«الانغماسيون»... بقايا «داعش» في العراق

700 عنصر يستقرون في مضافات ويتنقلون شمال شرقي سوريا

مدينة الموصل العراقية قبل سيطرة «داعش» وبعد تحريرها (أ ف ب)
مدينة الموصل العراقية قبل سيطرة «داعش» وبعد تحريرها (أ ف ب)
TT

«الانغماسيون»... بقايا «داعش» في العراق

مدينة الموصل العراقية قبل سيطرة «داعش» وبعد تحريرها (أ ف ب)
مدينة الموصل العراقية قبل سيطرة «داعش» وبعد تحريرها (أ ف ب)

في التاسع من ديسمبر (كانون الأول) 2017، أعلن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، الانتصار العسكري على تنظيم «داعش» بعد 3 سنوات على إعلان زعيم هذا التنظيم أبو بكر البغدادي ما سماه «الدولة الإسلامية» واحتلال التنظيم مدينة الموصل ثاني كبرى مدن العراق في التاسع من يونيو (حزيران) عام 2014.
جاء إعلان العبادي عن نهاية «داعش» في العراق بعد عودة آخر المدن والبلدات التي كان يحتلها هذا التنظيم المتشدد إلى حضن الوطن بعد قتال مرير شارك فيه تحالف دولي من نحو 60 دولة كانت المؤسسة الأمنية العراقية رأس الحربة فيه.
في «خطاب النصر»، بدا العبادي واثقاً مما يقول حين أعلن أمام العالم أجمع أن «المقاتلين العراقيين وصلوا إلى آخر معاقل (داعش) وطهّروها ورفعوا عَلم العراق فوق مناطق غربيّ الأنبار التي كانت آخر أرض عراقية مغتصبة... وأن عَلم العراق يرفرف اليوم عالياً فوق جميع الأراضي العراقية وعلى أبعد نقطة حدودية».
وأعلنت الحكومة العراقية وقتها أن القوات المسلحة العراقية أمّنت الصحراء الغربية والحدود العراقية - السورية بالكامل بما يشكل نهاية الحرب على إرهابيي «داعش» الذين تم دحرهم تماماً وطردهم من العراق.
هذا كله، كان أواخر العام الماضي حين بدا أن العراق قد طوى صفحة «داعش» وانتقل إلى مرحلة جديدة مما اصطُلح على تسميته «المصالحة الوطنية» أو «المجتمعية».
بعد سنة تقريباً، برز ما يمكن التوقف عنده. قوات إسرائيلية قصفت مقراً لقوات «الحشد الشعبي» قرب البوكمال على الحدود العراقية - السورية التي كان يفترض طبقاً لخطاب العبادي العام الماضي أن تكون مؤمَّنة من قِبل القوات العراقية التي وصلت إلى آخر نقطة. الضربة أدت إلى مقتل 22 عنصراً وأثارت جدلاً وخلافاً قوياً بين قيادة العمليات المشتركة وبين قيادة «الحشد الشعبي» رغم أن كلا الطرفين يُفترض أنهما يتوليان حماية الحدود من تنظيم «داعش».
بالتزامن مع ذلك قام تنظيم «داعش» وفي مكان يبعد مئات الكيلومترات عن الحدود العراقية - السورية لكنه لا يبعد أكثر من 100 كلم أو أقل عن العاصمة بغداد قبل أقل من أسبوعين باختطاف 8 مواطنين من محافظتي الأنبار وكربلاء. وبعد 5 أيام من البحث والتقصي عثرت القوات الأمنية على جثثهم. بين حادثتي القصف لقوات «الحشد» على الحدود واختطاف المواطنين الثمانية كان تنظيم «داعش» قد شكّل تهديداً جدياً في العديد من المرات عبر قيامه بالعديد من العمليات العسكرية بدءاً من الحويجة حيث نصب كميناً أوائل هذا العام أدى إلى مقتل 27 عنصراً أمنياً، اضافة إلى نصب العديد من حواجز التفتيش الوهمية سواء على طريق بغداد - كركوك أو في محافظات الأنبار وديالى وصلاح الدين، وانتهاءً بالعملية التي قام بها قبل نحو شهرين في منطقة التاجي التي لا تبعد أكثر من 30 كم عن بغداد حين هاجم إحدى القرى مما أدى إلى مقتل وجرح العشرات.
أثيل النجيفي، الذي كان آخر محافظ لنينوى عشية احتلالها من قبل تنظيم «داعش» عام 2014، وفي سياق تفسيره لظاهرة «داعش» التي أخذت تمثل قلقاً من جديد في العراق، يقول لـ«الشرق الأوسط»، إن «المعلومات الاستخبارية تشير إلى وجود ما يقارب 700 مقاتل من (داعش) مستنفَرين للقتال داخل الأراضي العراقية في محافظتي نينوى وصلاح الدين فقط، ويعيشون بصورة مستقرة في (مضافات) موزعة داخل حدود هاتين المحافظتين ويقومون بأنشطة إرهابية بالتواصل مع قواتهم من داخل سوريا». ويضيف النجيفي: «هناك عدد آخر من الخلايا النائمة داخل المدن». ويرى النجيفي أن تنظيم «داعش»، ومثلما هو معلوم، يعيش على الأزمات، وينتعش في ظلالها، وهو بانتظار تنامي أي نوع من الصراع داخل العراق سواء كان هذا الصراع إدارياً أم مذهبياً أم صراعاً قومياً أو سياسياً أو دولياً، حيث لا يهمه نوع الصراع ولا أهدافه بل المهم أن يجد لنفسه بيئة تمكِّنه من العمل.
وبالنسبة إلى قيادات «داعش»، يقول الشيخ نايف الشمري، أحد مشايخ قبيلة شمر، إن «عناصر (داعش) يوجدون حالياً في منطقة الجزيرة الواقعة بين محافظات صلاح الدين والأنبار ونينوى ويتنقلون بعجلات بيك أب»، مشيراً إلى أنهم «قاموا قبل فترة بخطف 30 من رعاة الأغنام». وطبقاً لرواية أحد الناجين يقول الشيخ الشمري: إن «الدواعش نقلونا مسافة تقدر بـ200 كلم في منطقة نائية جداً تسمى سحول راوة، حيث يتنقل الدواعش بين سوريا والعراق، وعندما تُشن عمليات في الأراضي العراقية يتجهون إلى الجانب السوري، وعندما يزداد الضغط عليهم من الجانب السوري يدخلون الأراضي العراقية، وهكذا».

