... ويسعى لترتيب صفوفه إعلامياً

الجهود الدولية والإقليمية أدت إلى تحجيم عمليات التنظيم وتراجعها

«داعش» يسعى لترتيب صفوفه إعلامياً
«داعش» يسعى لترتيب صفوفه إعلامياً
TT

... ويسعى لترتيب صفوفه إعلامياً

«داعش» يسعى لترتيب صفوفه إعلامياً
«داعش» يسعى لترتيب صفوفه إعلامياً

هل تراجع تنظيم «داعش» بالفعل تراجعاً استراتيجياً على كل الجبهات في الأشهر الماضية أم أنه تراجع تكتيكي لن يلبث أن يستأنفه عما قريب بأدوات وآليات مغايرة، ربما أكثر فتكاً مما جرت به محاولاته في الأعوام الماضية؟
الشاهد أننا أمام عدة قراءات بعضها صدر حديثاً، بينما بعضها الآخر يتضمن رؤى تحليلية عميقة تربط بين الأهداف الرئيسة لـ«داعش»، وبين الأدوات التي تفعلها على الأرض.
في نهاية شهر رمضان الماضي، كان مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية يُصدر تقريراً جديداً يكشف فيه عن حجم خسائر تنظيم داعش ومستويات تراجعه في رمضان 2018 مقارنةً بشهر رمضان من العام الماضي.
اعتاد الدواعش تكثيف عملياتهم الإرهابية في شهر رمضان، واتخذوا من الشهر الفضيل توقيتاً لإعلان خلافتهم المزعومة في 2014، وحرص التنظيم إعلامياً على التعبئة لتنفيذ عملياته خلال الشهر المبارك وإلقاء خطب خاصة به... ما الذي جرى مؤخراً؟
من الواضح أن الجهود الدولية والإقليمية ونجاح الجيوش الوطنية أدت إلى تحجيم عمليات التنظيم وتراجعها في الشرق الأوسط، فإعلامياً لم تُصدر قيادة «داعش» خطاباً مخصصاً لرمضان الأخير مقارنةً بالعام السابق، كذلك انخفض حجم الإصدارات والإنتاج الإعلامي للتنظيم، ففي رمضان 2017 كان التنظيم قد استهدف عدة مناطق على رأسها «إنجلترا، والعراق، وسوريا، وإسرائيل، ومصر، وأفغانستان، والفلبين، وإندونيسيا، والجزائر، والصومال، وإيران، وتونس، واليمن، وأستراليا»، بينما في رمضان 2018 وضع «داعش» نصب عينيه خريطة أخرى شملت (بلجيكا، وفرنسا، وروسيا، وكشمير، وباكستان، والعراق، وسوريا، واليمن، وليبيا، ونيجيريا، والصومال، وإندونيسيا، وتونس، ومصر، والفلبين).
ونجحت الجهود الدولية والإقليمية في كبح جماح تمدد «داعش» واستعادة الأراضي التي سيطر عليها منذ عام 2014، وكذلك نجحت الجهود عينها في وقف مصادر تمويله وتسليحه مع إفقاره العديد من الموارد البشرية والإعلامية في عدة مناطق حول العالم.
يعني ما تقدم أن «داعش» في العالم الواقعي قد تعرض بالفعل لصفعات قاسية، أفقدته الكثير جداً من توازناته الدعائية واللوجيستية، غير أن علامة الاستفهام وفي زمن العوالم الافتراضية هي: «هل يعني ذلك النهاية الحتمية لـ(داعش) أم أن للتنظيم رؤى ومسارب أخرى يعزز من خلالها وجوده الآيديولوجي، ويكتسب من خلالها المزيد من الأتباع والمؤيدين، بل الأخطر والأكثر هولاً، تنويع آليات الشر لديه، فمن عمليات الدهس، والهجمات الانتحارية، ربما يعمد إلى أسلحة الدمار الشامل، وإن كانت في صورها الأولى، سيما أنه من اليسير الحصول عليها والتي يمكن لها أن تُحدث خسائر جسيمة، ضمن خريطة أهدافها.
