يسمح بالرأي المخالف، الذي جسده وقتها التيار اليوسفي، بينما كنت ارى أن التوجه اليوسفي تيار عروبي إسلامي قريب من الهوية، في حين أن بورقيبة قريب من فرنسا والاستعمار.
وهناك أمر آخر، هو أن صالح بن يوسف كان مع استقلال المغرب العربي، خاصة الجزائر،وهوالمطلب الذي تزايد بعد مؤتمر طنجة الذي جمع قيادات حزبية من المغرب والجزائر وتونس، واتفقت خلاله الحركات التحررية في هذه البلدان على العمل معا، و يتعاونوا في إطار مشترك، وأن لا يدخل أي منهم في مفاوضات مع فرنسا إلا في إطار المغرب العربي.
عندما كنت صغيرا كنت متشبعا بهذه الأفكار، خاصة أن بن يوسف كان عروبيا- إسلاميا، ومع تحرير لكل المنطقة، في حين أن بورقيبة أتى باستقلال داخلي، كنت أراه قريبا لفرنسا.
صحيح أن فكرة المعارضة كانت موجودة، لكنني لما أعيد النظر فيها الآن يمكنني القول إنها لم تكن صحيحة، لأنه بعد ذلك تبين لي زيف الطريق الذي كنت أتبع حيث كنت في مرحلة شبابي من اليوسفيين، و انطلقت إلى فكرة العروبة، وخاصة بعد الثورة المصرية، وانتقلت أنا ووالدي وإخواني إلى الفكر القومي؛ ثورة عبد الناصر والثورة العربية.
كنت أرى في عبد الناصر بطلا جاء ليحرر الأمة، ويأخذها نحو الوحدة.
وكانت بالنسبة لي المنقذ البطل، وكان بورقيبة بسياسته ضد هذه الوحدة التحررية، ضد عنصر الثورة العربية. هذا كان انطباعي عن بورقيبة والحزب، إلى جانب أني لم أكن أفهم معاني الحرية والديمقراطية والتعددية، وكنا نرى الحزب الحاكم هو المسيطر المهيمن، ويظهر علامات الفساد في البلاد.
المحطة الأخرى التي غيرت قناعاتي هي هزيمة 1967، التي أعدها نقطة تحول في حياتي.في ذلك الوقت كنت في صف البكالوريا (الثانوية العاته) .
وكانت الحرب بالنسبة لي مبعث أمل، وفكرة تحرير فلسطين، والوحدة العربية والقوى العربية.
وعلى قدر ما كانت خيبتي كان اندفاعي للقراءة والبحث عن البديل، بدأت بالبحث حول «الإخوان» والقراءة عنهم، كما كنت أقرأ كل ما توافر لي من كتابات أدبية وغيرها، قرأت لمصطفى لطفي لمنفلوطي، ولطه حسين، أيضا ركزت في بحوثي حول «اشتراكية عمر بن الخطاب»، و«الخلفاء والتاريخ الإسلامي»، ومن هنا جاء اكتشافي للفكر الإسلامي.
وبعدها بدأت أهتم بأخبار عبد الناصر وسياسته. بدأت التفكير في أسباب الهزيمة، وتوصلت إلى نتيجة أن الثورة كانت زائفة بعد الآمال التي انفتحت، وبعد النكسة لم يتحسن وضع العرب، وخاصة الانقلابات التي تلت الثورة المصرية عام 1952، وتوصلت إلى أن ما وقع في العالم العربي وقتها لم يكن ثورة، بل مجرد شعارات، و هذا التحول الثاني في حياتي بعد أن كان التحول الأول في طفولتي، هو سجن والدي.
أتذكر أنني دعمت المعارضة اليوسفية بشدة، خاصة لأنني كنت بكل جوارحي مع عبد الناصر لاسيما الفترة التي ألقى فيها بورقيبة بخطابه الشاذ، أو الذي عد شاذا وقتها، ودعا فيه للصلح بين إسرائيل وفلسطين.
يومذاك قال للفلسطينيين في الأردن والضفة الغربية لا خيار لهم إلا السلم وتقاسم الارض، فقامت القيامة عليه من طرف الجميع، ونعتوه بالخيانة. وعلق عبد الناصر وقتها على خطابه.
كل هذه الأمور جعلتني أدخل في تصادم مع الفكر العروبي والناصري والوحدوي والثوري والثورة.

