... ويسعى لترتيب صفوفه إعلامياً

الجهود الدولية والإقليمية أدت إلى تحجيم عمليات التنظيم وتراجعها

«داعش» يسعى لترتيب صفوفه إعلامياً
«داعش» يسعى لترتيب صفوفه إعلامياً
TT

... ويسعى لترتيب صفوفه إعلامياً

«داعش» يسعى لترتيب صفوفه إعلامياً
«داعش» يسعى لترتيب صفوفه إعلامياً

هل تراجع تنظيم «داعش» بالفعل تراجعاً استراتيجياً على كل الجبهات في الأشهر الماضية أم أنه تراجع تكتيكي لن يلبث أن يستأنفه عما قريب بأدوات وآليات مغايرة، ربما أكثر فتكاً مما جرت به محاولاته في الأعوام الماضية؟
الشاهد أننا أمام عدة قراءات بعضها صدر حديثاً، بينما بعضها الآخر يتضمن رؤى تحليلية عميقة تربط بين الأهداف الرئيسة لـ«داعش»، وبين الأدوات التي تفعلها على الأرض.
في نهاية شهر رمضان الماضي، كان مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية يُصدر تقريراً جديداً يكشف فيه عن حجم خسائر تنظيم داعش ومستويات تراجعه في رمضان 2018 مقارنةً بشهر رمضان من العام الماضي.
اعتاد الدواعش تكثيف عملياتهم الإرهابية في شهر رمضان، واتخذوا من الشهر الفضيل توقيتاً لإعلان خلافتهم المزعومة في 2014، وحرص التنظيم إعلامياً على التعبئة لتنفيذ عملياته خلال الشهر المبارك وإلقاء خطب خاصة به... ما الذي جرى مؤخراً؟
من الواضح أن الجهود الدولية والإقليمية ونجاح الجيوش الوطنية أدت إلى تحجيم عمليات التنظيم وتراجعها في الشرق الأوسط، فإعلامياً لم تُصدر قيادة «داعش» خطاباً مخصصاً لرمضان الأخير مقارنةً بالعام السابق، كذلك انخفض حجم الإصدارات والإنتاج الإعلامي للتنظيم، ففي رمضان 2017 كان التنظيم قد استهدف عدة مناطق على رأسها «إنجلترا، والعراق، وسوريا، وإسرائيل، ومصر، وأفغانستان، والفلبين، وإندونيسيا، والجزائر، والصومال، وإيران، وتونس، واليمن، وأستراليا»، بينما في رمضان 2018 وضع «داعش» نصب عينيه خريطة أخرى شملت (بلجيكا، وفرنسا، وروسيا، وكشمير، وباكستان، والعراق، وسوريا، واليمن، وليبيا، ونيجيريا، والصومال، وإندونيسيا، وتونس، ومصر، والفلبين).
ونجحت الجهود الدولية والإقليمية في كبح جماح تمدد «داعش» واستعادة الأراضي التي سيطر عليها منذ عام 2014، وكذلك نجحت الجهود عينها في وقف مصادر تمويله وتسليحه مع إفقاره العديد من الموارد البشرية والإعلامية في عدة مناطق حول العالم.
يعني ما تقدم أن «داعش» في العالم الواقعي قد تعرض بالفعل لصفعات قاسية، أفقدته الكثير جداً من توازناته الدعائية واللوجيستية، غير أن علامة الاستفهام وفي زمن العوالم الافتراضية هي: «هل يعني ذلك النهاية الحتمية لـ(داعش) أم أن للتنظيم رؤى ومسارب أخرى يعزز من خلالها وجوده الآيديولوجي، ويكتسب من خلالها المزيد من الأتباع والمؤيدين، بل الأخطر والأكثر هولاً، تنويع آليات الشر لديه، فمن عمليات الدهس، والهجمات الانتحارية، ربما يعمد إلى أسلحة الدمار الشامل، وإن كانت في صورها الأولى، سيما أنه من اليسير الحصول عليها والتي يمكن لها أن تُحدث خسائر جسيمة، ضمن خريطة أهدافها.
