... ويسعى لترتيب صفوفه إعلامياً

الجهود الدولية والإقليمية أدت إلى تحجيم عمليات التنظيم وتراجعها

«داعش» يسعى لترتيب صفوفه إعلامياً
«داعش» يسعى لترتيب صفوفه إعلامياً
TT

... ويسعى لترتيب صفوفه إعلامياً

«داعش» يسعى لترتيب صفوفه إعلامياً
«داعش» يسعى لترتيب صفوفه إعلامياً

هل تراجع تنظيم «داعش» بالفعل تراجعاً استراتيجياً على كل الجبهات في الأشهر الماضية أم أنه تراجع تكتيكي لن يلبث أن يستأنفه عما قريب بأدوات وآليات مغايرة، ربما أكثر فتكاً مما جرت به محاولاته في الأعوام الماضية؟
الشاهد أننا أمام عدة قراءات بعضها صدر حديثاً، بينما بعضها الآخر يتضمن رؤى تحليلية عميقة تربط بين الأهداف الرئيسة لـ«داعش»، وبين الأدوات التي تفعلها على الأرض.
في نهاية شهر رمضان الماضي، كان مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية يُصدر تقريراً جديداً يكشف فيه عن حجم خسائر تنظيم داعش ومستويات تراجعه في رمضان 2018 مقارنةً بشهر رمضان من العام الماضي.
اعتاد الدواعش تكثيف عملياتهم الإرهابية في شهر رمضان، واتخذوا من الشهر الفضيل توقيتاً لإعلان خلافتهم المزعومة في 2014، وحرص التنظيم إعلامياً على التعبئة لتنفيذ عملياته خلال الشهر المبارك وإلقاء خطب خاصة به... ما الذي جرى مؤخراً؟
من الواضح أن الجهود الدولية والإقليمية ونجاح الجيوش الوطنية أدت إلى تحجيم عمليات التنظيم وتراجعها في الشرق الأوسط، فإعلامياً لم تُصدر قيادة «داعش» خطاباً مخصصاً لرمضان الأخير مقارنةً بالعام السابق، كذلك انخفض حجم الإصدارات والإنتاج الإعلامي للتنظيم، ففي رمضان 2017 كان التنظيم قد استهدف عدة مناطق على رأسها «إنجلترا، والعراق، وسوريا، وإسرائيل، ومصر، وأفغانستان، والفلبين، وإندونيسيا، والجزائر، والصومال، وإيران، وتونس، واليمن، وأستراليا»، بينما في رمضان 2018 وضع «داعش» نصب عينيه خريطة أخرى شملت (بلجيكا، وفرنسا، وروسيا، وكشمير، وباكستان، والعراق، وسوريا، واليمن، وليبيا، ونيجيريا، والصومال، وإندونيسيا، وتونس، ومصر، والفلبين).
ونجحت الجهود الدولية والإقليمية في كبح جماح تمدد «داعش» واستعادة الأراضي التي سيطر عليها منذ عام 2014، وكذلك نجحت الجهود عينها في وقف مصادر تمويله وتسليحه مع إفقاره العديد من الموارد البشرية والإعلامية في عدة مناطق حول العالم.
يعني ما تقدم أن «داعش» في العالم الواقعي قد تعرض بالفعل لصفعات قاسية، أفقدته الكثير جداً من توازناته الدعائية واللوجيستية، غير أن علامة الاستفهام وفي زمن العوالم الافتراضية هي: «هل يعني ذلك النهاية الحتمية لـ(داعش) أم أن للتنظيم رؤى ومسارب أخرى يعزز من خلالها وجوده الآيديولوجي، ويكتسب من خلالها المزيد من الأتباع والمؤيدين، بل الأخطر والأكثر هولاً، تنويع آليات الشر لديه، فمن عمليات الدهس، والهجمات الانتحارية، ربما يعمد إلى أسلحة الدمار الشامل، وإن كانت في صورها الأولى، سيما أنه من اليسير الحصول عليها والتي يمكن لها أن تُحدث خسائر جسيمة، ضمن خريطة أهدافها.