أعجبتني اشتراكية عمر
كنت أميل لفكر عبد الناصر والثورة، لكن نقطة الضعف فيهأنه لم يكن يتكلم عن الحريات، كما ان الفكر الإسلامي كان بعيدا كل البعد عن الحرية والاشتراكية والرأسمالية، كانت بالنسبة لي قريبة للحكم الرجعي.
الثورة العربية وجدت فيها بعدا قوميا واشتراكيا، وهذا ما دفعني أيضا للبحث في الاشتراكية، واشتراكية عمر التي تشبعت بها، وأعجبت بها كثيرا.
ووجدت في الإسلام عبر فكر عمر العدالة الاجتماعية، والمساواة، وأنه جاء ضد رأس المال المتوحش، كما وجدت في البعد الإسلامي أبعادا اجتماعية.
وكنت قريبا أيضا من الاتحاد السوفياتي والثوار في كوبا.
وشيئا فشيئا اقتنعت بأن المبادئ التي تدعو إليها الاشتراكية، وخاصة مبادئ العدالة الاجتماعية، الإسلام قريب جدا منها، لكن متابعتي وتأثري بعبد الناصر، وتيتو، وفيدل كاسترو، وبتشي جيفارا لم يمنعني من التوصل إلى نتيجة أخرى، وهي أن الاشتراكية بالفعل بحث عن الحريات، لكنها في الوقت نفسه تقمع الحرية الدينية، فهي ضد حرية التدين، وواصلت بحثي على الأفكار الاشتراكية وكانت عدالة عمر بن عبد العزيز.
في ذلك الوقت كان الإسلام ضد الغنى الفاحش، بالنسبة لي ، ضد سلطة المال، وبالتالي لم يكن مصادما للاشتراكية، وعندما سافرت إلى الخارج، وجدت نفسي أقرب للشق اليساري الاشتراكي الفرنسي والأوروبي، ولهذا في الثمانينات كنت أميل للشق الفرنسي الشيوعي، لأن الشيوعيين عندهم بعد آيديولوجي حول الدين، وفهمت في ذلك الوقت بعد بحث أن الكنيسة كانت سببا فيما وصل إليه الفكر الماركسي. كما بحثت عن تبريرات للثورة الفرنسية، فكان هناك الإقطاعيون الذين يملكون الأرض، وهم السبب في فقر الناس والمظالم الاجتماعية، وجاءت الكنيسة لتبرر أفعال الملاك، وهذا ما دفع الشعب للثورة ضد الكنيسة، واسترجاع ملكية الشعب وحقوقه، وهكذا عوقبت الكنيسة بإخراجها من الحياة العامة.
أنا لم أسلم بفكرة قبل التوقف للتساؤل والبحث، بدأت بالبحث في هزيمة العرب، وتقدم الغرب، كنت شابا يبحث عن المثل في بلده الذي تركه الاستعمار الفرنسي، ليبقى الفقر.

الثورة الإيرانية وتأثيرها
بعد 1979، أخذت حركة النهضة منعرجا آخر، وهذا لتأثرها بالثورة الإيرانية، ولأننا كنا بعيدين عن الصراعات المذهبية، لم نكن ننظر إطلاقا إلى الجانب المذهبي الشيعي، لكن ولأن الشباب الموجود كان مهيأ للنفس الثوري الإسلامي، جرى التفاعل مع الثورة الإيرانية، ولو كانت ثورة أخرى حصلت في ذلك الوقت في بلد إسلامي آخر، لكنا تبنيناها.
وأذكر وقتها أننا عندما نقول «ثورة»، يعني التيار اليساري، ويعني أيضا تشي جيفارا، أو الثورة العربية، انذاك كانت كلمة الثورة محصورة في خيارين، إما التوجه اليساري أو التوجه القومي، الذي فقد شعبيته بعد 1967، و فقد أتباعه من الإسلاميين والقوميين ولم يبق بعدها غير الناصريين الذين كانوا قلة.
وأنا أرى أن ما قام به عبد الناصر انقلاب، وكذلك القذافي لم يكن ما قام به ثورة بل انقلاب في 1969. وايضا ما وقع في اليمن أو في سوريا، وكذلك كل الأحداث في تلك الفترة تركت رجة كبيرة في الصف القومي العروبي البعثي، خاصة بعد ذهاب عبد الناصر وتغيير التوجه مع أنور السادات الذي صار أقرب إلى أميركا.
ولولا خيبة 1967 لكنت شخصا آخر في نفسي، وفي الحركة، وحتى في راشد الغنوشي، هذه الخيبة كانت صدمة، وكانت منعرجا في توجهات كثير من الشباب العربي، وأغلبهم توجهوا بعدها إلى الفكر الإسلامي.
ان البحث عن بديل هو ما يفسر الخريطة الشبابية أو الآيديولوجية في تونس، حيث صار الحزب الحاكم محنطا.
أعتقد أننا أخطأنا في بداية عملنا بتركيزنا على مجال فقه التنزيل، ولم نبدأ منذ بداية العمل على إبراز أن الإسلام أداة تطور وعلم، وأنه قابل لأن يحتل القيادة. ورغم ذلك كانت مواجهة النظام لنا عنيفة جدا عبر أجهزة الشرطة التي كانت تعتمد أساليب القمع، ولم يبذل الحكم البورقيبي أي مجهود ليقدم البديل الذي يتطلع إليه الشباب وقتها، بل اعتمد شعارات مثل «فرحة الحياة» و«الأمة التونسية» و«حرية المرأة»، أيضا واجهنا اليساريون مبررين مواقفهم بواقع المسلمين المنحط.
في ظل كل هذه الظروف أتت الثورة الإيرانية لتلبي حاجات في نفوسنا، ولتصدق الرؤية التي كنا نطمح إليها وهي أن الإسلام يمكن أن يحكم، و يقضي على الظلم والتبعية والفساد، وكنا نرى في الثورة الإيرانية أنها قامت ضد الفساد، ضد الطاغية، وبصرف النظر عن أننا تونسيون، فقد نظرنا إليها بعيدا عن المذهب الشيعي، الذي كان «الإخوان» في مصر وفي المجتمعات الشرقية يأخذونه بعين الاعتبار.
وهذا ما جعل إخواننا في الخليج يستغربون، لقد استغربوا أننا كنا نؤيد الثورة الإيرانية، لأنهم «مكويون» بنارها التي شهدوها عبر حرب العراق، لكن بالنسبة لنا لم نعدها ثورة شيعة، بل ثورة إسلامية، لأننا لم نحتك بهذه المشاكل من قبل، فلم نكن نفهم من هم الزيدية والإمامية أو غيرها.. لكن ما أخذناه هو البعد التصوري السياسي، ولم ننظر للبعد المذهبي، فقط رأينا أنها ثورة على أميركا من ناحية، وعلى الرجعية، وبهذا لبت حاجة في نفس الشباب، ونظرنا للمعسكر الشيوعي على أنهم لهم ثورة كوبا، ونحن وجدنا في الثورة الإيرانية ثورتنا.
ومن هنا ابتدأت المصطلحات الخاصة بالحركة الإسلامية التونسية، مثل «الكادحين» و«المظلومين» و«الطغاة» وغيرها، وهي مصطلحات فكرية سياسية إلى درجة أن «الإخوان» في نمطهم التقليدي لم يستعملوها، وكنا نحن الحركة الوحيدة التي تبنت هذه الشعارات، وتحركنا بها، ومن هنا أيضا كانت بداية المسيرات في صفوف التلاميذ والطلبة، ودور هذا الجيل الطلابي في الحركة.
بدأنا نفكر بعد مدة من الانتشار في المساجد، خاصة في الأحياء، في النشاط في صفوف الكشافة وفي النقابات، وأصبحت الحركة الإسلامية تدافع عن العمال، وهنا بدأ اليسار يفقد شعبيته وتوازنه.
ذروة قوتنا كانت في 1979، والزواتنة (جماعة وعلماء مسجد الزيتونة) وقتها مجموعة كبيرة منهم كانوا موالين لبورقيبة، وهذا ما جعل بورقيبة يحار حتى في تسميتنا؛ فمرة يصفنا بـ«الخمينيين»، وأخرى «خوانجية»، أي تابعين لـ«الإخوان»، ومتطرفين».