أجيال وتسميات
إلى ذلك، دخل الخطاب السياسي المتداول بشأن «داعش» مصطلحان أثارا ولا يزالان يثيران جدلاً سياسياً: «الانغماسيون»، وهم الجيل الرابع من أجيال «داعش»، وأهل «الرايات البيض» الذي شاع استخدامه بعد إعلان الهزيمة العسكرية لهذا التنظيم. ورغم اختلاف الروايات بشأن هذا التنظيم وذلك لجهة نسبته مرة إلى «داعش» ومرة إلى الأكراد فإن أستاذ العلوم السياسية في جامعة صلاح الدين الدكتور عبد الحكيم خسرو، يقول لـ«الشرق الأوسط»: إن «(الرايات البيض) تنظيم من بقايا البعثيين وأنصار الإسلام والحركة النقشبندية وغالبية من كان معهم من الكرد، وطبقاً للمعلومات التي بحوزتنا، قُتلوا، ومن بقي منهم عدد قليل جداً لا أهمية له في الوزن التنظيمي لهم».
لكن الخبير في شؤون الجماعات الإرهابية هشام الهاشمي، فيرى في مقابل ذلك أن «(الرايات البيض) جماعة قومية كردية مسلحة متمردة على أحداث 16 أكتوبر (تشرين الأول) 2017 بعد سيطرة الحكومة الاتحادية على كركوك والمناطق المتنازع عليها، وهي ردة فعل انتقامية بالضد من الحشد التركماني بالدرجة الأساس، لذلك تركز عملها في البداية باتجاه طوزخورماتو ذات الغالبية التركمانية». ويضيف الهاشمي أن «هؤلاء لا يطلقون على أنفسهم (أهل الرايات البيض)، بل (المقاومة الكردية المسلحة لتحرير كركوك) كما أنهم لا شأن لهم بالآيديولوجيات الدينية، وبالتالي هم ليسوا (قاعدة) أو (داعش) أو بعثيين أو سلفيين». ويوضح الهاشمي: «ما زالت شبكة التسلل لعصابات (داعش) الإرهابية قائمة من شرق حوض دجلة وحوض حمرين وتلالها ومن العظيم وجبل خانوكة ومكحول والبادية، وهي منطقة واسعة من الثرثار إلى جنوب صحراء الحضر والبعاج وصولاً إلى القائم، بالإضافة إلى أودية جنوب حوض الفرات والقذف وحوران والأبيض». ويبين أن «الإرهابيين الفارين من المعارك فرّوا إلى هذه المناطق وعددهم نحو 800، ما قد يجعلونها قواعد لانطلاقهم للتعرض أو السيارات المفخخة».