أدرك القائمون على «داعش» أن تصدير الفكرة إعلامياً، يكاد يكون أفضل السبل المتاحة للحصول على المزيد من العناصر البشرية اللازمة لاستمرار طرح الخلافة، وإن خسر التنظيم عاصمتها في سوريا والعراق. من هنا بدا كأن التنظيم الذي ترنح إعلامياً يسعى من جديد إلى استعادة نشاطه، وغير خافٍ على أحد، أنه حال نجاحه في بلورة منظومة إعلامية جيدة في العالم الافتراضي، فإن ذلك يعني ومن دون أي شك تقوية البنية الهيكلية لـ«داعش» في المستقبل، وإحراز نقاط نجاح على سلبيتها حول العالم.
علاقة «داعش» بالإعلام بدورها رصدتها ورقة بحثية صدرت أواخر يونيو (حزيران) الماضي عن «مرصد الأزهر لمكافحة التطرف»، وجاءت في جزأين.
التقرير يشير إلى أن «داعش» منذ ظهوره في عام 2014، وإعلانه دولة الخلافة المزعومة، نجح من خلال استراتيجية إعلامية مدروسة في الترويج لأفكاره، واستقطاب الآلاف من المقاتلين، معتمداً في هذا على إنتاج مقاطع فيديو عالية الجودة، ومواكِبة لأحدث التقنيات الإعلامية العالمية، إضافة إلى طباعته لعدد من المجلات، وبخاصة في اختراق مواقع التواصل الاجتماعي، واتخاذها نافذة للوصول إلى أكبر عدد ممكن من مستخدمي هذه المواقع.
يثير تقرير «مرصد الأزهر لمكافحة الإرهاب» علامة استفهام مثيرة بدورها: «هل ما زالت الآلة الإعلامية الداعشية قادرة على التأثير مثلما كانت تفعل قبل سقوط التنظيم وفقدانه 98% من الأراضي التي كان عليها في سوريا والعراق؟».
ويخلص التقرير إلى أن الإجابة بالتأكيد لا، فقد ترنحت الشبكة الإعلامية الداعشية وطرأ على المحتوى الذي تنشره عدداً من المتغيرات، والمؤشرات التالية تؤكد صحة ما ذهب إليه القائمون على هذا العمل الفكري المتميز، منها انخفاض كبير في حجم المحتوى الداعشي المنشور، إضافة إلى رداءة جودته، خصوصاً جودة الفيديوهات والصور، وكذلك تأخُّر التنظيم في إصدار البيانات التي يتبنى فيها مسؤوليته عن الهجمات التي ينفّذها، مع المبالغة في الأسلوب وعدم الدقة في عرض المعلومة، مثلما كان يحدث في الماضي بالإضافة إلى سقطات في الترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية.
لم تكن الانكسارات التي تعرض لها الدواعش خلال العام الماضي فقط عسكرية، بل إعلامية بشكل قاطع، سيما في ضوء استهداف المصادر الاقتصادية للتنظيم، وقد كانت في المقدمة منها المنتجات النفطية التي كانت تدرّ عليهم ملايين الدولارات، إضافة إلى تهريب الآثار، والاتجار في الأسلحة، فيما قال البعض الآخر بالمخدرات كذلك.
نجحت المكافحة الإلكترونية التي شنتها إدارات مواقع التواصل الاجتماعي مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«يوتيوب»، إضافة إلى هجمات القرصنة الإلكترونية لمواقع «داعش»، والتي أدت إلى انخفاض استخدام التنظيم بشكل كبير لمواقع التواصل الاجتماعي، مما ساعد بشكل فعال في ترنح الآلة الإعلامية للتنظيم، ففي أوائل عام 2016 أعلنت شركة «تويتر» عن تعليق 125 ألف حساب، معظمها تابع لـ«داعش»، وذلك خلال حملة شنتها الشركة بداية من النصف الثاني من عام 2015.