* صالح بن يوسف.. أول اغتيال سياسي لزعيم معارض في عهد بورقيبة
* كان الزعيم الوطني صالح بن يوسف منذ مرحلة ما بين الحربين العالميتين أبرز قادة الحركة الوطنية التونسي. ولئن كان بورقيبة يسمى في الصحافة الوطنية {المجاهد الأكبر} فإن بن يوسف كان يوصف بـ{ الزعيم الكبير}.
وخلال الأربعينات والخمسينات كان بورقيبة - رئيس الحزب الدستوري - غالبا في المنفى أو في السجن وكان صالح بن يوسف الأمين العام للحزب والقائد الفعلي للحركة الوطنية. لكن منذ هزيمة فرنسا عام 1954 في فيتنام واتخاذها قرارا بالخروج من بعض المستعمرات من بينها تونس برزت خلافات حادة بين بورقيبة ومنافسه الكبير بن يوسف بسبب انحياز باريس لبورقيبة وإعلان بن يوسف وأنصاره في القيادة معارضتهم الشديدة لمشروع وافق عليه بورقيبة بتوقيع اتفاق تونسي فرنسي في يونيو (حزيران) 1955 ينص على منح تونس {حكما ذاتيا محدودا» مع الإبقاء لفرنسا بنفوذ كبير على السياسة الخارجية وعلى مؤسستي الأمن والجيش..
هاجر بن يوسف إلى القاهرة وتحالف مع جمال عبد الناصر وزعامات الحركة الوطنية الجزائرية ضد بورقيبة فيما دخل أنصاره في مواجهات مع بورقيبة والموالين له. إلا أن المعركة حسمت لصالح بورقيبة وحكومته التي اعتقلت آلاف {المعارضين اليوسفيين» وأعدمت عشرات منهم وأحالت مئات على محاكم استثنائية.
ظل بن يوسف يواجه بورقيبة عن بعد عبر إذاعات مصرية فيما كان خفت صوت أنصاره. وجرت محاولة للصلح بينه وبين رفيقه بورقيبة خلال لقاء جمعهما في سويسرا عام 1961 لكن اللقاء فشل وأسفر عن تبادل للاتهامات والشتائم.
في أغسطس (آب) من نفس العام أرسل بورقيبة صديقه البشير زرق العيون - وكان من أفراد عائلة صالح بن يوسف - إلى ألمانيا ومعه شخصيتان قامتا باغتيال {الزعيم الكبير} بكاتم صوت في غرفة بأحد الفنادق بعد {كمين} نصب له بدعوى أن خاله {البشير زرق العيون» جاءه محملا باقتراح جديد من بورقيبة للمصالحة والالتقاء مجددا.
تثبت خطب المحامي صالح بن يوسف - المتخرج مثل بورقيبة في جامعة السوربون - أنه كان ليبيراليا وعلمانيا مثله ومثل غالبية قادة الحزب الدستوري على الرغم من أصولهما المختلفة: بن يوسف من مواليد جزيرة جربة بالجنوب التونسي ومن عائلة غنية وبورقيبة من عائلة فقيرة من مدينة المنستير الساحلية شمالا. لكن منذ اندلاع الخلاف بينهما انحاز بن يوسف إلى جمال عبد الناصر وزعامات التيارين القومي العربي والإسلامي في تونس وأصبح يتهم بورقيبة بالولاء لفرنسا والخيانة والكفر ومعاداة القومية.
لكن اغتيال بن يوسف أنهى الجدل داخل تونس حول الموقف من القومية والعروبة والإسلام خاصة أن جمال عبد الناصر نفسه تصالح مع بورقيبة بعد دخوله في صراع مع فرنسا عام 1961 وتنظيمه لمعركة ضد قواتها شمالي البلاد لإجبارها على إجلاء ما تبقى من جنودها فيها وهو ما تحقق فعلا في أكتوبر (تشرين الأول) 1963.
كانت حادثة اغتيال صالح بن يوسف أول حادثة اغتيال لزعيم سياسي في عهد بورقيبة. لذلك بقي صالح بن يوسف رمزا لكل معارضي بورقيبة لاحقا وظلت خطبه المعارضة لبورقيبة في جامع الزيتونة وفي ساحات تونس - قبل فراره نحو ليبيا ثم مصر - مرجعا لكثير منهم لا سيما بسبب تبنيها شعارات {راديكالية» معارضة {للاستعمار الجديد} وأخرى عروبية إسلامية.

