كالفينو: ما نراه في الخارج قائم أساساً في دواخلنا

«مدن لا مرئية»: ديوان شعري تحكمه مخيلة جامحة

كالفينو
كالفينو
TT

كالفينو: ما نراه في الخارج قائم أساساً في دواخلنا

كالفينو
كالفينو

يُعدّ هذا الكراس الصغير الذي ألفه الأديب الإيطالي الراحل إيتالو كالفينو «مدن لا مرئية» أجمل ما أنجزه، وفيه يختلق لقاءات منتظمة تجري بين الرحالة الإيطالي الشهير ماركو بولو والإمبراطور التتري قبلاي خان الذي كان قصره الملكي آنذاك في الصين.
تدور أحداث «مدن لا مرئية» عن رحلات كان الرحالة الإيطالي ماركو بولو يقوم بها إلى مدن تنتمي إلى إمبراطورية قبلاي خان المترامية الحدود تنفيذا لأوامره، ليعود بعد ذلك واصفا إياها له، لكن ما ينقله بولو هو مزيج من أحلام وانطباعات وتوجسات تلبستها الأمكنة. وإذا كان الإمبراطور حريصا على توسيع إمبراطوريته ويعرف مدنها من خلال الأطلس فقط فإن ماركو بولو كان يرى في ذلك العالم الساحر اختفاء متواصلا لإمبراطوريته عبر التفسخ المتواصل الذي تتركه بصمات الزمن على مدنها.
يحتج قبلاي خان ذات مرة غاضبا على أحاديث ماركو بولو، فما كان يسمعه من مفتشيه عن إمبراطوريته شيء آخر تماما لا يمت بصلة لما ظل الرحالة الإيطالي يردده: إن إمبراطوريته تتفسخ تدريجيا. يقول بولو مدافعا عن نفسه: «أنا أعرف ذلك ولكن عملي مختلف عن عمل موظفيك. إنه السعي لمسك هذا الجمال الذي في طوره للانقراض ونقله إليك».
لكن كالفينو في كتابه لم يفعل شيئاً سوى نقل مدينة واحدة تتلبسها مدن كثيرة: إنها فينيسيا التي ينتمي إليها ماركو بولو وكالفينو نفسه. في هذه المدينة يكتشف الكاتب مدنا كثيرة، وفي كل منها هناك سر غامض يجب كشفه، وعن طريق تكسير الفصول إلى شذرات صغيرة تحت عناوين باهرة من نوع: المدن والرغبات، المدن والذاكرة، المدن والإشارات، المدن التجارية، المدن المخفية، المدن المستمرة، المدن والسماء، المدن والموتى، المدن والأسماء… يظهر أمامنا عالم محفوف بالسحر وتتضح الأواصر اللامتناهية بيننا وبين المدن التي نعيش فيها. وكأن كالفينو يمنح القارئ دليلا يساعده هو الآخر على استقصاء محيطه الخاص بطريقة سحرية. يقول كالفينو على لسان بطله الفينيسي إن المدن على قناعة بأنها نتاج للعقل أو الصدفة لكن لا أحد من هذين العاملين كاف لوحده لتشييد جدرانها. أنت تستمتع لا بعجائب المدينة السبع أو السبعين بل في الإجابة التي تقدمها لك المدينة عن سؤال ما من أسئلتك. أو السؤال الذي تسألك إياه لتجبرك على تقديم إجابة له مثلما هو الحال مع مدينة طيبة التي سالت أوديب على لسان وحشها أبي الهول.
في إحدى الصفحات يتحدث ماركو بولو للإمبراطور قبلاي خان عن كيفية نشوء تلك المدينة التي زارها قبل فترة قصيرة من عودته إلى البلاط الملكي: «من هناك وبعد ستة أيام وسبع ليال تصل إلى زبيدة المدينة البيضاء المتشربة بضوء القمر بشوارعها التي تلتف حول نفسها كخصلة من الخيوط».
يمضي بولو في نقل تاريخ مدينة زبيدة: «شاهد رجال ينتمون إلى بلدان مختلفة حلما واحدا: كانت هناك امرأة تركض ليلا وسط مدينة مجهولة. كانوا يرونها من الخلف بشعر طويل. وكانت عارية. فراحوا يطاردونها. وبعد استدارات والتواءات عديدة فقد كل منهم أثرها… بعد الحلم انطلقوا بحثا عن تلك المدينة لكنهم لم يعثروا عليها أبدا. بدلا من ذلك وجد أحدهم الآخر؛ قرروا أن يبنوا مدينة تشبه تلك التي شاهدوها في الحلم. قام كل منهم بفتح طريق شبيه بذلك الذي اتبعه في تعقب تلك المرأة خلال حلمه، ثم راح يسير فيه. وفي نقطة فقدانهم للمرأة نصبوا فراغات وجدرانا مختلفة عن الحلم لقطع الطريق عليها كي تهرب ثانية».
هذه هي مدينة زبيدة التي استقر هؤلاء الرجال فيها منتظرين تكرر المشهد، إذ لم يتمكن أي منهم النوم منذ مشاهدته للحلم. وكل ما قام به كل منهم هو الذهاب اليومي إلى الطريق الذي ظهرت له المرأة فيه، وهناك أصبح الطريق هو موقع عمله حتى بعد نسيانه للحلم بفترة طويلة.
«رجال آخرون جاءوا إلى زبيدة بعد أن شاهدوا نفس الحلم، وفي هذه المدينة اكتشفوا شيئاً يمت بصلة للمكان الذي ظهرت فيه المرأة لهم. لكنهم قاموا بتغيير القناطر والسلالم في مدينة زبيدة بجعلها تشبه الطريق الذي اتبعوه عند تعقبهم لها كي يضمنوا أنها في موقع مشاهدتهم لها لن يكون هناك أي مجال للهرب أمامها».
من يأتي الآن إلى مدينة زبيدة «لا يستطيع أن يفهم سبب قدوم كل هؤلاء الرجال إليها… هذه المدينة القبيحة؛ هذه المدينة الفخ».
كتاب «مدن لا مرئية» ديوان شعري تحكمه مخيلة جامحة وكل المدن هي ذات صلة بأحوال نفسية وأحوال تاريخية، بإمكانات مفتوحة وتحولات أزلية. إنه سِفْر مكثف لعالم محيط بنا لكنه يمتد أيضا إلى ذواتنا. وكأن جملة غوته تتحقق فيه: «ما نراه في الخارج هو قائم أساسا في دواخلنا».
- روائي عراقي مقيم في لندن



