«داعش» يكرر تجربة «القاعدة»... ماذا يحصل للفروع حين يموت «التنظيم الأم»؟

صورة ارشيفية لعناصر من «داعش» خلال تدريبات  شمال شرقي سوريا
صورة ارشيفية لعناصر من «داعش» خلال تدريبات شمال شرقي سوريا
TT

«داعش» يكرر تجربة «القاعدة»... ماذا يحصل للفروع حين يموت «التنظيم الأم»؟

صورة ارشيفية لعناصر من «داعش» خلال تدريبات  شمال شرقي سوريا
صورة ارشيفية لعناصر من «داعش» خلال تدريبات شمال شرقي سوريا

كما نما تنظيم داعش وتوسّع بسرعة البرق في سوريا والعراق، بدءاً من العام 2014، كذلك كانت حال فروعه، أو ما يُعرف بولاياته، التي توالى ظهورها في أكثر من دولة وعبر أكثر من قارة، وإن تفاوتت في القوة والتأثير. وإذا كان ما يمكن أن يُطلق عليه «التنظيم الأم» قد أوشك حالياً على لفظ أنفاسه الأخيرة في مكان نشوئه، أي سوريا والعراق، فإن الأنظار لا بد أن تتجه الآن إلى مصير فروع «داعش» لتحديد مدى تأقلمها مع واقع جديد تبقى فيه حيّة بعد وفاة «التنظيم الأم»؟
وفي الواقع، يُذكّر هذا الوضع بما مرّ به تنظيم القاعدة من قبل. فقد بقي قادة «التنظيم الأم» مختبئين ومنقطعين عن العالم الخارجي لسنوات في مناطق الحدود الأفغانية - الباكستانية، بينما كانت فروعهم تنشط في مناطق مختلفة مثل «جزيرة العرب» و«المغرب الإسلامي» و«بلاد الرافدين»، وحتى من خلال مناصرين وأفراد يشنون هجمات، لا سيما في الدول الغربية. وكما هو معروف، أدت عزلة «التنظيم الأم» ومقتل زعيم «القاعدة» أسامة بن لادن (عام 2011) إلى تقليص قدرة خليفته أيمن الظواهري على فرض سلطته على بقية فروع التنظيم، وهو ما تكرّس في الشرخ الكبير الذي قاده لاحقاً أبو بكر البغدادي في صفوف المتشددين في العراق وسوريا.
فهل يتكرر الآن المشهد ذاته ويفقد البغدادي، المحاصر والمعزول، كما يبدو، سطوته على فروع «داعش»؟ فيما يأتي نظرة إلى بعض الفروع الأساسية لهذا التنظيم، مع تقييم موجز لقدراتها ودرجة التهديد الذي تمثّله:

سيناء
تنتشر في القارة السمراء فروع عدة لـ«داعش»، لكن أبرزها بلا شك وأكثرها نشاطاً، فرع «ولاية سيناء» في مصر. لم ينشأ هذا الفرع في نوفمبر (تشرين الثاني) من فراغ، بل قام على أنقاض جماعة أخرى كانت محسوبة على تنظيم القاعدة، وتُطلق على نفسها اسم «أنصار بيت المقدس». وفي واقع الأمر، كانت هذه الجماعة ناشطة في سيناء قبل سنوات من تحولها إلى فرع «داعش»، ونفّذت العديد من الهجمات الإرهابية، لكن صيتها بلغ أوجه بعدما صارت «ولاية سيناء» وبايعت أبو بكر البغدادي، زعيم «داعش»، بعدما خلع عن نفسه ثوب الولاء لـ«القاعدة» بعد انحياز زعيمها، الظواهري، إلى «جبهة النصرة» السورية في خلافها الشهير مع جماعة «الدولة الإسلامية في العراق».
وفي السنوات التي تلت مبايعة «بيت المقدس» لزعيم «داعش»، البغدادي، سُجّل تصاعد مخيف في حجم العمليات التي تشهدها مناطق سيناء المختلفة، وباتت الكمائن التي تُنصب لقوات الأمن تحصل في شكل متكرر، وكذلك الهجمات بسيارات مفخخة يقودها انتحاريون، ما أسفر عن سقوط مئات الضحايا. ولم تكتف «ولاية سيناء» بهجماتها على ثكنات قوات الأمن وقوافلها في المناطق الصحراوية المعزولة، بل سعت إلى محاولة انتزاع السيطرة على مدن أساسية في سيناء، مثل الشيخ زويد، وفرض نظامها على السكان عبر حملة ترهيب وإعدامات. كما نفّذت «ولاية سيناء» عملية تفجير لطائرة ركاب روسية بعيد إقلاعها من شرم الشيخ في نوفمبر 2015، ما أسفر عن مقتل 224 راكباً، موجهة ضربة شديدة لقطاع السياحة المصرية. كما نفّذ فرع «داعش» أيضاً مذبحة لا تقل بشاعة في نوفمبر 2017 تمثلت بهجوم دام ضد مسجد الروضة في سيناء، خلال صلاة يوم الجمعة، ما أسفر عن مقتل أكثر من 310 أشخاص، في حادثة أثارت غضباً شعبياً عارماً ضد ممارسات التنظيم.
لكن تصاعد عمليات «ولاية سيناء» لم يبق من دون رد. إذ أطلق الجيش المصري، بمساندة من قوات الأمن المختلفة، حملة واسعة لتطهير شبه الجزيرة من المتشددين، بدءاً من فبراير (شباط) الماضي. وعلى رغم أن العملية ما زالت مستمرة، إلا أن التراجع الكبير في نشاط «دواعش سيناء» في الفترة الماضية يوحي بأن التنظيم مُني فعلاً بخسائر هزّت أركانه وقد يكون يحاول حالياً إعادة تنظيم صفوفه في مناطق معزولة بعمق الصحراء. وجاء غلق الأنفاق التي تربط سيناء بغزة ليزيد إحكام الحصار على «الدواعش» الذين كانوا يتنفسون من «الرئة» الفلسطينية التي ترفدهم بعناصر جديدة كلما ازداد الضغط عليهم في سيناء، أو كلما ازداد ضغط حركة حماس على مناصري «داعش» داخل قطاع غزة.
ولا يعني بالطبع تراجع عمليات «ولاية سيناء» أن هذا الفرع لـ«داعش» قد انتهى تماماً، إذ إنه قد ينجح في أي لحظة في تنفيذ هجوم دام جديد، لكن الأكيد، في المقابل، أنه تعرض لضربة قوية، وأن مواصلة قوات الأمن حملتها الحالية قد يؤدي إلى الإجهاز عليه بعدما بات في حالة تشبه الموت السريري.