جزئية أخرى توضح لنا أزمة التراجع الإعلامي الداعشي، وتتصل بالبشر، أي الدواعش من الإعلاميين، ذلك أن الذين نجوا من القتال قد عمدوا إلى الفرار، والتخفي عن طريق تغيير أماكن وجودهم، أو اللجوء إلى الاختباء في أماكن منعزلة تنعدم فيها وسائل الاتصال، وهو أمر يختلف عما كانوا يتمتعون به سابقاً، عندما كانت تتوفر لديهم وسائل ووسائط عمل دائمة من أجهزة ومعدات حديثة، بالإضافة إلى مصورين يعملون في مناطق الأحداث، وبالتالي لم يكونوا يأخذون صوراً حية، كل هذا تسبب في ضعف البنية التحتية للترسانة الإعلامية.
لم يكن مرصد الأزهر فقط مَن رصد تدهور أحوال ومآلات «داعش» الإعلامية ففي تقرير آخر صدر عن المركز الدولي لدراسة التطرف والعنف السياسي في أواخر 2017 للكاتب «تشارلي وينتون» نجد إشارة إلى وضع «داعش» الإعلامي الضعيف، عبر انخفاض كمية ونوعية المنشورات التي يروّجها، فعلى سبيل المثال أنتج تنظيم داعش في سبتمبر (أيلول) 2017، ثُلث ما أنتجه في أغسطس (آب) 2015.... هل يمكننا القطع بأن «داعش» قد سلم أوراقه أم أنه يحاول استنهاض جهوده ما دامت بقيت فكرة تقسيم العالم تقسيماً ثنائياً هي المتحكمة في عقول أتباعه وأشياعه حول الكرة الأرضية؟
من الواضح أن «داعش» لم يلقِ بكل أوراق اللعب على المائدة، بل بدأ في تدابير مختلفة نرصد منها محطات، يسعى من خلفها للعودة مرة جديدة إلى أفق الإرهاب الدولي، إن جاز التعبير.
يمكن أن نستخلص من السطور السابقة أن «داعش» ربما سينحسر عن الأرض التقليدية التي تمسك بها من قبل في الشرق الأوسط والعالم العربي وخلال السنوات الأربع الماضية بنوع خاص، غير أنه يمضي الآن في اتجاه تدشين مرحلة إعلامية جديدة تعيد له الألق الذي كان قبل فترة من ناحية، ومن ناحية ثانية يبدو أن التنظيم يخطط للتواصل والتوسع الجغرافي والديموغرافي في بؤر أخرى غير التي هُزم فيها... ماذا عن هذه الجزئية الأخيرة بنوع خاص؟
في هذا الإطار تفتقت أذهان القائمين على التنظيم بدءاً من أبو بكر البغدادي الزعيم الزئبقي الذي يُقتل ويقوم إعلامياً ودعائياً في اليوم الواحد مرات عدة، عن خطة لإيجاد موطئ قدم في مناطق الاضطرابات والصراعات الأهلية، وعلى الرأس من تلك الأماكن المرشحة جغرافياً تأتي أفغانستان في قارة آسيا، ومحاوله عقد صفقات بعينها مع «طالبان».
أما عن القارة الأفريقية فهناك أكثر من موقع وموضع مرشح ذلك، ففي الصومال تعطي الفوضى والحرب الأهلية فرصة لـ«داعش» للمزيد من التوغل في العمق، واكتساب فصائل جديدة وإغرائها بالمال، عطفاً على أن الصومال موقع قريب بدرجة أو بأخرى من كينيا، وتشاد، وغيرها من الدول التي يعمل فيها تيار الشباب المتطرف من أتباع «بوكو حرام»، وهؤلاء قد بايعوا «داعش» من قبل، وجاءتهم الآن الفرصة التاريخية لتكون أراضيهم مستقَراً لقيادات من «داعش»، ولا توفر الخريطة كذلك نيجيريا التي تعاني بدورها من صراعات طائفية ومذهبية، تعد من قبل «داعش» بيئة نموذجية لإحياء وجودها اللوجيستي والآيديولوجي معاً.
