كمال العيادي: الغرب يريد كتابا «باعة بهارات».. والكتاب صار قفص دجاج

كنا نترجم في القرن الثاني للهجرة ضعف ما ترجمنا في القرن العشرين

كمال العيادي
كمال العيادي
TT

كمال العيادي: الغرب يريد كتابا «باعة بهارات».. والكتاب صار قفص دجاج

كمال العيادي
كمال العيادي

* ما سر غربتك الطويلة والمبكرة خارج الوطن؟ هل كانت هروبا من القيود أم بحثا عن ماذا؟
- خرجت من تونس منذ ربع قرن تزيد سنة، وقبلها خرجت من القيروان، مدينتي العجوز القاسية الملهمة، إلى العاصمة تونس، ضيقا بنسيج أسئلتي المحرجة عن الأصول والماهية والمنابع.
بدت لي المدرسة الصوفية القيروانية أضيق من تسارع أنفاسي ودهشتي البكر التي لا يشبعها غير الأفق الرحب الممتد والمفتوح على أكثر من واجهة. فكان أن سلمتني هذه الرغبة المتوحشة للمعرفة إلى آفاق أبعد. فكان نداء المثالية الماركسية التي تداعت وتهشمت سريعا ومنذ السنوات الأولى لي بموسكو، وضربت من جديد في أرض الله الحرة. وكان لا بد لي من عشرين سنة في ميونيخ، عاصمة الشر والاقتصاد والفلسفة الألمانية، ومختبر هتلر نفسه. ولكنني انتهيت مجددا إلى قناعة ويقين بأن ما ينقص الأخضر ليكون شجرة هو نفسه ما ينقص ألمانيا لتكون موطني ومسكني، حيث أبيض وأبني لي بها عشا. ولم أكن في حاجة لملهم لأعرف أن القاهرة هي وجهتي المقبلة. ولكن الله زاد في إكرامي بأن أرسل ملهمة تؤمن بي وتناديني منذ ربع قرن بالكينغ. وكانت القاهرة مستقري (منذ أربع سنوات). وأتصور أن حياة واحدة لا تكفي لأباغت يوما بنداء الرحيل من جديد.
* «سردوك»، و«المربوع»، و«باريسا»، و«رحلة إلى الجحيم»، أعمال متميزة تحمل توقيعك، أيها أقرب إلى نفسك؟ وهل يمكن اعتبار «رحلة إلى الجحيم» أقرب إلى سيرة ذاتية؟
- أرتاح بصراحة لاستعمال ضمير المتكلم حين أكتب. وهذا مشروع وطبيعي. وهو الأقرب لمنطق من يريد الإقناع بتحريك شخوصه وجعلهم يتقاطعون في عوالم ممكنة وقريبة من الواقع. وأنا أتقاطع مع شخوصي وأومن بها ولا أحقد عليها، ولا يؤذيني أن أمنحها ضميري لتتكلم به وتخربط من خلاله بين الدمعة والضحكة. هذا كل ما في الأمر. أما عن السيرة الذاتية فأنا أحتقر كل كاتب يكتب سيرته الذاتية وهو لم يكمل نصف مشروعه بعد. من حقه أن يكتب سيرة ذاتية ولكن لا ينشرها في كتاب تام وشاهد عليه. من يكتب سيرته الذاتية فهو يكتب وصيته، وعليه أن ينزاح قليلا ليترك مكانه لمن هو في طور عيش، وممارسة سيرته الذاتية التي تنتهي بموته أو تقاعده. أنا أدعو كل كاتب يكتب سيرته الذاتية بإلحاح إلى أن يستقيل قبل ذلك، ويعلن رسميا أن حبره جف ومنابعه يبست. أما أنا فلا دخل لي بالسيرة الذاتية.
ما زال قدامي نصف عمر كامل وأصر عليه. وأنا أبدأ ككاتب حقيقي صبيحة كل مرة يصدر لي فيها كتاب. طبعا، لا علاقة لي بشخوصي، غير أنني خالقها ومحركها ومخرجها من الظلمات إلى النور ومسارح الحياة، رغم أن فيها بطبيعة الحال من سخطي ومن نفسي ومن روحي الكثير. تقاطعا إيجابيا حينا وعكسيا حينا آخر.
* إلى أى مدى تمثل الكتابة الأدبية عن نصوص أجنبية تحديا للكاتب عن الإبداع الخاص ؟ وكيف يهرب من خطر الذوبان فى شخصية صاحب النص الأصلى ؟