«داعش ليبيا»
وإذا كانت «ولاية سيناء» هي الفرع الأساسي لـ«داعش» في شمال أفريقيا، فإن فرعاً آخر للتنظيم، هو الفرع الليبي، كان يمكن أن ينافسها لو أتيحت له فرصة تثبيت أقدامه لفترة أطول في أماكن سيطرته. لم ينشأ فرع «داعش» الليبي على أنقاض جماعة موجودة أصلاً، كحال «ولاية سيناء» مع «أنصار بيت المقدس»، بل نشأ إلى حد كبير نتيجة استقطاب أفراد ليبيين شاركوا في الثورة التي أطاحت نظام العقيد معمر القذافي، عام 2011، ثم أكملوا مشوارهم في سوريا بانضمامهم إلى ثوارها. وكان الأمر طبيعياً، بالتالي، أن بعض الليبيين الذين ذهبوا للقتال في سوريا تأثروا بالانقسام الذي حصل بين «النصرة» و«القاعدة»، من جهة، وبين «داعش»، من جهة أخرى. وفي حين كان تنظيم البغدادي يتمدد بسرعة على حساب قوات الحكومة السورية وأيضاً على حساب «النصرة» وبقية فصائل المعارضة، بدءاً من العام 2014، كان بعض الليبيين الذين انحازوا إلى «داعش» في سوريا يعودون أدراجهم إلى بلادهم لتأسيس خلايا للتنظيم وتجنيد مزيد من العناصر. ولم يكتف «داعش» بذلك، بل عمد إلى إرسال قادة كبار (مثل تركي البنعلي) إلى ليبيا لتأسيس فروع هناك وأخذ مبايعات من جماعات إسلامية ليبية. وفي حين نجح «داعش» في إقامة موطئ قدم مهم له على الساحل الليبي بالسيطرة على مدينة سرت، المعقل السابق لمناصري القذافي المهزومين، وجعلوا منها بمثابة «عاصمة» أقاموا فيها محاكم ونفذوا قربها إعدامات جماعية (من بين أبشعها قطع رؤوس مجموعة من الأقباط المصريين أمام عدسات الكاميرا)، إلا أن محاولتهم تكرار التجربة ذاتها في مدينة درنة، شرق البلاد، لم تكن ناجحة. فقد اصطدموا هناك بمجموعة أخرى من الإسلاميين الذين رفض بعضهم فك ارتباطهم بـ«القاعدة» والالتحاق بـ«داعش». وعلى رغم الفشل في اختراق درنة، المدينة التي أمدت أبو مصعب الزرقاوي في العراق بمئات المقاتلين والانتحاريين في العقد الماضي، إلا أن «داعش» استطاع، في المقابل، إقامة مواقع له في أكثر من منطقة ليبية، وأعلن قيام ثلاث «ولايات» تحاكي التقسيم التاريخي للبلاد: ولاية برقة (الشرق)، ولاية فزان (الجنوب) وولاية طرابلس. وفي حين أن «داعش» نشط فعلاً في بعض مناطق الشرق (شارك مثلاً في معارك بنغازي ضد قوات المشير خليفة حفتر)، إلا أن نشاطه في الجنوب (فزان) كان شبه معدوم. أما في غرب ليبيا، فقد حاول «داعش» توسيع نطاق عمله خارج سرت، وأنشأ قاعدة كبيرة له قرب مدينة صبراتة، غرب طرابلس، حيث التحق بها عشرات التونسيين الذين كانوا يتدفقون للتدرب في ليبيا قبل العودة إلى بلادهم لشن حرب ضد حكومتهم. لكن نشاط «الدواعش التونسيين» في ليبيا، كما نشاط «الدواعش الليبيين» أنفسهم، لم يكن بعيداً عن أعين أجهزة الأمن الغربية التي كانت تنظر بقلق إلى تنامي نشاطهم واستغلالهم الفوضى في ليبيا للتدرب على السلاح والتخطيط لعمليات إرهابية، كما حصل على الأقل في هجومين دمويين داخل تونس، متحف باردو وهجوم سوسة، اللذين تبيّن أن المتورطين فيهما مرتبطون بمعسكرات «داعش» في ليبيا.
ولم يتأخر الرد على تنامي «داعش» في «الجماهيرية» السابقة، فقد نفذت طائرات أميركية، في فبراير 2016، ضربة تسببت في مقتل عشرات في «معسكر دواعش تونس» قرب صبراتة الليبية. وحاول هؤلاء الرد بإطلاق هجوم واسع على مدينة بن قردان بهدف السيطرة عليها وإعلان إمارة، لكن محاولتهم فشلت بعد مقاومة ضارية أبدتها قوات الأمن.
لكن القضاء على تهديد «داعش» في ليبيا كان يحتاج بالتأكيد إلى حل لقضية «عاصمته» هناك، وهكذا انخرطت الولايات المتحدة وبريطانيا، تحديداً، في عملية عسكرية قامت بها قوات ليبية محلية لطرد «داعش» من سرت. واستمرت عملية تحرير المدينة شهوراً طويلة قُتل خلالها مئات المقاتلين، وتضمنت شن غارات تركت المدينة أنقاضاً. ومع سقوط سرت، حاول «الدواعش» تجميع فلولهم في صحرائها الجنوبية، وقرب مدينة بني وليد جنوب طرابلس، لكن الطائرات الأميركية لاحقتهم وشنت أكثر من ضربة على مواقع اختبائهم. ويوحي استمرار الغارات بأن تهديد «داعش» لم ينته كلياً في ليبيا. لكن الأكيد أيضاً أن التنظيم لم يعد بالقوة نفسها التي كانها قبل عامين، وأنه على رغم تمكنه من شن هجمات وتفجيرات ونصب حواجز في الصحراء، إلا أنه فشل في المحافظة على قاعدة دائمة له في ليبيا، كما فشل عناصره التونسيون في تحقيق موطئ قدم ثابت لهم على الأراضي التونسية (وإن كانوا قادرين على توجيه ضربات متفرقة).
وفي الجزائر المجاورة لم يتمكن «الدواعش» المحليون من تحقيق خرق مهم في ساحة المتشددين الإسلاميين الممثلين بفرع «القاعدة» المغاربي. فعلى رغم أن هذه الجماعة الأخيرة تعاني منذ سنوات من توقف شبه كامل في نشاطها نتيجة الضربات التي توجهها قوات الأمن الجزائرية، إلا أن «داعش» حاول، كما يبدو، استثمار هذا الوضع لصالحه من خلال استقطاب مجموعات تابعة لـ«القاعدة» إلى صفوفه، كما فعل مع جماعات أخرى مالت إلى صفه بعد إعلان البغدادي قيام «دولة» مزعومة كاملة الأركان في سوريا والعراق. لكن البغدادي لم يستطع في الجزائر سوى استقطاب جماعة صغيرة من داخل «القاعدة» تُعرف بـ«جند الخلافة» التي خرجت في سبتمبر (أيلول) 2014 بإعلان مبايعة «داعش» مدشنة ولاءها بقطع رأس رهينة فرنسي. وسارعت قوات الأمن الجزائرية إلى إطلاق حملة نجحت خلالها في الوصول إلى مخابئ «جند الخلافة» وقتل زعيمها، منهية وجودها بالكامل. ولا يُعرف حالياً أن هناك وجوداً لـ«داعش» في الجزائر باستثناء بعض العمليات المتفرقة التي تحصل على فترات زمنية متباعدة في شرق البلاد ويعلن «داعش» عن تبنيه لها. لكن لا يُعتقد أن «داعش»، ولا «القاعدة»، يشكلان حالياً أي تهديد لنظام الحكم في الجزائر.
أما في المغرب، فلم يُسجّل حتى اليوم تنفيذ «داعش» لهجمات إرهابية، لكن أجهزة الأمن أعلنت عن توقيف عشرات بتهمة إنشاء خلايا بايعت التنظيم أو تأثرت بأفكاره.
وإذا كان هذا وضع «داعش» في المغرب العربي، فإن توسع التنظيم في قلب القارة الأفريقية لم يكن سلساً. ففي دول الساحل، فشل «داعش» في تحقيق اختراق مهم في مناطق نشاط فرع «القاعدة» في الصحراء، مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو، لكنه تمكن في المقابل من تحقيق خرق داخل نيجيريا. ففي مارس (آذار) 2015 أعلن زعيم «بوكو حرام» أبو بكر شيخو (شيكاو) مبايعة البغدادي الذي رد بقبولها، موسعاً بذلك نشاط «داعش» في واحدة من أهم الدول الأفريقية. لكن العلاقة بين الطرفين سرعان ما تدهورت. ففي أغسطس (آب) 2016 أعلن «داعش» تعيين أبو مصعب البرناوي زعيماً جديداً لفرعه في نيجيريا الذي نشأ على أنقاض «بوكو حرام» تحت مسمى «ولاية غرب أفريقيا»، وهو ما أثار حفيظة شيكاو الذي هاجم البرناوي ووصفه بأنه كافر، فرد أنصار الأخير بدورهم بهجوم مماثل على شيكاو. وينشط شيكاو حالياً بوصفه زعيم «بوكو حرام»، ما يعني أنه لا يتبع فرع «داعش» المحلي.
أما في الصومال، فقد سُجّل نشاط أيضاً لمناصري «داعش» الذين أعلنوا في أكثر من مرة شن هجمات وتنفيذ اغتيالات ضد مسؤولي الحكومة الصومالية. لكن نشاط «الدواعش» يظل نقطة في بحر ما يقوم به فرع «القاعدة» هناك ممثلاً بـ«حركة الشباب».
ولـ«داعش» فروع رسمية أيضاً في أكثر من دولة حول العالم، وأبرزها بلا شك فرعه في أفغانستان (ولاية خرسان) وأيضاً فرعه في الفلبين الذي سيطر لشهور على مدينة مراوي في جنوب البلاد، وأقام فيها مقراً لقيادته قبل أن يُطرد منها في معركة دامية ومدمرة.