الجبالي في مذكراته لـ «الشرق الأوسط»: كنت شاباً مسيساً بدون توجه إسلامي

 



«قوة استقرار غزة»... اجتماع مرتقب بالدوحة لسد الفجوات

أحد عناصر «حماس» يحرس منطقة يبحثون فيها عن جثث الرهائن بمساعدة اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر» في غزة (أ.ف.ب)
أحد عناصر «حماس» يحرس منطقة يبحثون فيها عن جثث الرهائن بمساعدة اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر» في غزة (أ.ف.ب)
TT

«قوة استقرار غزة»... اجتماع مرتقب بالدوحة لسد الفجوات

أحد عناصر «حماس» يحرس منطقة يبحثون فيها عن جثث الرهائن بمساعدة اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر» في غزة (أ.ف.ب)
أحد عناصر «حماس» يحرس منطقة يبحثون فيها عن جثث الرهائن بمساعدة اللجنة الدولية لـ«الصليب الأحمر» في غزة (أ.ف.ب)

تستضيف العاصمة القطرية، الدوحة، اجتماعاً عسكرياً، الثلاثاء، لبحث «تشكيل قوة الاستقرار» في قطاع غزة التي تنص عليها خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب للسلام، التي دخلت حيز التنفيذ 10 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، ولاقت دعماً من مجلس الأمن في نوفمبر (تشرين الثاني) الفائت.

ذلك الاجتماع المرتقب يأتي وسط ضبابية بشأن مستقبل تلك القوات وتعثر الانتقال للمرحلة الثانية، ويراه خبراء تحدثوا لـ«الشرق الأوسط» محاولة لسد فجوات، منها مهام تعترض عليها فصائل فلسطينية مرتبطة بالوجود داخل القطاع أو نزع السلاح، بخلاف وجود «فيتو إسرائيلي» على مشاركة دول بينها تركيا، وسط تباين بشأن قدرة الاجتماع على تقديم حلول ناجزة، في ظل عدم اتفاق سياسي على الانتقال للمرحلة الثانية، وترقب نتائج لقاء ترمب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أواخر هذا الشهر.

وتوقع مسؤولون أميركيون نشر هذه القوات مطلع العام المقبل، بعد بحث التفاصيل خلال اجتماع للقيادة المركزية الأميركية، بمشاركة عدد من الدول، في العاصمة القطرية، الدوحة، الثلاثاء، وفق ما أوردت وكالة «رويترز».

وقال مسؤولان أميركيان للوكالة، أخيراً، إنه من المتوقع أن ترسل أكثر من 25 دولة ممثلين عنها للمشاركة في الاجتماع الذي «سيتضمن جلسات لمناقشة هيكل القيادة، وقضايا أخرى متعلقة بقوة الاستقرار في غزة»، لافتين إلى أن «قوة الاستقرار الدولية لن تقاتل حركة (حماس)، وأن دولاً كثيرة أبدت رغبتها في المساهمة فيها».