بينالي أبو ظبي... التوقيع بالفن على المساحات العامة

عمل الفنانة عزة القبيسي (بينالي أبوظبي للفن عام 2025 - 2024 © لانس جربر)
عمل الفنانة عزة القبيسي (بينالي أبوظبي للفن عام 2025 - 2024 © لانس جربر)
TT

بينالي أبو ظبي... التوقيع بالفن على المساحات العامة

عمل الفنانة عزة القبيسي (بينالي أبوظبي للفن عام 2025 - 2024 © لانس جربر)
عمل الفنانة عزة القبيسي (بينالي أبوظبي للفن عام 2025 - 2024 © لانس جربر)

ضمن خطة طموح تهدف إلى إدخال الفن إلى المساحات العامة أطلقت أبوظبي النسخة الافتتاحية من بينالي أبوظبي للفن العام، وتستمر حتى 30 أبريل (نيسان) المقبل. ومع اليوم الأول أتيح للجمهور معاينة كثير من الأعمال التركيبية على الكورنيش، وفي الحدائق، وفي واحة العين وأيضاً ضمن المباني المهمة في أبوظبي، وكأن الأعمال الفنية تضع توقيعها على المساحات العامة لتضفي عليها وهجاً مجتمعياً خاصاً يخرج بها عن صورتها اليومية المعتادة.