المقاتلون الأجانب
يُضاف إلى كل فروع «داعش» الرسمية حول العالم عنصر قوة لا يُستهان به بتاتاً على رغم عدم وجود رابط فعلي مباشر، وهو ما يتمثل بمؤيدي التنظيم في أوروبا على وجه الخصوص. فقد التحق ما لا يقل عن خمسة آلاف أوروبي من بين قرابة 40 ألف مقاتل أجنبي بـ«داعش» أيام ذروة نفوذه في العراق وسوريا، في الأعوام 2014 و2015 و2016، لكن مع غلق الحدود المؤدية إلى مناطق سيطرة «داعش»، بدأ عشرات، وربما مئات، من الراغبين في الالتحاق بالتنظيم في العودة أدراجهم إلى بلدانهم الأصلية عاقدي العزم على تنفيذ هجمات إرهابية فيها. وبالإضافة إلى هؤلاء، كان هناك خليط من مناصري التنظيم المتأثرين بآيديولوجيته يحاولون تنفيذ تعليماته بخصوص شن هجمات بأي سلاح يمكن امتلاكه ولو كان سكين مطبخ. وشهدت أوروبا بالفعل عشرات الهجمات الإرهابية التي قام بها مناصرون لـ«داعش» من دون أن يكونوا أعضاء فيه، في حين حصلت عمليتان بتخطيط مباشر من قيادة «داعش» في الرقة، وذلك في باريس نوفمبر 2015 وفي بروكسل مارس 2016. وفي مقابل «الدواعش» المحليين الذين يرتبطون فقط ارتباطاً آيديولوجياً بأفكار التنظيم، لم تُسجل حتى اليوم عودة جماعية للمقاتلين الأوروبيين الفارين من سوريا والعراق، من دون أن يعني ذلك أن بعضهم ربما يكون قد نجح في التسلل وينتظر فرصة سانحة لشن هجمات في أوروبا.



الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
TT

الليبرالية في الألفيّة الثالثة

يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)
يمر ركاب بجوار صورة لمؤسس الاتحاد السوفياتي فلاديمير لينين في محطة مترو بموسكو في نوفمبر 2023 (أ.ف.ب)

تابعت طيلة سنوات إرهاصات التيّار السياسي والعقائدي الراسخ في أوساط اليسار والوسط واليمين، الذي يشكّك في قدرة الحرية وسيلةً تساعد على حل المشكلات الكثيرة التي يعزونها إلى «النيوليبرالية»، أو «الفكر الأوحد» كما درج على تسميتها فقهاء العلوم الاجتماعية والسياسية، وجعلوا منها كبش محرقة يحمّلونه كل المصائب الحاضرة والسابقة على مر التاريخ.

وليس مستغرباً أن هذا التيّار الذي يتبنّاه باحثون جهابذة من جامعات مرموقة مثل باريس، وهارفارد وأكسفورد، ويجهدون ليبيّنوا أن حرية السوق لا تؤدي سوى إلى مضاعفة ثروات الأغنياء ودفع الفقراء إلى مزيد من الفقر، وأن العولمة لا تؤتي نفعاً سوى للشركات الكبرى وتتيح لها استغلال الدول النامية وتدمير بيئتها بلا رادع أو حساب، أصبح أيضاً تيّاراً منتشراً على نطاق شعبي واسع يعتبر أن النيوليبرالية هي العدو الحقيقي للإنسان، وسبب كل الشرور التي يعاني منها، وما يصيبه من عذاب وفقر وتمييز وسوء معاملة وانتهاك للحقوق الأساسية. لكن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي نشهد فيها كيف أن نظرية مفبركة لخدمة مصالح معيّنة - اطلق عليها كارل ماركس Fetiche – تترسّخ وتؤدي إلى حدوث اضطرابات واسعة.