«الانغماسيون»... الجيل الرابع
في معارك تحرير صلاح الدين التي خاضها الجيش العراقي ضد تنظيم «داعش» عام 2015، زج هذا التنظيم الإرهابي ولأول مرة بما بات يسمى في ما بعد «الجيل الرابع» من الانتحاريين أو «الانغماسيين»، وهم في أبسط تعريف لهم الذين إذا ذهبوا وتمنطقوا بالحزام الناسف لن يعودوا. وهم بذلك يختلفون عن باقي الأجيال الأخرى من الانتحاريين ممن يحملون أحزمة ناسفة ويتحركون بها إلى أهدافهم سواء كانوا راجلين أو راكبي السيارات التي تنفجر بهم طبقاً للأهداف التي يحددها التنظيم لهم.
وطبقاً للوقائع والحيثيات التي رافقت مسيرة «داعش» في العراق منذ احتلاله الموصل وكل محافظة نينوى في العاشر من يونيو عام 2014، ومن ثم تمدده نحو محافظات صلاح الدين وديالى والأنبار واقترابه من العاصمة بغداد (على بعد 40 كم)، بالإضافة إلى تحقيقه أخطر خرق باتجاه محافظة كربلاء (110 كلم جنوب بغداد) التي تضم مرقدَي الإمامين الحسين وأخيه العباس من خلال سيطرته على ناحية جرف الصخر (60 كم جنوب بغداد) ونحو (40 كم شمال كربلاء)... طبقاً لذلك كله فإن التنظيم، لا سيما بعد إعلانه «الخلافة»، عمل على تطوير أدواته وأدائه معاً. أما أدواته فقد تمثلت في نوعية المواد التي يستخدمها في عمليات التفجير والتفخيخ للأماكن والمنازل، بالإضافة إلى الأسلحة التي كان قد غنمها في أثناء هزيمة الجيش العراقي في معركة الموصل (استسلام نحو أربع فرق عسكرية بكامل أسلحتها الثقيلة)، تضاف إلى ذلك الأموال التي بات يتحصل عليها من سيطرته على مئات آبار النفط في العراق وقبلها في سوريا والتي جعلته يضمن موارد مالية هائلة شهرياً من خلال بيع النفط بالسوق السوداء (سعر البرميل لدى «داعش» 25 دولاراً في وقت كانت فيه أسعار النفط العالمية لا تزال في حدود 90 دولاراً).
العضو السابق في لجنة الأمن والدفاع في البرلمان العراقي محمد الكربولي، يقول لـ«الشرق الأوسط»: إن «الانغماسيين يمثلون حروب الجيل الرابع من الإرهاب وهي حرب نفسية بامتياز، حيث يلعب فيها الإعلام الدور الأكبر والأخطر»، مشيراً إلى أن «الإعلام هو أحد الأسلحة الرئيسية في الجيل الرابع، حيث يدعم أحداث الفوضى الاستباقية وتوجيه الأنظار وصناعة الخبر وتضخيم الأحداث وزعزعة الاستقرار والتحريض على الفتنة بين طبقات الشعب الواحد وإثارة المذهبية والعقائدية بحيث يسهل تمزيق الوطن الواحد وإفشال الدولة في النهاية».
ويضيف الكربولي أن «تزايد العمليات الانتحارية تنوعاً بطرق وأساليب مختلفة، ومنها الانغماسيون، يؤكد من جديد الحاجة إلى مقاربة صحيحة لمحاربة الإرهاب لكن ليس بالطرق التقليدية التي عفا عليها الزمن بل الحاجة باتت ماسّة إلى العمل على تجفيف منابع الإرهاب من خلال إحكام سيطرة الدولة على المنافذ الحدودية حيث يتدفق الإرهابيون، والعمل على استيعاب أبناء المناطق التي يحاول الإرهاب استخدامها للتمدد، مستفيداً من الأخطاء التي تمارسها السلطات هناك سواء كانت أمنية أم عسكرية، بالإضافة إلى تغيير النظرة إلى أبناء تلك المناطق ومحاولة استيعابهم وزجّهم في مختلف ميادين العمل والحياة».



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.