ونقل موقع «أكسيوس»، الجمعة، أن مندوب الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، مايك والتز، الذي زار إسرائيل أخيراً، أبلغ نتنياهو ومسؤولين آخرين بأن إدارة ترمب ستتولى قيادة ما تُعرف باسم «قوة الاستقرار الدولية» وستعين جنرالاً قائداً لها.

ويعطي قرار تبناه مجلس الأمن الدولي في 17 نوفمبر الماضي تفويضاً «لمجلس سلام» في غزة والدول التي تتعاون معه، من أجل تأسيس «قوة استقرار دولية» مؤقتة في القطاع.

وسبق أن تحدثت القناة الـ«14» الإسرائيلية أواخر نوفمبر الماضي، بأن الولايات المتحدة الأميركية حددت منتصف يناير (كانون الثاني) المقبل، موعداً لبدء انتشار «قوة الاستقرار الدولية» في غزة، ونهاية أبريل (نيسان) المقبل موعداً نهائياً لإتمام عملية نزع السلاح من القطاع، مشيرة إلى أن ذلك طموح منفصل عن الواقع، في إشارة لإمكانية تأجيله مجدداً.

صبيَّان يحتميان من المطر وهما جالسان على عربة يجرُّها حمار في دير البلح وسط قطاع غزة (أ.ف.ب)

رئيس «المؤسسة العربية للتنمية والدراسات الاستراتيجية»، العميد سمير راغب، يرى أن اجتماع الدوحة سيركز على «سد الفجوات» مثل عدم تعيين قائد للقوة، رغم أن التسريبات تشير إلى أنه أميركي، فلا مهام محددة بشأن القوة حتى الآن، كما أنه لم يتم تشكيل «مجلس السلام» الذي صدر له التفويض الأممي بتشكيل القوة، بجانب وجود «فيتو إسرائيلي» على مشاركة تركيا، وهذا يعرقل مسار تحديد الدول، بخلاف عدم حسم قضايا سياسية مرتبطة بنزع السلاح.

وأشار إلى أن حديث انتشار القوات بداية العام يكون صحيحاً إذا كنا قد عرفنا الآن مهام وتسليح القوات، وباتت تتجمع هذه الأيام، وبالتالي نحن بصدد ترتيبات ستأخذ ربما شهرين لتحقيق انتشار لو حُسمت الملفات السياسية.

ويعتقد المحلل السياسي الفلسطيني، نزار نزال، أن اجتماع الدوحة بشأن تلك القوات يناقش سد الفجوات «لكنه يشكل إطاراً عاماً للتعايش معها، وليس لحلها»، موضحاً أن الفجوات تتعلق بكيفية الانتشار ومهام القوات، وهل ستنزع سلاح «حماس» وتبدأ الانسحابات. ونبه إلى أن هذا الاجتماع قد يحسم التشكيل والتمويل، و«لا يعني مشاركة 25 دولة فيه أن هناك موافقة على الانخراط في القوة؛ لكن ستتم مناقشة الخطوط الأولية».

منظر عام لمخيَّم للنازحين الفلسطينيين في الجامعة الإسلامية بغزة (أ.ف.ب)

وعلى هامش مشاركته في «منتدى صير بني ياس» بالإمارات، أكد وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، السبت: «ضرورة الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق غزة، وأهمية تشكيل قوة الاستقرار الدولية»، وذلك خلال لقاء المدير العام لـ«أكاديمية أنور قرقاش الدبلوماسية»، والمنسق الأممي الخاص السابق لعملية السلام في الشرق الأوسط، نيكولاي ملادينوف، وفق بيان لـ«الخارجية المصرية».

وهذا التأكيد ليس الأول من نوعه من جانب مصر؛ حيث أعلنته أكثر من مرة أخيراً.

وردت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، على الصحافيين أخيراً بشأن تطورات اتفاق غزة، قائلة إن «هناك كثيراً من التخطيط الهادئ الذي يجري خلف الكواليس في الوقت الحالي للمرحلة الثانية من اتفاق السلام... نريد ضمان سلام دائم ومستمر».

وأوضح راغب أن المرحلة الأولى لم تنتهِ بعد، وهناك أمور سياسية لم تُحَل، لافتاً إلى أن «قمة ترمب-نتنياهو» المقررة نهاية هذا الشهر ستكون فاصلة في المرحلة الثانية، وتشكيل القوات، ورفع «الفيتو»، وإنهاء الفجوات.

أما نزال فيرى أن المرحلة الثانية لم تنضج بعد، والهدوء الأميركي في المناقشات محاولة لتفادي الفشل من أي إعلان قد يُحدث ضجة عند أي طرف، في ظل ريبة فلسطينية مما يُعد في الكواليس، متوقعاً أن تزداد مساعي الوسطاء تجاه الانتقال للمرحلة الثانية بأقل تكلفة ومخاطرة، وهذا سيتضح عقب لقاء ترمب بنتنياهو.