أنا ليبرالي، وأعرف الكثير من الليبراليين، وأكثر منهم غير ليبراليين. لكن على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟ ما الذي يدافع عنه ويناضل من اجله؟ الليبرالية، بخلاف الماركسية أو الفاشية، لا تبني صرحاً عقائدياً مغلقاً ومكتفياً بذاته من الأجوبة الجاهزة لمعالجة كل المشاكل الاجتماعية، بل هي معتقد يقوم على مجموعة محدودة نسبياً وواضحة من المبادئ الأساسية المبنية حول فكرة الدفاع عن الحرية السياسية والاقتصادية، أي الديمقراطية والسوق الحرة، ويتسع لعدد كبير من التيارات والاتجاهات.

لكن ما لم يقبله الفكر الليبرالي أبداً، ولن يقبله في المستقبل، هو هذا المسخ الذي ابتدعه أعداؤه تحت اسم «النيوليبرالية». «نيو» هو أن تكون شيئاً من غير أن تكونه، أن تكون داخل شيء وخارجه في الوقت نفسه، أن تكون على هامش فكرة أو مبدأ أو عقيدة من دون أن تتبناها كلياً. الهدف من هذا المصطلح ليس التعبير عن مفهوم قائم، بل هو استخدام الدلالة اللفظية لتشويه العقيدة التي ترمز، افضل من أي عقيدة أخرى، إلى الإنجازات الاستثنائية التي حققتها الحرية على مر تاريخ الحضارة البشرية.

هذا ما يجب علينا نحن الليبراليين أن نحتفي به بهدوء وابتهاج، وإدراك واضح لأهمية ما تمّ إنجازه، وأن ما يتبقّى علينا إنجازه أكثر أهمية. وبما أن دوام الحال من المحال، فإن الإنجازات التي تحققت خلال العقود المنصرمة في ثقافة الحرية هي عُرضة للمخاطر، وعلينا الدفاع عنها في وجه أعداء الديمقراطية اللدودين الذين خلفوا الفكر الشيوعي، مثل الشعبوية القومية والأصوليات الدينية.

بالنسبة إلى الليبراليين، كان الإنجاز الأهم خلال القرن الماضي الذي شهد الهجمات الاستبدادية الكبرى ضد ثقافة الحرية، هو أن العالم طوى صفحة الفاشية والشيوعية بعد فاصل مظلم من العنف والجرائم المشينة ضد حقوق الإنسان والحريات، وليس من مؤشر على نهوض هذه الأنظمة من رمادها في القريب المنظور.

المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر قادران على مواجهة «الغطرسة العقائدية» (أ.ف.ب)

مخلفات الأرخبيل الماركسي

لا شك في أنه ما زالت توجد بقايا من الفكر الفاشي، نجدها عند بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا التي تستقطب تأييداً متزايداً في الانتخابات، لكن هذه الفلول الفاشية ومخلفات الأرخبيل الماركسي الشاسع التي تجسدها اليوم كوبا وكوريا الشمالية، لم تعد تشكّل بديلاً يعتدّ به للديمقراطية أو تهديداً لها.

أنظمة الاستبداد ما زالت موجودة على نطاق واسع، لكن بخلاف الإمبراطوريات التوتاليتارية، تفتقر هذه الأنظمة إلى الهالة والطموحات المسكونية، لا، بل إن بعضها، مثل الصين، تسعى منذ فترة إلى التوفيق بين أحادية الحزب الواحد واقتصاد السوق والمؤسسة الخاصة. وفي مناطق واسعة من أفريقيا وآسيا، خصوصاً في المجتمعات الإسلامية، ظهرت دكتاتوريات أصولية تسببت في انتكاسات خطيرة على صعيد حقوق المرأة والتعليم والحريات الأساسية. لكن رغم الفظائع التي نشهدها في بلدان مثل أفغانستان والسودان وليبيا وايران، لم تعد هذه الدول تشكّل تحديات جدية لثقافة الحرية، وبات محكوماً عليها أن تبقى متخلفة عن ركب الحداثة التي قطعت فيه الدول الحرة شوطاً بعيداً.

إلى جانب ذلك، شهدت العقود الماضية تقدماً كاسحاً لثقافة الحرية في مناطق شاسعة من أوروبا الوسطى والشرقية، وبلدان جنوب شرقي آسيا وأميركا اللاتينية، حيث وصلت إلى السلطة حكومات مدنية منتخبة، باستثناء كوبا وفنزويلا، تطبّق سياسات أقرب إلى الاقتصاد الحر منها إلى البرامج التدخلية التي كانت سائدة في السابق.

ورغم وجود بعض الأصوات الماضية في عوائها ضد «النيوليبرالية»، نلاحظ أن معظم هذه البلدان لم تجد مفراً من اعتناق سياسات الخصخصة، وفتح الأسواق، وتحرير الأسعار والسعي إلى إدماج اقتصاداتها في الأسواق الدولية، بعد أن أدركت أن السير بعكس هذا التيار هو ضرب من الانتحار.

وليس أدلّ على ذلك من جنوح قسم كبير من اليسار في أميركا اللاتينية إلى تبنّي الموقف الصائب الذي اتخذه فاكلاف هافل عندما قال: «رغم أن فؤادي يميل إلى اليسار، لكني كنت دوماً على يقين من أن السوق هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يؤدي إلى الرفاه؛ لأنه النظام الوحيد الذي يعكس طبيعة الحياة».