- هناك الكاتب وهناك المستكتب. المستكتب جمعه مستكتبون, وهم (كتاّب عموميّون) ومفرده (كاتب عمومي) وهذا طبعًا معرضّ لأن يكون لصًا أو مختلسًا أو في أفضل الأحوال معرض لأن يكون ضحية الإعتداء عليه من طرف الكتاب الكبار الحقيقيون ليتلبسوه ببصمتهم ورائحتهم وأسلوبهم ومرحهم أو تجهمهم, فهؤلاء الطبقة هم من قماش سردي أو شعري شفاف, يظهر ببساطة ويفضح من وراءهم أما النوع الثاني من الكُتّاب, فهم غيلان حقيقيون. لا يتأثرون بأي بصمة أخرى ولا تركب عليهم، بالعكس هم حين يتأثرون بجملة ما أو صورة ما فهم يضيفون إليها.
* كيف تقيم جهود الترجمة في العالم العربي؟ وهل هناك توازن مع الترجمة عن الأعمال العربية في الخارج؟
- بصراحة، حركة الترجمة عندنا ملف مخجل ومربك. أنا أشعر بالشفقة والحزن حين أقرأ أن بلدا صغيرا في حجم علبة السردين مثل إسرائيل يترجم سبعة أضعاف ما يترجم في كل البلدان العربية، وأن بلدا صغيرا جدا مثل النمسا أو حتى ألمانيا، يترجم ثلاثة ملايين عنوان لعمل فني وأدبي في السنة، بين السينما، والبرامج التلفزيونية، وكتب للأطفال، والروايات. بينما نجد أننا لا نكمل العشرة آلاف عنوان في أفضل الحالات. وأضيفي إلى ذلك أن الأغلبية من السادة المترجمين المحترمين، يتحايل ويترجم عن لغة واحدة يتقنها من كل آداب العالم. وبصراحة أنا أنظر بريبة لكل من يترجم عملا إبداعيا عن لغة وسيطة ليست لغته. أنا أعرف من يترجم كل ستة أشهر عملا من لغة جديدة وعملا ضخما فوق ذلك. وفي اعتقادي أن صمته وموته أفضل للأجيال المقبلة من آثار هذه الجرائم. أنا ترجمت لبوشكين وليرمانتوف وكريلوف وغيرهم، لأنني أحسست بحرقة أن أقرأ آثارا تشبه عيون نصوصنا، مثل «كليلة ودمنة» والقرآن و«الأغاني» وغيرها، وهي كتب مترجمة منذ بداية القرن الخامس عشر للروسية، عن طريق المشروع المسيحي الأترودوكسي الكبير في عهد العائلات القيصرية وبداية التجارة مع الشرق. وأحيانا أحتاج لشهر كامل من العمل اليومي من أجل ترجمة قصيد واحد. فكيف يمكن لأحدهم ترجمة كتاب ضخم في ألف صفحة في شهرين؟ وعن لغة لا يتقنها أصلا؟ كل هذا وما زلنا نحبو، رغم أننا كنا في القرن الثاني للهجرة مثلا، نترجم ضعف ما يترجم الآن في القرن العشرين.
* بأي عقل تفكر وأنت تكتب نصا عن لغة أجنبية إلى العربية؟ هل تفكر بالألمانية مثلا أو الروسية أو بلغتك العربية؟
- أفكر وأكتب باللغة العربية في أغلب الأحوال، رغم أنني أحلم كثيرا بالروسية والألمانية. وأفكر طبعا بالألمانية حين يكون خطابي موجها لعقلية ألمانية وقارئ ألماني. ولا تنسي أنني عشت في ألمانيا أكثر بكثير مما عشت في تونس. لكن الأصل هو العربية وهي منابعي ومرجعيتي دائما.
* رغم خلفيتك التونسية ذات الثقافة الفرنسية، لماذا اخترت اللغة الروسية والألمانية؟ وما الذي يميز الكتابات الأدبية في تلك اللغات لمن لا يعرفها؟
- الروسية اخترتها عن قناعة، ودرستها في تونس في المركز الثقافي الروسي وأنا في بداية حياتي. وكان ذلك السبب الذي من أجله وافقوا على تمكيني من منحة سخية للدراسة في روسيا. وقد عشقت حد الهيام هذه اللغة الفاتنة وإلى حد اليوم وبعد ربع قرن من عدم تطبيقها عمليا في كلامي. فأنا أحبذ أن أعبر بعبارة بالروسية حين أتناقش مع زوجتي ورفيقة الدرب، الروائية الكبيرة د. سهير المصادفة التي تتقن الروسية بشكل جيد أيضا. وبالمناسبة اللغة الروسية قريبة جدا في عمقها وثرائها وحميميتها ومبالغاتها من اللغة العربية. أما الألمانية، فقد فرضت علي بصراحة، لأنني حملت جسدي معي كمهاجر هناك في ميونيخ. وكان لا بد لأعيش وأدرس أن أتعلم لغتهم بشكل جيد. والحقيقة أنني اكتشفت عمقها وصرامتها بعد سنوات طويلة من سنوات الجامعة.