الأمر نفسه يكاد ينطبق على باكستان في آسيا، ودائرة الصراعات هناك، وإن كانت باكستان معروفة من قبل بوجود تنظيمات أصولية سابقة فيها مثل «القاعدة» في تسعينات القرن الماضي.
من البؤر الجديدة التي يستهدفها «داعش»، مناطق آمنة ومستقرة يكثف هجماتها العشوائية فيها، بغية تهديد الأمن والسلم، من ناحية محاولة تجنيد عناصر جديدة له في تلك المناطق، وكذلك البحث عن جغرافية جديدة لنشاطه الإرهابي، وعلى رأس تلك الدول تأتي إندونيسيا التي شهدت قبيل رمضان الماضي بأيام معدودة أربع هجمات كبرى نفّذ بعضَها أفراد عائلات كاملة، في تطور لافت للاهتمام، كذلك شهدت روسيا ثلاث هجمات منها اثنتان في الشيشان، وذلك تزامناً مع اقتراب فاعليات كأس العالم 2018.
ماذا عن البعد البيولوجي لـ«داعش»؟
يبدو أن الخلايا غير العنقودية لـ«داعش» باتت تخطط لإحداث مفاعيل شر واسعة، فلم تعد تكتفي في أوروبا بنوع خاص بالعمليات الهجومية التقليدية، كمثل التي شهدتها بلجيكا مع بدايات شهير رمضان، وفرنسا قبل انطلاق الشهر الكريم.
يعمد «داعش» الآن إلى إدخال ما اصطلح الناطق باسم دائرة حماية الدستور الألمانية (مديرية الأمن العام) على تسميته «سيناريو الرعب» من خلال تعريض دول أوروبا لنوع قاتل على مدى واسع من الإرهاب، وهو النوع البيولوجي، القريب جداً من الكيماوي، والذي يُعرف أيضاً بأنه القنبلة النووية للفقراء.
كارثة «داعش» الحقيقية تمثلت في العقول الذكية علمياً، وربما الجافة روحياً وإيمانياً، والتي امتلكها التنظيم خلال الأعوام الماضية، ومنها عقول على درجة كبيرة من التحصيل العلمي والعملي، كيميائياً وبيولوجياً وربما نووياً لو سمحت الظروف.
من بين تلك العقول كان الشاب التونسي «سيف الدين» 29 عاماً، ويبدو أن عيون الاستخبارات الأميركية كانت تراقبه بقوة عبر وسائط التواصل، مخترقة هاتفه وحاسوبه ولهذا استطاعت «سي آي إيه» تحذير السلطات الألمانية، بعدما أقدم «سيف الدين» القائم في مدنية كولون الألمانية بشراء كميات كبيرة من بذور الخروع، التي تُستخدم في إنتاج غاز الريسين السام عبر الإنترنت، وطلبه أيضاً أجهزة ومعدات تُستخدم في صناعة القنابل.
كارثة تلك النوايا الداعشية أنها زهيدة التكاليف لكنّ شرها مستطير، فالريسين مادة سامة قد تسبب الوفاة لدى استنشاقها أو تناولها أو حقنها، وهي سهلة التحضير بعد استخلاصها من بذور الخروع وهناك طرق عديدة لنشرها.
هل يعني ذلك أن «داعش» أعلن الحرب البيولوحية على أوروبا وغداً ربما على أميركا وفي الشرق الأوسط؟
المؤكد أن هذا الاتجاه من الإرهاب قد سبق وحذّر منه تقرير منشور صدر عن مركز تنسيق مكافحة الإرهاب في الاتحاد الأوروبي، وتوقع لجوء الجماعات الإرهابية إلى الهجمات الكيماوية والبيولوجية خلال عام 2018 مرجعاً ذلك إلى سهوله نقل واستخلاص هذا النوع من الأسلحة غير التقليدية من مركبات كيميائية عادية، مقارنةً بهجمات القنابل والسيارات المفخخة. الإرهاب حرب عالمية، ومن دون إرادة دولية حقيقية للمواجهة سوف يضحى العالم على صفيح ساخن، ومن ثم يفتقد الأمن والأمان، من مشارق الشمس إلى مغاربها.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.