«النهر الحضري» للفنان قادر عطية في بينالي أبوظبي للفن عام 2025 - 2024 © لانس جربر

في أثناء المشي على كورنيش أبوظبي والاستمتاع بنسائم البحر والأجواء اللطيفة في هذا الوقت من العام، لا يملك المرء إلا التوقف أمام تشكيلات فنية جاذبة للعين والانتباه. خلال جولة سريعة نزور محطة الحافلات التي بنيت في عام 1986، وتعد واحدة من أقدم المباني في المدينة، وهنا أيضاً نرى الأعمال المختلفة سواء في خارج المحطة أو في داخلها، أما في سوق السجاد فهناك مفاجأة ضخمة صنعها فنان برازيلي، ونسج فيها قصصاً وذكريات لأصحاب المحال المجاورة.

تنقسم مساحات عرض البينالي إلى 8 دروب كما يطلق عليها، تضمنت أعمالاً لأكثر من 70 فناناً من الإمارات، ومن دول مختلفة حول العالم. أما ما يجمع بينها فهو ببساطة المدينة نفسها، فالأعمال تشترك في استكشاف الظروف البيئية للمدينة وأسلوب الحياة المجتمعي والهندسة المعمارية والتخطيط المدني.

توزعت الأعمال على مسافات كبيرة، وهو ما يشجع الزوار على المشي لمسافات لاستكشاف ما يختبئ في طريقهم من أعمال وإعادة اكتشاف معالم المدينة الشهيرة، وللتوصل إلى كل الأعمال المعروضة، فاستخدام السيارة أمر ضروري، ولا سيما لزيارة واحة العين.

رحلة البحث

على كورنيش أبوظبي تنطلق رحلة البحث عن الأعمال الفنية، للتوصل لكل الأعمال يقترح دليل البينالي المشي لمدة ساعة، وفي الأجواء اللطيفة يصبح المشوار ممتعاً. في تتابع نمر أولاً على عمل الفنان أوسكار موريو الذي نفذ لوحة ضخمة يبلغ طولها 80 متراً على مساحة 1 في المائة من كورنيش أبوظبي، لتستكشف التوسع الحضري السريع الذي تشهده المدينة.

«برزخ» للفنان وائل الأعور في بينالي أبوظبي للفن عام 2025 - 2024 © لانس جربر

أما الفنان وائل الأعور فنرى من تنفيذه عمل «برزخ»، وهو مجسم ضخم يبدو لنا عن بعد، وكأنه شبكة من القطع البلاستيكية، يدخل الضوء من فتحاته ليخلق تركيبات مختلفة، ويمنح الزوار فرصة للتمهل داخله. بحسب بطاقة التعريف بالعمل، فالفنان يستجيب للتحديات البيئية المحلية والعالمية عبر استخدام ثلاث مواد، وهي البلاستيك المعاد تدويره وألياف النخيل المستخدمة في العمارة الإماراتية منذ قرون والمحلول الملحي، وهو ناتج ثانوي من عملية تحلية المياه يضر بالنظم البيئية البحرية عند تصريفه في الخليج. يبدو أن العناصر كلها تمثل الماضي واحتمالية مستقبل العمارة في الخليج عبر استخدام الموارد المحلية التي ترمز لها ألياف النخيل والبلاستيك المعاد تدويره، وتعالج القضايا البيئية الآنية مثل تأثير عملية تحلية المياه على البيئة البحرية.

عموماً العمل يستوقف الناظر، ويجذبه لداخله عبر تشكيلة بصرية جميلة، وهكذا يجد الزائر الفرصة للتفكير في المعنى خلف العمل.

عمل الفنانة فرح القاسمي «الحنين إلى الوطن» (بينالي أبوظبي للفن عام 2025 - 2024 © لانس جربر)

ليس بعيداً عن عمل الأعور نرى عملاً للفنانة الإماراتية فرح القاسمي التي تقدم تشكيلاً بصرياً خارجاً من أعماق جماليات البحر يحمل عنوان «الحنين إلى الوطن»، ويتكون من محارات ضخمة تنتظم في شكل دائري على منصة مرتفعة مغطاة بالرمال البيضاء، تحتفي الفنانة هنا بمهنة الغوص والبحث عن اللؤلؤ، وهي مهنة شكلت المشهد الاقتصادي والثقافي والاجتماعي للإمارات. إضافة إلى الشكل المرتبط بالبحر تضيف الفنانة بعداً جديداً، وهو الصوت، فهي جهزت كل محارة بمكبر صوت تبث جوقة من الأصوات الاصطناعية التي ألفتها من وحي أغنية «توب توب يا بحر» التي تغنيها زوجات الغواصين، بينما ينتظرن عودة الأزواج من رحلات الصيد.