أدرك القائمون على «داعش» أن تصدير الفكرة إعلامياً، يكاد يكون أفضل السبل المتاحة للحصول على المزيد من العناصر البشرية اللازمة لاستمرار طرح الخلافة، وإن خسر التنظيم عاصمتها في سوريا والعراق. من هنا بدا كأن التنظيم الذي ترنح إعلامياً يسعى من جديد إلى استعادة نشاطه، وغير خافٍ على أحد، أنه حال نجاحه في بلورة منظومة إعلامية جيدة في العالم الافتراضي، فإن ذلك يعني ومن دون أي شك تقوية البنية الهيكلية لـ«داعش» في المستقبل، وإحراز نقاط نجاح على سلبيتها حول العالم.
علاقة «داعش» بالإعلام بدورها رصدتها ورقة بحثية صدرت أواخر يونيو (حزيران) الماضي عن «مرصد الأزهر لمكافحة التطرف»، وجاءت في جزأين.
التقرير يشير إلى أن «داعش» منذ ظهوره في عام 2014، وإعلانه دولة الخلافة المزعومة، نجح من خلال استراتيجية إعلامية مدروسة في الترويج لأفكاره، واستقطاب الآلاف من المقاتلين، معتمداً في هذا على إنتاج مقاطع فيديو عالية الجودة، ومواكِبة لأحدث التقنيات الإعلامية العالمية، إضافة إلى طباعته لعدد من المجلات، وبخاصة في اختراق مواقع التواصل الاجتماعي، واتخاذها نافذة للوصول إلى أكبر عدد ممكن من مستخدمي هذه المواقع.
يثير تقرير «مرصد الأزهر لمكافحة الإرهاب» علامة استفهام مثيرة بدورها: «هل ما زالت الآلة الإعلامية الداعشية قادرة على التأثير مثلما كانت تفعل قبل سقوط التنظيم وفقدانه 98% من الأراضي التي كان عليها في سوريا والعراق؟».
ويخلص التقرير إلى أن الإجابة بالتأكيد لا، فقد ترنحت الشبكة الإعلامية الداعشية وطرأ على المحتوى الذي تنشره عدداً من المتغيرات، والمؤشرات التالية تؤكد صحة ما ذهب إليه القائمون على هذا العمل الفكري المتميز، منها انخفاض كبير في حجم المحتوى الداعشي المنشور، إضافة إلى رداءة جودته، خصوصاً جودة الفيديوهات والصور، وكذلك تأخُّر التنظيم في إصدار البيانات التي يتبنى فيها مسؤوليته عن الهجمات التي ينفّذها، مع المبالغة في الأسلوب وعدم الدقة في عرض المعلومة، مثلما كان يحدث في الماضي بالإضافة إلى سقطات في الترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية.
لم تكن الانكسارات التي تعرض لها الدواعش خلال العام الماضي فقط عسكرية، بل إعلامية بشكل قاطع، سيما في ضوء استهداف المصادر الاقتصادية للتنظيم، وقد كانت في المقدمة منها المنتجات النفطية التي كانت تدرّ عليهم ملايين الدولارات، إضافة إلى تهريب الآثار، والاتجار في الأسلحة، فيما قال البعض الآخر بالمخدرات كذلك.
نجحت المكافحة الإلكترونية التي شنتها إدارات مواقع التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«يوتيوب»، إضافة إلى هجمات القرصنة الإلكترونية لمواقع «داعش»، والتي أدت إلى انخفاض استخدام التنظيم بشكل كبير لمواقع التواصل الاجتماعي، مما ساعد بشكل فعال في ترنح الآلة الإعلامية للتنظيم، ففي أوائل عام 2016 أعلنت شركة «تويتر» عن تعليق 125 ألف حساب، معظمها تابع لـ«داعش»، وذلك خلال حملة شنتها الشركة بداية من النصف الثاني من عام 2015.