* من واقع تجربتك في الغربة، هل يجيد الآخرون التفكير بالأدب العربي؟ بمعنى هل يجد مكانته اللائقة في الغرب؟
- نحن بعيدون سنوات ضوئية عن الغرب، وجدلية الشرق والغرب ما زالت أهم موضوع يشغل الغرب في تطلعاته وانتظاراته للترجمات من العربية، وتثير اهتماماته. ما زال الطيب صالح الروائي المفضل لديهم، لأن لغته طريفة ومفهومة. وما زالوا يريدون باعة بهارات مثل رفيق شامي، وعلاء الأسواني، وينفخون في صورهم ويملؤون كبدهم وأفواههم بالمال والعقود حتى يغروا البقية، ويدجنونهم. وهذا ما يحدث للأسف، حتى عاد الكتاب مثل دجاج الأقفاص الأبيض، أو مثل البيض، كل بيضة تشبه الأخرى، لأنهم يكتبون حسب مطالب الغرب وانتظاراته. من يريد موقفا إنسانيا مع اليهود، ويريدنا وكأننا حيوانات أليفة تقفز وتنط كالنسانيس، وربعنا شهريار والربع الآخر شهرزاد والربع الثالث مسرور السياف، والبقية شخوص ضائعة وخواطر بشرية في مستنقع الرذيلة والسخط أو الإيمان الضال وهكذا.
* وصفوا أعمالك بـ«التعدد الباذخ»، بسبب تنوع إبداعاتك كقاص ومسرحي وشاعر وصحافي. فأين تجد نفسك بين هذه الدروب الإبداعية؟
- أنا غير مخلص لجنس إبداعي واحد. وهذا عيب أقر به، لكن الشعر والسرد هما أكثر ما يشدني ويغريني وخاصة السرد نهارا والشعر ليلا.
* كيف ترى المبدعة العربية وهل لازالت متخلفة فى الركب عن الرجال فى العالم العربى ولماذا ؟ وهل تعانى المرأة الغربية من نفس الإشكالية ؟
- قبل المطالبة بتحرير المرأة العربيّة والكاتبات العربيات بالأخص من ضيق الحصار والشوفينية التي تمارس على إبداعها وخاصة إذا كانت تمسّ التابوهات, علينا بالمطالبة بتحرير عقلية الرجل الشرقي المرضيّة, علينا إعادة توزيع الأدوار, ولنبدأ مثل الغرب من المدرسة,هذا ما ناديت به دائمًا .
* من واقع تجربتك الخاصة فى المهجرهل تعتقد أنه عندما تجبر الظروف المبدع على الهروب خارج الوطن فإنه يبدع أكثر ؟
- أعتقد أن تجربة المهجر, تزيد طينة المبدع صلابة, وتفتح أمامه آفاقًا جديدة ومتنوعة وثرية, لكنه شرط غير ضروري للمبدع, وأغلب المبدعين الكبار مثل ليرمانتوف ورامبو والشابي وليركه وطاغور والماغوط وغيرهم لم يعيشوا تجربة المهجر, لكنهم أبدعوا بشكل فاتن وهم في غربة أنفسهم وأوطانهم الضيقة ومع فساد حكامهم وقسوة حياتهم. الأمر محسوم.. إذا كنت مبدعًا, فأنت ستبدع ولو كنت في سجن منفرد في أقصى الدنيا, وإذا كنت مغشوشًا, فلن يفيدك شيء، ولن يُنتظر منك شيء.
* بعد صدور «غابة الخبز» و«رحلة إلى الجحيم» ما جديد إصدارات كمال العيادي؟
- تصدر لي قريبا أربعة أعمال مهمة: الأولى هي روايتي ومشروعي ورهاني الأكبر، التي ستنشر في أكثر من ألف صفحة على جزأين. والعمل السردي الثاني هو «مذكرات بلبل». والعمل الثالث هو «اعترافات الفتى القيرواني الشقي». والعمل الرابع والمهم هو سلسلة كبيرة من كتب الأطفال المترجمة عن الروسية والألمانية. وستصدر عن إحدى أكبر دور النشر العربية قريبا جدا. فضلا عن مجموعة «أرواح هائمة» التي صدرت منذ أيام قليلة عن المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة.



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.