حراك سياسي وعسكري مكثف لإنهاء التوترات في شرق اليمن

جنود موالون للمجلس الانتقالي الجنوبي يحرسون مدخل القصر الرئاسي في عدن (رويترز)
جنود موالون للمجلس الانتقالي الجنوبي يحرسون مدخل القصر الرئاسي في عدن (رويترز)
TT

حراك سياسي وعسكري مكثف لإنهاء التوترات في شرق اليمن

جنود موالون للمجلس الانتقالي الجنوبي يحرسون مدخل القصر الرئاسي في عدن (رويترز)
جنود موالون للمجلس الانتقالي الجنوبي يحرسون مدخل القصر الرئاسي في عدن (رويترز)

يترقَّب الشارع اليمني أن تُكلَّل الجهود التي تقودها السعودية، بشراكة مع الإمارات، بنزع فتيل التوتر وإنهاء التصعيد في حضرموت والمهرة على خلفية التحركات الأحادية الميدانية التي قام بها المجلس الانتقالي الجنوبي في الأيام الماضية، التي أدت إلى إرباك معسكر الشرعية اليمنية، وسط مخاوف من أن يقود ذلك إلى تبعات اقتصادية وإنسانية وأمنية في ظل تربص الجماعة الحوثية بالمناطق المُحرَّرة.

جاء ذلك غداة حراك سياسي وعسكري مكثَّف في إطار الجهود السعودية - الإماراتية الرامية إلى احتواء التوتر في المحافظات الشرقية، وذلك مع وصول فريق عسكري مشترك إلى عدن، وعقد لقاءات رسمية مع قيادات المجلس الانتقالي الجنوبي، بالتوازي مع لقاءات في حضرموت مع قيادات محلية وقبلية، في مسعى لإعادة تطبيع الأوضاع ومنع انزلاقها إلى مزيد من التصعيد.

وجاءت هذه التحركات في وقت تشهد فيه محافظتا حضرموت والمهرة توتراً متزايداً على خلفية تحركات ميدانية للمجلس الانتقالي الجنوبي، وما أعقبها من مواجهات وأحداث أمنية، دفعت «تحالف دعم الشرعية» إلى تكثيف مساعيه السياسية والعسكرية لفرض التهدئة، والحفاظ على وحدة مؤسسات الدولة في المناطق المُحرَّرة.

الزبيدي استقبل في عدن وفداً عسكرياً سعودياً إماراتياً مشتركاً (سبأ)

في هذا السياق، استقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اللواء عيدروس قاسم الزُبيدي، وهو رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، في القصر الرئاسي بعدن، قيادة القوات المشتركة لـ«تحالف دعم الشرعية»، يتقدمهم اللواء الركن سلطان العنزي، واللواء الركن عوض الأحبابي، بحضور عضو مجلس القيادة عبد الرحمن المحرمي، ورئيس هيئة التشاور والمصالحة محمد الغيثي، ورئيس اللجنة العسكرية والأمنية المشتركة العليا اللواء هيثم قاسم طاهر.

ووفق مصادر رسمية، ناقش اللقاء سبل توحيد الجهود لمواجهة التحديات التي تهدِّد أمن اليمن والمنطقة، وفي مقدمتها الإرهاب، وتهريب الأسلحة، والتهديدات التي تمس المصالح الدولية وحرية الملاحة، إلى جانب آليات تعزيز التنسيق العسكري والأمني بين القوات اليمنية والتحالف.

وأشاد الزُبيدي بالدور الذي تضطلع به دول التحالف بقيادة السعودية والإمارات، مؤكداً أهمية الشراكة القائمة في دعم القوات اليمنية، بينما أكدت قيادة القوات المشتركة دعمها المستمر للقوات المسلحة اليمنية في مواجهة الميليشيات الحوثية، ومكافحة الإرهاب، وتعزيز الاستقرار في المرحلتين الحالية والمستقبلية.

بيان رئاسي

بالتوازي مع هذه التحركات، جدَّد مصدر مسؤول في مكتب الرئاسة اليمني الإشادة بجهود السعودية لخفض التصعيد وإعادة تطبيع الأوضاع في المحافظات الشرقية، وذلك بعد وصول الفريق العسكري السعودي - الإماراتي إلى عدن.

وأوضح المصدر أن الزيارة تأتي ضمن جهود الرياض وأبوظبي لتعزيز وحدة مجلس القيادة الرئاسي والحكومة، ومعالجة تداعيات الإجراءات الأحادية الأخيرة، بما يضمن عودة الأوضاع إلى مسارها الطبيعي، وتمكين السلطات المحلية والحكومة من أداء مهامها وفقاً للدستور والقانون.

وأشار البيان إلى أن المشاورات الجارية تتناول معالجة مسألة القوات المُستقدَمة من خارج المحافظات الشرقية، وسبل مغادرتها، إضافة إلى تمكين مؤسسات الدولة من ممارسة صلاحياتها الحصرية، واحترام المرجعيات الحاكمة للمرحلة الانتقالية، وفي مقدمتها إعلان نقل السلطة واتفاق الرياض.