جزئية أخرى توضح لنا أزمة التراجع الإعلامي الداعشي، وتتصل بالبشر، أي الدواعش من الإعلاميين، ذلك أن الذين نجوا من القتال قد عمدوا إلى الفرار، والتخفي عن طريق تغيير أماكن وجودهم، أو اللجوء إلى الاختباء في أماكن منعزلة تنعدم فيها وسائل الاتصال، وهو أمر يختلف عما كانوا يتمتعون به سابقاً، عندما كانت تتوفر لديهم وسائل ووسائط عمل دائمة من أجهزة ومعدات حديثة، بالإضافة إلى مصورين يعملون في مناطق الأحداث، وبالتالي لم يكونوا يأخذون صوراً حية، كل هذا تسبب في ضعف البنية التحتية للترسانة الإعلامية.
لم يكن مرصد الأزهر فقط مَن رصد تدهور أحوال ومآلات «داعش» الإعلامية ففي تقرير آخر صدر عن المركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي في أواخر 2017 للكاتب «تشارلي وينتون» نجد إشارة إلى وضع «داعش» الإعلامي الضعيف، عبر انخفاض كمية ونوعية المنشورات التي يروّجها، فعلى سبيل المثال أنتج تنظيم داعش في سبتمبر (أيلول) 2017، ثُلث ما أنتجه في أغسطس (آب) 2015.... هل يمكننا القطع بأن «داعش» قد سلم أوراقه أم أنه يحاول استنهاض جهوده ما دامت بقيت فكرة تقسيم العالم تقسيماً ثنائياً هي المتحكمة في عقول أتباعه وأشياعه حول الكرة الأرضية؟
من الواضح أن «داعش» لم يلقِ بكل أوراق اللعب على المائدة، بل بدأ في تدابير مختلفة نرصد منها محطات، يسعى من خلفها للعودة مرة جديدة إلى أفق الإرهاب الدولي، إن جاز التعبير.
يمكن أن نستخلص من السطور السابقة أن «داعش» ربما سينحسر عن الأرض التقليدية التي تمسك بها من قبل في الشرق الأوسط والعالم العربي وخلال السنوات الأربع الماضية بنوع خاص، غير أنه يمضي الآن في اتجاه تدشين مرحلة إعلامية جديدة تعيد له الألق الذي كان قبل فترة من ناحية، ومن ناحية ثانية يبدو أن التنظيم يخطط للتواصل والتوسع الجغرافي والديموغرافي في بؤر أخرى غير التي هُزم فيها... ماذا عن هذه الجزئية الأخيرة بنوع خاص؟
في هذا الإطار تفتقت أذهان القائمين على التنظيم بدءاً من أبو بكر البغدادي الزعيم الزئبقي الذي يُقتل ويقوم إعلامياً ودعائياً في اليوم الواحد مرات عدة، عن خطة لإيجاد موطئ قدم في مناطق الاضطرابات والصراعات الأهلية، وعلى الرأس من تلك الأماكن المرشحة جغرافياً تأتي أفغانستان في قارة آسيا، ومحاوله عقد صفقات بعينها مع «طالبان».
أما عن القارة الأفريقية فهناك أكثر من موقع وموضع مرشح ذلك، ففي الصومال تعطي الفوضى والحرب الأهلية فرصة لـ«داعش» للمزيد من التوغل في العمق، واكتساب فصائل جديدة وإغرائها بالمال، عطفاً على أن الصومال موقع قريب بدرجة أو بأخرى من كينيا، وتشاد، وغيرها من الدول التي يعمل فيها تيار الشباب المتطرف من أتباع «بوكو حرام»، وهؤلاء قد بايعوا «داعش» من قبل، وجاءتهم الآن الفرصة التاريخية لتكون أراضيهم مستقَراً لقيادات من «داعش»، ولا توفر الخريطة كذلك نيجيريا التي تعاني بدورها من صراعات طائفية ومذهبية، تعد من قبل «داعش» بيئة نموذجية لإحياء وجودها اللوجيستي والآيديولوجي معاً.