هذه التطورات لها أهميتها وتضفي مصداقية تاريخية على الفكر الليبرالي، لكنها ليست على الإطلاق سبباً للتقاعس؛ لأن الليبرالية تقوم على مبدأ أساسي يعتبر أن التاريخ هو صنيعة الفعل البشري، وأن الإنسان الذي يصيب في اتخاذ القرارات التي تدفعه في المسار الصحيح، يمكن أيضاً أن يخطئ وتدفعه نحو الفوضى والفقر والظلام والبربرية. إن أفكارنا، وأصواتنا التي نختار بها من يصل إلى الحكم، هي التي تحدد مصير الإنجازات التي تحققت في ثقافة الحرية والديمقراطية.

إن معركة الليبراليين من أجل الحرية على مر التاريخ، هي معركة أفكار. انتصر الحلفاء في الحرب على المحور، لكن ذلك النصر أكّد تفوّق رؤية التعددية والتسامح والديمقراطية على الرؤية العنصرية الضيقة. وانهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب الديمقراطي «الذي كان مكتوف الأيدي، لا، بل غارقاً في شعور بالدونيّة بسبب قلّة جاذبية المنبر الديمقراطي مقارنة بوهج المجتمع اللاطبقي الموعود»، أظهر صواب أفكار آدم سميث وتوكفيل وبوبر وبرلين حول المجتمعات المفتوحة والاقتصاد الحر في مواجهة الغطرسة العقائدية لماركس ولينين وماو تسي تونغ.

مع انهيار الاتحاد السوفياتي أمام الغرب تأكد تفوق «التعددية والتسامح» (أ.ف.ب)

معركة ضد المسخ

قد تكون معركة اليوم أقل صعوبة بالنسبة لليبراليين من تلك التي خاضها معلمونا في المجتمعات الديمقراطية خلال حقبة أنظمة الاستبداد والحزب الواحد التي كانت تمدّ أنصارها بكل وسائل الدعم. معركتنا اليوم ليست ضد كبار المفكرين مثل ماركس، أو الاشتراكيين الديمقراطيين اللامعين مثل كينز، بل هي معركة ضد الأفكار النمطية والصور المشوهة عن هذا المسخ المسمّى نيوليبرالية، التي تهدف إلى بث الشكوك والالتباس في المعسكر الديمقراطي، أو ضد المفكرين التشكيكيين الذين ينكرون الثقافة الديمقراطية ويعتبرون أنها ليست سوى ستارة تخفي وراءها الاستبداد والاستغلال.

يقول روبرت كابلان في أحد بحوثه: «إن الديمقراطية التي نشجّع على إرسائها في الكثير من المجتمعات الفقيرة في العالم ليست سوئ جزء لا يتجزأ من التحول نحو أنماط جديدة من الاستبداد، والديمقراطية في الولايات المتحدة هي اليوم في خطر أكثر من أي وقت مضى، لأسباب غامضة أو مخفية، وأن أنظمة كثيرة في المستقبل، والنظام الأميركي بشكل خاص، قد ينتهي بها الأمر على غرار الأنظمة الأوليغارشية التي كانت سائدة في أثينا وإسبرطة».

على مر سنوات أصبحت اليوم طويلة، لم أتعرّف بعد على نيوليبرالي واحد. ما هو هذا النيوليبرالي؟

هذا تحليل متشائم جداً بالنسبة لاحتمالات ترسّخ الديمقراطية في مجتمعات العالم الثالث. وهو يعتبر أن كل المحاولات الغربية لفرض النظام الديمقراطي في البلدان التي تفتقر إلى التقاليد الديمقراطية قد باءت بفشل ذريع وباهظ التكلفة كما حصل في كمبوديا، وتسببت بالفوضى والحروب الأهلية والإرهاب والتطهير العرقي وإبادة الأقليات الدينية في بلدان مثل السودان، والبوسنة، وأفغانستان، وسيراليون، والكونغو، ومالي، والبانيا وهاييتي وغيرها.

السيد كابلان لا يضيّع وقته باللعب على حبال الكلام، ويقول بوضوح إن الديمقراطية والعالم الثالث على طرفي نقيض «الاستقرار الاجتماعي ينشأ من إقامة طبقة متوسطة. وليست هي الأنظمة الديمقراطية، بل تلك التسلطية، بما فيها الملكية، هي التي تقيم الطبقات الوسطى». هذه الطبقات، عندما تبلغ درجة معينة من الرفاه والثقة، تتمرد على الأنظمة التي وفَّرت لها هذا الرفاه. ويضرب على ذلك أمثلة من الحوض الهادئ في آسيا مسلطاً الضوء بشكل خاص على سنغافورة لي كوان يو، وتشيلي بينوتشيه وإسبانيا فرنكو. ويعتبر كابلان أن الخيار المطروح أمام العالم الثالث ليس بين «الطغاة والديمقراطيين»، بل هو مفاضلة بين «طغاة أشرار وآخرين أقل شراً»، ويرى «أن روسيا فشلت لأنها ديمقراطية، بينما الصين تفلح جزئياً لأنها ليست ديمقراطية».