أدرك القائمون على «داعش» أن تصدير الفكرة إعلامياً، يكاد يكون أفضل السبل المتاحة للحصول على المزيد من العناصر البشرية اللازمة لاستمرار طرح الخلافة، وإن خسر التنظيم عاصمتها في سوريا والعراق. من هنا بدا كأن التنظيم الذي ترنح إعلامياً يسعى من جديد إلى استعادة نشاطه، وغير خافٍ على أحد، أنه حال نجاحه في بلورة منظومة إعلامية جيدة في العالم الافتراضي، فإن ذلك يعني ومن دون أي شك تقوية البنية الهيكلية لـ«داعش» في المستقبل، وإحراز نقاط نجاح على سلبيتها حول العالم.
علاقة «داعش» بالإعلام بدورها رصدتها ورقة بحثية صدرت أواخر يونيو (حزيران) الماضي عن «مرصد الأزهر لمكافحة التطرف»، وجاءت في جزأين.
التقرير يشير إلى أن «داعش» منذ ظهوره في عام 2014، وإعلانه دولة الخلافة المزعومة، نجح من خلال استراتيجية إعلامية مدروسة في الترويج لأفكاره، واستقطاب الآلاف من المقاتلين، معتمداً في هذا على إنتاج مقاطع فيديو عالية الجودة، ومواكِبة لأحدث التقنيات الإعلامية العالمية، إضافة إلى طباعته لعدد من المجلات، وبخاصة في اختراق مواقع التواصل الاجتماعي، واتخاذها نافذة للوصول إلى أكبر عدد ممكن من مستخدمي هذه المواقع.
يثير تقرير «مرصد الأزهر لمكافحة الإرهاب» علامة استفهام مثيرة بدورها: «هل ما زالت الآلة الإعلامية الداعشية قادرة على التأثير مثلما كانت تفعل قبل سقوط التنظيم وفقدانه 98% من الأراضي التي كان عليها في سوريا والعراق؟».
ويخلص التقرير إلى أن الإجابة بالتأكيد لا، فقد ترنحت الشبكة الإعلامية الداعشية وطرأ على المحتوى الذي تنشره عدداً من المتغيرات، والمؤشرات التالية تؤكد صحة ما ذهب إليه القائمون على هذا العمل الفكري المتميز، منها انخفاض كبير في حجم المحتوى الداعشي المنشور، إضافة إلى رداءة جودته، خصوصاً جودة الفيديوهات والصور، وكذلك تأخُّر التنظيم في إصدار البيانات التي يتبنى فيها مسؤوليته عن الهجمات التي ينفّذها، مع المبالغة في الأسلوب وعدم الدقة في عرض المعلومة، مثلما كان يحدث في الماضي بالإضافة إلى سقطات في الترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية.
لم تكن الانكسارات التي تعرض لها الدواعش خلال العام الماضي فقط عسكرية، بل إعلامية بشكل قاطع، سيما في ضوء استهداف المصادر الاقتصادية للتنظيم، وقد كانت في المقدمة منها المنتجات النفطية التي كانت تدرّ عليهم ملايين الدولارات، إضافة إلى تهريب الآثار، والاتجار في الأسلحة، فيما قال البعض الآخر بالمخدرات كذلك.
نجحت المكافحة الإلكترونية التي شنتها إدارات مواقع التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«يوتيوب»، إضافة إلى هجمات القرصنة الإلكترونية لمواقع «داعش»، والتي أدت إلى انخفاض استخدام التنظيم بشكل كبير لمواقع التواصل الاجتماعي، مما ساعد بشكل فعال في ترنح الآلة الإعلامية للتنظيم، ففي أوائل عام 2016 أعلنت شركة «تويتر» عن تعليق 125 ألف حساب، معظمها تابع لـ«داعش»، وذلك خلال حملة شنتها الشركة بداية من النصف الثاني من عام 2015.