مناصرون للمجلس الانتقالي الجنوبي خلال حشد في عدن (أ.ف.ب)

وحذَّر المصدر من أن أي تصعيد إضافي من شأنه تبديد المكاسب المُحقَّقة، وصرف الانتباه بعيداً عن المعركة ضد جماعة الحوثي، وتقويض جهود الإصلاحات الاقتصادية، ومفاقمة الأزمة الإنسانية في البلاد، مؤكداً حرص قيادة الدولة على تغليب الحلول السياسية، ودعم الجهود السعودية - الإماراتية، والعمل الوثيق مع الشركاء الإقليميين والدوليين.

آليات مرتقبة للحل

أفادت مصادر مطلعة بأن الفريق العسكري السعودي - الإماراتي يبحث وضع آليات تنفيذية لخروج القوات التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي من محافظتَي حضرموت والمهرة، وإعادتها إلى مواقعها السابقة، إلى جانب ترتيبات لتسليم بعض المواقع لقوات «درع الوطن»، في إطار إجراءات منسقة تهدف إلى إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل التصعيد.

كما عقد الوفد السعودي، برئاسة اللواء الدكتور محمد القحطاني، لقاءً موسعاً في حضرموت مع قيادة السلطة المحلية برئاسة المحافظ سالم الخنبشي، وقيادات الكتلة البرلمانية ومجلس الشورى، ومرجعيات قبائل حضرموت، ومشايخ وأعيان الوادي والصحراء.

وأكد المحافظ الخنبشي أن زيارة الوفد السعودي تمثل دعامةً لأواصر الأخوة بين البلدين، مشيداً بمواقف المملكة الداعمة لحضرموت في هذه الظروف، بينما شدَّد رئيس الوفد السعودي على أن اللقاءات تأتي في إطار فرض التهدئة، ورفض أي تشكيلات عسكرية خارج نطاق الدولة، والحفاظ على أمن واستقرار المحافظة.

رئيس الوفد السعودي في حضرموت اللواء محمد القحطاني يلتقي قيادات قبلية ومحلية (سبأ)

وأشادت القيادات البرلمانية والقبلية بالموقف السعودي، عادّةً أن هذه التحركات تمثل تطميناً للمواطنين، وتؤكد الحرص على معالجة تداعيات دخول قوات من خارج المحافظة، والحفاظ على النسيج الاجتماعي.

في المقابل، نعت رئاسة هيئة الأركان العامة اليمنية عدداً من منتسبي المنطقة العسكرية الأولى، الذين سقطوا خلال مواجهات وصفتها بأنها اعتداءات نفَّذتها مجاميع تابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي، مشيرةً إلى سقوط 32 قتيلاً و45 جريحاً، إضافة إلى مفقودين، ومؤكدة التزام القوات المسلحة بواجباتها تحت قيادة الدولة ووفقاً للدستور والقانون.

وفي موقف سياسي لافت دعا أحمد علي عبد الله صالح، وهو النجل الأكبر للرئيس اليمني الأسبق، جميع الأطراف اليمنية، إلى وقف التصعيد وضبط النفس، والعودة إلى الحوار، محذِّراً من أن استمرار التوتر في المحافظات الشرقية لا يخدم استقرار البلاد، ولا جهود توحيد الصف في مواجهة الحوثيين والتنظيمات الإرهابية.


في زمن الحرب... «الدان الحضرمي» على قائمة التراث الإنساني اللامادي

الدان الحضرمي على قائمة التراث العالمي اللامادي بعد سنوات من العمل المؤسسي (إكس)
الدان الحضرمي على قائمة التراث العالمي اللامادي بعد سنوات من العمل المؤسسي (إكس)
TT

في زمن الحرب... «الدان الحضرمي» على قائمة التراث الإنساني اللامادي

الدان الحضرمي على قائمة التراث العالمي اللامادي بعد سنوات من العمل المؤسسي (إكس)
الدان الحضرمي على قائمة التراث العالمي اللامادي بعد سنوات من العمل المؤسسي (إكس)

في إنجاز ثقافي يُعد من أبرز المكاسب الرمزية لليمن في السنوات الأخيرة، أدرجت لجنة التراث الثقافي غير المادي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، في دورتها العشرين المنعقدة في العاصمة الهندية نيودلهي، ملف «جلسة الدان الحضرمي» ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية، بعد جهود استمرت سنواتٍ من العمل المؤسسي والفني المتواصل.

ويُعد هذا الإدراج اعترافاً دولياً مستحقاً بأحد أهم الفنون التقليدية في محافظة حضرموت، شرق اليمن، لما يحمله «الدان الحضرمي» من قيمة تاريخية وثقافية وجمالية، بوصفه فناً يجمع بين الشعر والموسيقى والغناء، ويعكس في طقوسه ومضامينه أنماط العيش والعلاقات الاجتماعية والذاكرة الجمعية للحضارم عبر قرون طويلة.

وثمّن مندوب اليمن الدائم لدى اليونسكو، محمد جميح، قرار اللجنة، مشيراً إلى أن «(الدان الحضرمي) يستحق عن جدارة هذا الإدراج»، مؤكداً أن الوصول إلى هذه النتيجة جاء ثمرةً لعمل دؤوب استمر لسنوات، منذ أن كانت الفكرة مشروعاً ثقافياً، وصولاً إلى اعتمادها اليوم تراثاً إنسانياً عالمياً.