توقفت عند هذا الطرح لأن السيد كابلان يقول صراحة ما يضمره كثيرون غيره. إن تشاؤمه حيال العالم الثالث كبير، لكنه ليس بأقلّ منه حيال العالم الأول. فهو يعتبر أن البلدان الفقيرة التي، حسب نظريته، تنشأ فيها الطبقات المتوسطة بفضل أنظمة الاستبداد الفاعلة، تريد اعتناق النظام الديمقراطي على الطراز الغربي، لن يكون ذلك سوى سراب وضرب من الخيال، تتحكم بحكوماتها الشركات العالمية الكبرى الناشطة في القارات الخمس، وتفرض عليها القرارات الأساسية، تنفّذها من غير محاسبة أو مساءلة. ولا ينسى السيد كابلان تذكيرنا بأن أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول، وأن أقوى 500 مؤسسة تسيطر وحدها على 70 في المائة من حركة التجارة العالمية.

أكبر مائة اقتصاد في العالم نصفها من الشركات وليس من الدول (أ.ب)

حرية على مشارف الاحتضار

هذه النظريات تشكّل نقطة انطلاق مناسبة لمقارنتها بالرؤية الليبرالية للمشهد العالمي؛ لأنها لو صحّت، تكون الحرية على مشارف الاحتضار بعد أن كانت مصدر إنجازات استثنائية في مجالات العلوم وحقوق الإنسان والتطور التقني ومكافحة الاستبداد والاستغلال، رغم الاضطرابات الكثيرة التي تسببت بها. لو كان صحيحاً ما يقوله كابلان أن الأنظمة الدكتاتورية هي التي تقيم الطبقات الوسطى، لما كانت جنّة هذه الطبقات في الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، وكندا، وأستراليا ونيوزيلندا، بل المكسيك، وبوليفيا والبارغواي التي تعاقبت عليها أنظمة الاستبداد العسكرية والمدنية.

في الأرجنتين على سبيل المثال، قضى الدكتاتور بيرون على الطبقة الوسطى التي كانت، حتى وصوله إلى السلطة، عريضة ومزدهرة ونجحت في تنمية البلاد بوتيرة أسرع من معظم الدول الأوروبية. وفي كوبا فشلت الديكتاتورية بعد ستة عقود في تحقيق أدنى مستويات الرفاه، وأجبرت الكوبيين على توسل المساعدات الدولية واستجداء فتات سياح الرأسمالية لمكافحة الجوع وضيق العيش. وكلنا يعرف اليوم المصير الذي آلت إليه معظم «النمور الآسيوية» بعد الطفرة الأولى السريعة، عندما اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين، والولايات المتحدة، واليابان وأوروبا الغربية.

نحن الليبراليين، بعكس السيد كابلان، لا نؤمن بأن القضاء على الشعبوية الاقتصادية يحقق نمواً أقل للمجتمع، إذا ترافق مع تحرير الأسعار وخفض الإنفاق وخصخصة القطاع العمومي، في الوقت الذي يعاني المواطن انعدام الأمن وقمع الحريات والتعرّض للتعذيب ومحاصرة السلطة القضائية التي يلجأ اليها طلباً للانتصاف.

التطور، بالمفهوم الليبرالي، يجب أن يكون اقتصادياً وسياسياً وثقافياً في آن معاً، أو لا يكون؛ وذلك لسبب أخلاقي، وأيضاً عملي: أن المجتمعات المنفتحة، التي يسودها القانون وتحترم حرية الرأي، محصّنة أكثر من غيرها في وجه الأزمات والاضطرابات.

كم هو عدد أنظمة الاستبداد الفاعلة التي شهدها العالم منذ أواسط القرن الفائت إلى اليوم؟ وكم هي تلك التي أغرقت بلدانها في العنف والتوحش والدمار؟ هذه الأخيرة تشكل الأغلبية الساحقة، أما الأولى فهي الاستثناء. أليس من التهوّر الرهان على وصفة الاستبداد وأن يكون المستبد صالحاً وعابراً؟ ألا توجد سبل أخرى أقل خطورة وقسوة لتحقيق التنمية؟ قطعاً توجد، لكن السيد كابلان يرفض أن يراها.

ليس صحيحاً القول إن «ثقافة الحرية» اقتضت نَفساً طويلاً في البلدان التي ازدهرت فيها الديمقراطية، كما حصل في جميع الأنظمة الديمقراطية الحالية التي اعتنقت هذه الثقافة وراحت تطورها لتبلغ بها المستويات التي وصلت اليوم إليها. الضغوط والمساعدة الدولية يمكن أن تشكل عاملاً أساسياً يدفع مجتمعاً معيناً لاعتناق الديمقراطية، كما تبيّن من حالتي ألمانيا واليابان اللتين انضمتا إلى ركب الدول الديمقراطية الأكثر تطوراً في العالم بعد الحرب. ما الذي يمنع دول العالم الثالث، أو روسيا، من اعتناق ثقافة الحرية على غرار ألمانيا واليابان؟

حتى معظم «النمور الآسيوية» اضطرت إلى الاستغاثة على أبواب صندوق النقد والبنك الدوليين (إ.ب.أ)

التسامح والتعددية والقانون

إن العولمة، خلافاً لاستنتاجات السيد كابلان المتشائمة، هي فرصة سانحة أمام الدول الديمقراطية في العالم، خصوصاً تلك الأكثر تطوراً في أميركا وأوروبا، كي تساهم في توسيع دائرة ثقافة الحرية المرادفة للتسامح والتعددية والقانون، إلى الدول التي لا تزال رهينة التقاليد الاستبدادية التي، لا ننسى، أن أحداً لم يسلم منها على مر تاريخ البشرية. لذلك؛ لا بد من شرطين أساسيين:

1 - الإيمان الراسخ بتفوق هذه الثقافة على تلك التي تبيح التعصب والعنصرية والتمييز الديني أو العرقي أو السياسي أو الجنسي.