جزئية أخرى توضح لنا أزمة التراجع الإعلامي الداعشي، وتتصل بالبشر، أي الدواعش من الإعلاميين، ذلك أن الذين نجوا من القتال قد عمدوا إلى الفرار، والتخفي عن طريق تغيير أماكن وجودهم، أو اللجوء إلى الاختباء في أماكن منعزلة تنعدم فيها وسائل الاتصال، وهو أمر يختلف عما كانوا يتمتعون به سابقاً، عندما كانت تتوفر لديهم وسائل ووسائط عمل دائمة من أجهزة ومعدات حديثة، بالإضافة إلى مصورين يعملون في مناطق الأحداث، وبالتالي لم يكونوا يأخذون صوراً حية، كل هذا تسبب في ضعف البنية التحتية للترسانة الإعلامية.
لم يكن مرصد الأزهر فقط مَن رصد تدهور أحوال ومآلات «داعش» الإعلامية ففي تقرير آخر صدر عن المركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي في أواخر 2017 للكاتب «تشارلي وينتون» نجد إشارة إلى وضع «داعش» الإعلامي الضعيف، عبر انخفاض كمية ونوعية المنشورات التي يروّجها، فعلى سبيل المثال أنتج تنظيم داعش في سبتمبر (أيلول) 2017، ثُلث ما أنتجه في أغسطس (آب) 2015.... هل يمكننا القطع بأن «داعش» قد سلم أوراقه أم أنه يحاول استنهاض جهوده ما دامت بقيت فكرة تقسيم العالم تقسيماً ثنائياً هي المتحكمة في عقول أتباعه وأشياعه حول الكرة الأرضية؟
من الواضح أن «داعش» لم يلقِ بكل أوراق اللعب على المائدة، بل بدأ في تدابير مختلفة نرصد منها محطات، يسعى من خلفها للعودة مرة جديدة إلى أفق الإرهاب الدولي، إن جاز التعبير.
يمكن أن نستخلص من السطور السابقة أن «داعش» ربما سينحسر عن الأرض التقليدية التي تمسك بها من قبل في الشرق الأوسط والعالم العربي وخلال السنوات الأربع الماضية بنوع خاص، غير أنه يمضي الآن في اتجاه تدشين مرحلة إعلامية جديدة تعيد له الألق الذي كان قبل فترة من ناحية، ومن ناحية ثانية يبدو أن التنظيم يخطط للتواصل والتوسع الجغرافي والديموغرافي في بؤر أخرى غير التي هُزم فيها... ماذا عن هذه الجزئية الأخيرة بنوع خاص؟
في هذا الإطار تفتقت أذهان القائمين على التنظيم بدءاً من أبو بكر البغدادي الزعيم الزئبقي الذي يُقتل ويقوم إعلامياً ودعائياً في اليوم الواحد مرات عدة، عن خطة لإيجاد موطئ قدم في مناطق الاضطرابات والصراعات الأهلية، وعلى الرأس من تلك الأماكن المرشحة جغرافياً تأتي أفغانستان في قارة آسيا، ومحاوله عقد صفقات بعينها مع «طالبان».
أما عن القارة الأفريقية فهناك أكثر من موقع وموضع مرشح ذلك، ففي الصومال تعطي الفوضى والحرب الأهلية فرصة لـ«داعش» للمزيد من التوغل في العمق، واكتساب فصائل جديدة وإغرائها بالمال، عطفاً على أن الصومال موقع قريب بدرجة أو بأخرى من كينيا، وتشاد، وغيرها من الدول التي يعمل فيها تيار الشباب المتطرف من أتباع «بوكو حرام»، وهؤلاء قد بايعوا «داعش» من قبل، وجاءتهم الآن الفرصة التاريخية لتكون أراضيهم مستقَراً لقيادات من «داعش»، ولا توفر الخريطة كذلك نيجيريا التي تعاني بدورها من صراعات طائفية ومذهبية، تعد من قبل «داعش» بيئة نموذجية لإحياء وجودها اللوجيستي والآيديولوجي معاً.