عمل للفنان البرازيلي هنريك أوليفييرا أمام محطة الحافلات (بينالي أبوظبي للفن عام 2025 - 2024 © لانس جربر)

نتجه إلى محطة الحافلات الرئيسية، حيث توزعت أعمال عدد من الفنانين. يستوقفنا خارج المحطة مجسم على شكل شجرة متيبسة تفترش مساحة ضخمة من الرصيف الخارجي، وهو للفنان البرازيلي هنريك أوليفييرا وهو معروف باستخدامه للخشب المتآكل، الذي يحصل عليه غالباً من أسوار البناء الحضرية. تجمع ممارسات أوليفيرا بين الرسم والهندسة المعمارية والنحت، ويعمل على تحويل الخشب المهمل والمتداعي إلى أعمال عضوية وديناميكية، مما يعكس تداخل التدهور الحضري مع النمو الطبيعي.

أما زينب الهاشمي، وهي فنانة مفاهيمية إماراتية، فنرى من عملها رصيفاً حجرياً أمام المحطة، للوهلة الأولى لا نميزه فهو منسجم تماماً مع تصميم مباني المحطة وخارجها، ولكن الفنانة التي تعمل على تفكيك المحيط المعروف عبر التركيبات الفنية، استخدمت الشكل المألوف، وأضافت له العشب الأخضر، وكأنه جزء من المحيط العام لأرصفة المحطة، ولكنه ليس كذلك. فالهاشمي عرفت بالدمج بين العناصر الطبيعية والمصطنعة، لتسلط بذلك الضوء على تأثير التدخل البشري على البيئة، وتحث الناظرين على إعادة النظر في علاقتهم بمحيطهم.

فن في الحدائق العامة

في الحدائق العامة تتناثر أعمال الفنانين عبد الله السعدي، وهاشل اللمكي، ولورنس أبو حمدان، وقادر عطية، وخليل رباح، وسيما نصرت، ورامي قشوع × حرفيات الإمارات، وبافل ألتهامر، وناثان كولي، وآذار جابر، وألورا وكالزاديلا.

«بين الأشجار» للفنان خليل رباح في بينالي أبوظبي للفن عام 2025 - 2024 © لانس جربر

وفي سوق السجاد يتألق عمل الفنان كريستوفر جوشوا بنتون: «حيث تفرش سجادتي، يكون وطني (2024)»، وهو سجادة نابضة بالحياة مصنوعة من العشب الصناعي. طُوِّر هذا العمل بالتعاون مع أصحاب المحال في سوق السجاد في أبوظبي، وهو مستوحى من قصصهم وتجاربهم. تحولت السجادة فور تركيبها إلى مساحة مجتمعية حيوية تدمج بين الثقافة والفن المحليين وشهدت مرح الأطفال ولقاءات الأصدقاء.

كريستوفر جوشوا بنتون «حيث تفرش سجادتي يكون وطني» (بينالي أبوظبي للفن عام 2025 - 2024 © لانس جربر)

يُشكِّل بينالي إحدى الركائز الثلاث لمبادرة «أبوظبي للفن العام»، التي أعلنت عنها دائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي في مارس 2023. وتتضمَّن المبادرة تكليفات فنية مباشرة سنوية، ومعرض «منار أبوظبي» الفني الضوئي الذي يُعقَد كلَّ سنتين (استمرت النسخة الأولى من 15 نوفمبر 2023 إلى 30 يناير 2024)، إضافة إلى «بينالي أبوظبي للفن العام».