2 - اعتماد سياسات اقتصادية وخارجية تشجع التوجهات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، وتعاقب الأنظمة التي تتبنى المبادئ الليبرالية في الاقتصاد والدكتاتورية في السياسة. لكن من أسف، وبعكس ما ينادي به كابلان، هذا التمييز الإيجابي لصالح الديمقراطية الذي حقق منافع جمّة في بلدان مثل ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية، لا تطبقه الدول الديمقراطية اليوم مع بقية البلدان، أو تمارسه بنفاق واستنسابية.

لكن لعل الظروف الراهنة تشكّل حافزاً أكبر للدول الديمقراطية كي تتصرف بمزيد من الحزم لدعم ثقافة الحرية، إذ يقف العالم على شفا تحقق توقعات السيد كابلان بقيام حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها الشركات الكبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع، وهي توقعات تشكل خطراً حقيقياً لا مفرّ من إدراكه والتعامل ومعه. إن انتفاء الحدود الاقتصادية وتكاثر الأسواق العالمية يحفزان الاندماج والتحالفات بين الشركات لزيادة القدرة التنافسية في جميع مجالات الإنتاج، وقيام مؤسسات عملاقة لا يشكّل بحد ذاته خطراً على الديمقراطية، طالما توجد قوانين عادلة وحكومات قوية «ليس شرطها أن تكون كبيرة، بل صغيرة وفاعلة» تضمن تطبيقها.

الاقتصاد الحر، المنفتح على المنافسة، يستفيد فيه المستهلك من الشركات الكبرى؛ لأن ضخامتها تتيح لها خفض الأسعار ومضاعفة الخدمات التي يحصل عليها. والخطر لا يكمن في حجم الشركة، بل في الاحتكار الذي هو دائماً مصدر للفساد وانعدام الكفاءة. وما دامت توجد حكومات ديمقراطية تسهر على إنفاذ القوانين، أياً كان مخالفوها، وتمنع الاحتكار وتحافظ على الأسواق مفتوحة على المنافسة، تبقى الشركات الكبرى هي الرائدة في التطور العلمي والتكنولوجي لفائدة المستهلك ومصلحته.

 

 

يقف العالم على شفا حكومة عالمية غير ديمقراطية تديرها شركات كبرى من غير رادع في جهات الدنيا الأربع

من هذا الواقع يستخلص كابلان الاستنتاج المتشائم التالي: الديمقراطية ذاهبة إلى مستقبل قاتم؛ لأن الشركات الكبرى في هذه الألفية الثالثة سوف تتصرف في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على غرار ما كانت تفعل في بلدان العالم الثالث، أي بلا روادع أو محاسبة.

لكن هذا الاستنتاج لا يستند إلى أي حجة تاريخية تسوّغه. وما نراه، نحن الليبراليين، هو أن بلدان العالم الثالث التي تخضع اليوم لأنظمة استبدادية، لا بد أن ترتقي نحو الديمقراطية، وتكرّس سيادة القانون والحريات التي تلزم الشركات الكبرى التي تنشط على أراضيها باحترام قواعد العدالة والاستقامة التي تلتزم بها في الديمقراطيات المتطورة. العولمة الاقتصادية يمكن أن تتحول خطراً يهدد مستقبل الحضارة، والبيئة العالمية، إذا لم تخضع لقواعد العولمة القانونية. ومن واجب الدول الكبرى تشجيع العمليات الديمقراطية في بلدان العالم الثالث لأسباب مبدئية وأخلاقية، ولأن انتفاء الحدود يقتضي أن تخضع الحياة الاقتصادية لقواعد الحرية والمنافسة التي تعود بالمنفعة على جميع المواطنين، وأن تخضع للمحفزات والروادع نفسها التي يفرضها عليها المجتمع الديمقراطي.

أعرف جيداً أنه ليس سهلاً تحقيق كل ذلك. لكن بالنسبة إلينا بصفتنا ليبراليين هذا هدف ممكن، وفكرة العالم متحداً حول ثقافة الحرية ليست مجرد سراب أو حلم، بل هي واقع يستحق كل الجهد لتحقيقه، وكما قال كارل بوبر أحد أفضل أساتذتنا: «التفاؤل واجب. والمستقبل ليس مكتوباً، ولا أحد بوسعه أن يتنبأ به سوى من باب الصدفة. جميعنا نساهم بأفعالنا في تشكيل معالمه، وبالتالي كلنا مسؤولون عمّا سيحدث».