الأمر نفسه يكاد ينطبق على باكستان في آسيا، ودائرة الصراعات هناك، وإن كانت باكستان معروفة من قبل بوجود تنظيمات أصولية سابقة فيها مثل «القاعدة» في تسعينات القرن الماضي.
من البؤر الجديدة التي يستهدفها «داعش»، مناطق آمنة ومستقرة يكثف هجماتها العشوائية فيها، بغية تهديد الأمن والسلم، من ناحية محاولة تجنيد عناصر جديدة له في تلك المناطق، وكذلك البحث عن جغرافية جديدة لنشاطه الإرهابي، وعلى رأس تلك الدول تأتي إندونيسيا التي شهدت قبيل رمضان الماضي بأيام معدودة أربع هجمات كبرى نفّذ بعضَها أفراد عائلات كاملة، في تطور لافت للاهتمام، كذلك شهدت روسيا ثلاث هجمات منها اثنتان في الشيشان، وذلك تزامناً مع اقتراب فاعليات كأس العالم 2018.
ماذا عن البعد البيولوجي لـ«داعش»؟
يبدو أن الخلايا غير العنقودية لـ«داعش» باتت تخطط لإحداث مفاعيل شر واسعة، فلم تعد تكتفي في أوروبا بنوع خاص بالعمليات الهجومية التقليدية، كمثل التي شهدتها بلجيكا مع بدايات شهير رمضان، وفرنسا قبل انطلاق الشهر الكريم.
يعمد «داعش» الآن إلى إدخال ما اصطلح الناطق باسم دائرة حماية الدستور الألمانية (مديرية الأمن العام) على تسميته «سيناريو الرعب» من خلال تعريض دول أوروبا لنوع قاتل على مدى واسع من الإرهاب، وهو النوع البيولوجي، القريب جداً من الكيماوي، والذي يُعرف أيضاً بأنه القنبلة النووية للفقراء.
كارثة «داعش» الحقيقية تمثلت في العقول الذكية علمياً، وربما الجافة روحياً وإيمانياً، والتي امتلكها التنظيم خلال الأعوام الماضية، ومنها عقول على درجة كبيرة من التحصيل العلمي والعملي، كيميائياً وبيولوجياً وربما نووياً لو سمحت الظروف.
من بين تلك العقول كان الشاب التونسي «سيف الدين» 29 عاماً، ويبدو أن عيون الاستخبارات الأميركية كانت تراقبه بقوة عبر وسائط التواصل، مخترقة هاتفه وحاسوبه ولهذا استطاعت «سي آي إيه» تحذير السلطات الألمانية، بعدما أقدم «سيف الدين» القائم في مدنية كولون الألمانية بشراء كميات كبيرة من بذور الخروع، التي تُستخدم في إنتاج غاز الريسين السام عبر الإنترنت، وطلبه أيضاً أجهزة ومعدات تُستخدم في صناعة القنابل.
كارثة تلك النوايا الداعشية أنها زهيدة التكاليف لكنّ شرها مستطير، فالريسين مادة سامة قد تسبب الوفاة لدى استنشاقها أو تناولها أو حقنها، وهي سهلة التحضير بعد استخلاصها من بذور الخروع وهناك طرق عديدة لنشرها.
هل يعني ذلك أن «داعش» أعلن الحرب البيولوحية على أوروبا وغداً ربما على أميركا وفي الشرق الأوسط؟
المؤكد أن هذا الاتجاه من الإرهاب قد سبق وحذّر منه تقرير منشور صدر عن مركز تنسيق مكافحة الإرهاب في الاتحاد الأوروبي، وتوقع لجوء الجماعات الإرهابية إلى الهجمات الكيماوية والبيولوجية خلال عام 2018 مرجعاً ذلك إلى سهوله نقل واستخلاص هذا النوع من الأسلحة غير التقليدية من مركبات كيميائية عادية، مقارنةً بهجمات القنابل والسيارات المفخخة. الإرهاب حرب عالمية، ومن دون إرادة دولية حقيقية للمواجهة سوف يضحى العالم على صفيح ساخن، ومن ثم يفتقد الأمن والأمان، من مشارق الشمس إلى مغاربها.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