الأمر نفسه يكاد ينطبق على باكستان في آسيا، ودائرة الصراعات هناك، وإن كانت باكستان معروفة من قبل بوجود تنظيمات أصولية سابقة فيها مثل «القاعدة» في تسعينات القرن الماضي.
من البؤر الجديدة التي يستهدفها «داعش»، مناطق آمنة ومستقرة يكثف هجماتها العشوائية فيها، بغية تهديد الأمن والسلم، من ناحية محاولة تجنيد عناصر جديدة له في تلك المناطق، وكذلك البحث عن جغرافية جديدة لنشاطه الإرهابي، وعلى رأس تلك الدول تأتي إندونيسيا التي شهدت قبيل رمضان الماضي بأيام معدودة أربع هجمات كبرى نفّذ بعضَها أفراد عائلات كاملة، في تطور لافت للاهتمام، كذلك شهدت روسيا ثلاث هجمات منها اثنتان في الشيشان، وذلك تزامناً مع اقتراب فاعليات كأس العالم 2018.
ماذا عن البعد البيولوجي لـ«داعش»؟
يبدو أن الخلايا غير العنقودية لـ«داعش» باتت تخطط لإحداث مفاعيل شر واسعة، فلم تعد تكتفي في أوروبا بنوع خاص بالعمليات الهجومية التقليدية، كمثل التي شهدتها بلجيكا مع بدايات شهير رمضان، وفرنسا قبل انطلاق الشهر الكريم.
يعمد «داعش» الآن إلى إدخال ما اصطلح الناطق باسم دائرة حماية الدستور الألمانية (مديرية الأمن العام) على تسميته «سيناريو الرعب» من خلال تعريض دول أوروبا لنوع قاتل على مدى واسع من الإرهاب، وهو النوع البيولوجي، القريب جداً من الكيماوي، والذي يُعرف أيضاً بأنه القنبلة النووية للفقراء.
كارثة «داعش» الحقيقية تمثلت في العقول الذكية علمياً، وربما الجافة روحياً وإيمانياً، والتي امتلكها التنظيم خلال الأعوام الماضية، ومنها عقول على درجة كبيرة من التحصيل العلمي والعملي، كيميائياً وبيولوجياً وربما نووياً لو سمحت الظروف.
من بين تلك العقول كان الشاب التونسي «سيف الدين» 29 عاماً، ويبدو أن عيون الاستخبارات الأميركية كانت تراقبه بقوة عبر وسائط التواصل، مخترقة هاتفه وحاسوبه ولهذا استطاعت «سي آي إيه» تحذير السلطات الألمانية، بعدما أقدم «سيف الدين» القائم في مدنية كولون الألمانية بشراء كميات كبيرة من بذور الخروع، التي تُستخدم في إنتاج غاز الريسين السام عبر الإنترنت، وطلبه أيضاً أجهزة ومعدات تُستخدم في صناعة القنابل.
كارثة تلك النوايا الداعشية أنها زهيدة التكاليف لكنّ شرها مستطير، فالريسين مادة سامة قد تسبب الوفاة لدى استنشاقها أو تناولها أو حقنها، وهي سهلة التحضير بعد استخلاصها من بذور الخروع وهناك طرق عديدة لنشرها.
هل يعني ذلك أن «داعش» أعلن الحرب البيولوحية على أوروبا وغداً ربما على أميركا وفي الشرق الأوسط؟
المؤكد أن هذا الاتجاه من الإرهاب قد سبق وحذّر منه تقرير منشور صدر عن مركز تنسيق مكافحة الإرهاب في الاتحاد الأوروبي، وتوقع لجوء الجماعات الإرهابية إلى الهجمات الكيماوية والبيولوجية خلال عام 2018 مرجعاً ذلك إلى سهوله نقل واستخلاص هذا النوع من الأسلحة غير التقليدية من مركبات كيميائية عادية، مقارنةً بهجمات القنابل والسيارات المفخخة. الإرهاب حرب عالمية، ومن دون إرادة دولية حقيقية للمواجهة سوف يضحى العالم على صفيح ساخن، ومن ثم يفتقد الأمن والأمان، من مشارق الشمس إلى مغاربها.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.