محمد جميح مندوب اليمن لدى اليونسكو (سبأ)

وعبّر جميح عن شكره لوزارة الثقافة وطاقمها، واللجنة الوطنية لليونسكو، ومؤسسة حضرموت للثقافة التي تولت إعداد وتمويل ملف الترشيح، إضافة إلى لجنة التراث الثقافي غير المادي وخبراء التقييم وسكرتارية اللجنة، ورئيسها السفير الهندي لدى اليونسكو فيشال شارما.

وتسلمت الجمهورية اليمنية شهادة إدراج الملف رسمياً من المدير العام المساعد لليونسكو لقطاع الثقافة، أرنستو راميريز، في مقر انعقاد اللجنة بنيودلهي، في لحظة عكست حضور اليمن الثقافي رغم ظروف الحرب والتحديات السياسية والإنسانية.

إشادة حكومية

أكد معمر الإرياني، وزير الإعلام والثقافة والسياحة في الحكومة اليمنية، أن هذا الإنجاز يمثل «اعترافاً دولياً مستحقاً بأحد أهم التجليات الإبداعية في حضرموت واليمن عموماً»، معتبراً أن «الدان الحضرمي» يجسد عمق الهوية الثقافية اليمنية التي حافظت عليها الأجيال المتعاقبة، رغم التحولات القاسية التي شهدها البلد.

وأشار الإرياني إلى أن هذا الاعتراف العالمي يعكس تقديراً للفن الحضرمي الأصيل الذي يختزن في تفاصيله الذاكرة الجمعية وروح المكان، وهو ثمرة جهد وطني مشترك شاركت فيه وزارة الثقافة ومؤسسة حضرموت للثقافة، إلى جانب الدور البارز الذي اضطلع به السفير محمد جميح في متابعة الملف داخل أروقة اليونسكو.

ويمثل «الدان الحضرمي» أكثر من مجرد لون غنائي تقليدي؛ فهو ممارسة ثقافية متكاملة ترتبط بالمجتمع والبيئة والتاريخ، وتُؤدى في جلسات جماعية تتناوب فيها الأصوات على إلقاء الشعر وإنشاد الألحان، في تعبير حي عن التفاعل الاجتماعي والوجدان الجمعي.

وأكدت مؤسسة حضرموت للثقافة أن إدراج هذا الفن في القائمة التمثيلية لليونسكو يعكس قيمته في حفظ الذاكرة الثقافية للحضارم، ويؤكد دوره في نقل التراث الشفهي من جيل إلى آخر.

وأوضحت المؤسسة أنها عملت على إعداد ملف الترشيح بالتعاون مع مجموعات من الممارسين لهذا الفن، وبشراكة فاعلة مع وزارة الإعلام والثقافة والسياحة في الحكومة اليمنية، وبدعم فني من مكتب اليونسكو الإقليمي لدول الخليج واليمن، الذي كان له دور محوري في إبراز تميز الملف واستيفائه للمعايير الدولية.

بعد تاريخي

أشار وزير الثقافة اليمني السابق ومستشار رئيس مجلس القيادة الرئاسي للشؤون الثقافية، مروان دماج، إلى البعد التاريخي العميق لـ«الدان الحضرمي»، معتبراً أن هذا الفن العتيق الممتد من جذور التاريخ أصبح اليوم جزءاً من الذاكرة الإنسانية جمعاء.

وذهب دماج إلى أن العرب عرفوا الغناء «داناً» منذ أكثر من ألفي عام، وأن الدان يمكن اعتباره من أقدم أشكال الأغنية العربية، مستحضراً ارتباطه بالشعر العربي القديم وأسواقه التاريخية في وادي حضرموت.

وتتجاوز أهمية إدراج «الدان الحضرمي» البعد الثقافي البحت، لتأخذ دلالات وطنية وإنسانية أوسع، في ظل ما يتعرض له التراث اليمني من مخاطر الطمس والتشويه بسبب الحرب والانقسام والإهمال. ويؤكد هذا الإنجاز أن اليمن رغم الدمار والمعاناة لا يزال حاضراً في خريطة الثقافة العالمية، بقيمه الإبداعية وإسهاماته الحضارية.

كما يمثل الإدراج خطوةً مهمةً في مسار صون التراث غير المادي، ويوفر مظلة حماية دولية لهذا الفن، ويعزز فرص توثيقه ونقله للأجيال المقبلة، باعتباره جزءاً أصيلاً من الهوية اليمنية وقوة ناعمة يمكن أن تسهم في تحسين صورة اليمن وتعزيز حضوره عربياً ودولياً.

وفي المحصلة، يشكل الاعتراف الأممي بـ«جلسة الدان الحضرمي» رسالةً واضحةً بأن الثقافة قادرة على تجاوز الحروب، وأن الذاكرة الإنسانية أوسع من حدود الصراعات، لتحتفي بالفنون التي تعبر عن روح الشعوب وعمق تاريخها، كما هي حال حضرموت في شرق اليمن.